ليلى نقولا*

منذ بدء الحديث السياسيّ والإعلاميّ في الغرب عن حشود عسكرية روسية على حدود أوكرانيا، وقيام الأميركيين بإعطاء مواعيد للهجوم الروسي على أوكرانيا، ومع استمرار العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، يلاحظ المراقب أنّ هناك ما كان يوحي بوجود اندفاع غربي غير مبرر نحو الحرب والتصعيد الدراماتيكي، فكلّ التسويات والمساعي الدبلوماسية لم تؤدِ إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات لمعالجة الهواجس الأمنية الروسيّة، وإلى التعامل مع الطلبات الروسية بواقعية براغماتية تؤدي إلى تسويات تنقذ أوكرانيا والعالم من هول الحرب.

النظرة الأولى توحي بأنَّ الولايات المتحدة الأميركية هي المستفيد الأكبر من هذه الحرب، وخصوصاً إدارة الرئيس بايدن، التي كانت تحتاج إليها لتعويم الرئيس الذي يحظى بأدنى مستوى من التأييد الشعبي منذ سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى فشله في الملف الاقتصادي والهجرة على الحدود المكسيكية وغيرها. وزد على ذلك الانقسام الداخلي الأميركي والتهديد الذي يشكّله ترامب والتضخّم غير المسبوق الذي تلا جائحة كورونا.

في العادة، تعمد المؤسّسات الحاكمة في العديد من الدول التي تواجه مشكلات بهذا الحجم إلى تصدير أزماتها إلى الخارج. وقد لا تشذّ المؤسسة الحاكمة الأميركية عن هذا الأمر (انظر مقالنا في موقع الميادين في 22 كانون الأول/نوفمبر المنصرم: هل تفتعل أميركا حرباً لتفادي الانقسام الداخلي؟).

إذاً، هذا الموقف مفهوم بالنّسبة إلى الأميركيين الّذين لا تحصل الحرب على أرضهم ولا على مقربة منهم، لكن المستغرب كان موقف الاتحاد الأوروبي، الَّذي أبدى تصلّباً شديداً، وفرض الحدّ الأقصى من العقوبات التي تضرّ باقتصاده، كما تضرّ بالاقتصاد الروسي، وبدا أعضاؤه مندفعين إلى التّصعيد حتى قبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا.

وفي تحليل للأوضاع الاقتصادية والسياسية في الاتحاد الأوروبي والعالم، نجد أنَّ الأوضاع الّتي سادت خلال السنوات المنصرمة تؤشر إلى ما يمكن وصفه اليوم بظروف مشابهة لمقدمات الحروب العالمية السابقة:

يقدم هذا السّياق التاريخيّ الآتي نظرة إلى مقدمات الحروب، ويبحث في أسباب اندفاع الأوروبيين إلى التصعيد من وجهة نظر غير جيوبوليتكية، تسعى إلى فهم موقف قادة الاتحاد الأوروبي الساعي لتأجيج الصراع مع جارهم الروسي الذي يرتبطون معه بعلاقات اقتصادية، ويعتمدون عليه في استجرار الغاز، بدلاً من الذهاب إلى تسوية سلمية يخرج منها الجميع رابحاً.

ما هي مقدّمات الحروب الكبرى؟

1- عولمة وعصر ذهبيّ
تسبق الحروب الكبرى في العالم عادةً موجة ضخمة من التصنيع والتبادل أو ما يسمى العولمة التي تؤدي إلى الازدهار الاقتصادي، ومعها يكون هناك “عصر ذهبي” للإعلام والبنية التحتية والتجارة وما إلى ذلك… تزدهر الشركات الكبرى، ويحلّ التطور التكنولوجي، الأمر الذي يؤدي إلى تغيّر في سوق العمل، ما يؤدي إلى حدوث عجز في التوازن بين العرض والطلب على العمل. وبما أنَّ العرض أقلّ بكثير من الطلب، فإن الفرص الاقتصادية والطلب على العمالة (وخصوصاً العمالة الرخيصة) يشجّعان المهاجرين الاقتصاديين على الهجرة إلى البلدان الأكثر ازدهاراً وتصنيعاً.

2- فجوة طبقية وأزمة هُوية
نتيجة لهذه الموجة من العولمة والهجرة، يشهد المجتمع ارتفاعاً كبيراً في الاستهلاك، ما يسمح للشركات الكبرى بتحقيق أرباح هائلة، ويسبب فجوة طبقية بين طبقات المجتمع. يؤدي هذا المزيج المعقّد من التغييرات الجوهرية السريعة في المجتمع والدولة إلى “انعزال” الأشخاص الذين يشعرون بأنّهم لا يستطيعون مواكبة هذه التغييرات السريعة في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو احتواءها، الأمر الذي يخلق أزمة هُوية سياسية واجتماعية وثقافية.

3- ركود اقتصادي ونظريات مؤامرة
في وقت معيَّن، تنفجر الفقاعة، ما يؤدي إلى الركود والبطالة والكساد. تستغل وسائل الإعلام الأزمة للحفاظ على جمهورها، فتبث الأخبار الكاذبة، وتنتشر نظريات المؤامرة، وتزدهر الشعبوية.

4- الشعبوية – القومية
الركود يعمّق الأزمة ويخلق أزمة جديدة: الشعبوية التي تترافق مع فكر قومي متعصّب. يخرج الشعبويون (أمثال دونالد ترامب) مستغلّين الأزمة التي تغذي الكراهية، من خلال تعزيز نظريات المؤامرة وكراهية الأجانب والعنصرية ونشر الأكاذيب، ويصبّ هؤلاء غضبهم، ويحفزّون الجماهير ضد طرفين:

أ‌) ضد النخب السياسية، إذ يتهمونها بأنَّ حكمها السيئ هو ما أوصل المجتمع إلى كل هذه الأزمات.

ب) ضد المهاجرين الذين “سرقوا الوظائف” وغيّروا الثقافة، والذين يهدّدون الحضارة والهوية.

5- الحرب
عادةً ما يتراكم كلّ ما سبق ذكره من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية فيؤدي إلى حرب. وهكذا، ينشأ اقتصاد الحرب، فتنتفع به شركات السلاح والسياسيون الذين يعيدون بناء استثماراتهم وثرواتهم من خلال الاستثمار بالحرب.

لا تشذّ مقدمات الحربين العالميتين الأولى والثانية عن هذا السّياق، فنجد أنَّ العصر الذهبي في نهاية القرن التاسع عشر، وتوسع الاستعمار بحثاً عن أسواق، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل الدول الصناعية، انفجرت كلها على شكل حرب كبرى. أما الحرب العالمية الثانية، فسبقتها موجة الكساد العالمي في العام 1929، ثم أدّت التطورات وارتفاع الشعبوية اليمينية – القومية وسباق النفوذ والتسلح إلى انفجارها.

أما اليوم، وإذا نظرنا إلى التطورات العالمية منذ التسعينيات، فإنَّ العولمة التجارية وعولمة الاتصالات والتكنولوجيا، ثم الهجرة الاقتصادية، سواء تلك الطوعية أو القسرية، عبر التشجيع على هجرة العمالة غير المحترفة من الشرق الأوسط، والتي لا تنافس اليد العاملة الأوروبية (موجة لجوء السوريين وغيرهم)، وتأثير ذلك في المجتمعات الأوروبية وارتفاع اليمين الشعبوي… كلّها عوامل تشي بأنَّها مقدّمات شبيهة بمقدمات الحروب الكبرى.

ومن دون أن نغفل عوامل الجيوبوليتيك المرتبطة بالصراع العالمي وسباق النفوذ، يمكن الإشارة إلى الركود الّذي سبّبته موجة كورونا، كفقاعة محفّزة للحرب، كما كان الكساد العالمي أحد أسباب الحرب العالمية الثانية.

في كلِّ الأحوال، مهما كانت نتيجة الحرب في أوكرانيا، ستكون أوروبا أحد أبرز الخاسرين من هذه الحرب، فالقارة هي مسرح الصراع، وموجة اللجوء الجديدة، والتهديدات المتبادلة، وتوقّف الاستثمار الروسي في الدول الأوروبية، والكلفة الاقتصادية المترتبة على الانخراط في العقوبات، لن تكون من دون تداعيات.

* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع