السياسية:

فلاديمير لينين كان قائداً للثورة البلشفية في روسيا، ويوجد للزعيم نحو ألفي تمثال على الأراضي الروسية حتى اليوم. أما في أوكرانيا فكان يوجد للينين أكثر من 5 آلاف تمثال!

نعم، الرقم صحيح كما قرأتموه! فقصة تماثيل لينين على الأراضي الروسية والأوكرانية تجسيد للعلاقة بين البلدين، وهي علاقة الإخوة الذين أصبحوا أعداء بفعل الزمن وبفعل عوامل أخرى متعددة.

يتناول التقرير المطول الذي نشره موقع عربي بوست ،قصة أوكرانيا التي تشغل بال الجميع حول العالم هي قصة الصراع بين روسيا والغرب بقيادة أمريكا، بعدما وقع المحظور وتوغلت القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية فيما تتسع رقعة الحرب بصورة تشبه ما حدث في الحرب العالمية الثانية، وهذه ليست مبالغة.

فالحرب الدائرة الآن نسجت فصولها قبل عدة سنوات وليس وليدة اللحظة فالعلاقة العضوية بين روسيا وأوكرانيا تمثل أصل الصراع الحالي من جهة، بينما يمثل طموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأوضاع الداخلية الصعبة لنظيره الأمريكي جو بايدن جوهر هذه الجولة من الصراع المشتعل على نار هادئة منذ عام 2013 على الأقل، والآن ندخل إلى تفاصيل تلك الأجزاء المتناثرة من القصة حتى تتضح الصورة الكاملة.

*كيف تحولت أوكرانيا من أخ إلى عدو؟

تاريخياً وقبل عام 1991، لم تكن أوكرانيا دولة مستقلة كما هو الحال اليوم، إذ كانت تلك المنطقة من أوروبا الشرقية والمتاخمة لروسيا، عرضة للتقسيم بين الإمبراطوريات المختلفة، سواء المجرية أو السلوفاكية أو روسيا القيصرية، وفي عام 1917 تم إعلان جمهورية الشعب الأوكراني للمرة الأولى تاريخياً، لكنها كانت تضم فقط الأقاليم الشرقية من أوكرانيا الحالية.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تم دمج الأقاليم الغربية من أوكرانيا إلى جمهورية الشعب الأوكراني وانضمت أوكرانيا- وكان اسمها جمهورية أوكرانيا السوفييتية الاشتراكية- إلى روسيا وروسيا البيضاء وشكَّلا معاً نواة اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، أو الاتحاد السوفييتي كما بات معروفاً إعلامياً.

تبلغ مساحة أوكرانيا نحو 604 كم مربع، وهي ثاني أكبر دول القارة الأوروبية مساحة بعد روسيا، كما يبلغ عدد سكانها أكثر من 41 مليون نسمة وتأتي في المركز الثامن أوروبياً من حيث عدد السكان، وعاصمتها كييف. وتعد أوكرانيا من الدول النامية، وهي أفقر دول أوروبا على الإطلاق وتعاني من الفساد المستشري فيها بصورة ضخمة.

لكن توجد في أوكرانيا بعض الأمور التي تجعل لأزمتها الحالية تأثيراً مباشراً على بعض الشعوب العربية، مثل مصر ولبنان والسودان، والتي تعتمد بشكل كبير على القمح الأوكراني، إذ تعتبر أكبر مصدر للقمح في العالم وبعد اندلاع الحرب أصبح الأمر أكثر صعوبةً.

وبالعودة للماضي فعندما تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، اختار الأوكرانيون الاستقلال وفضَّلوا عدم الانضمام لروسيا وروسيا البيضاء في اتحاد فيدرالي تم اقتراحه وقتها.

وهكذا تم إعلان الاستقلال وأصبح اسمها أوكرانيا، وقررت تبني سياسة الحياد، فقد وقَّعت اتفاقية شراكة مع روسيا، لكنها أيضاً وقعت عام 1994 اتفاقية شراكة مع حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو)، وهنا بدأت قصة الصراع في الاختمار شيئاً فشيئاً، فالأخوة بين روسيا وأوكرانيا باتت على وشك التحول إلى علاقة جافة.

ومنذ عام 2014 وعندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم ودعمت تمرداً انفصالياً في شرق أوكرانيا، حينها بدأ العداء بين الإخوة يأخذ منحنى تصاعدياً.

إذ كانت لروسيا والغرب تفسيرات مختلفة جداً للتطورات في أوكرانيا. فقد اعتبرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن ما يحدث هناك انتصار للديمقراطية، بينما نظرت روسيا إلى الإطاحة بالرئيس الأوكراني يانكوفيتش على أنها انقلاب غير شرعي مدعوم من الغرب- خاصةً الولايات المتحدة- في محاولة لتوسيع نفوذها شرقاً.

وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.

ووجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، مما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى، وهكذا تم التوصل إلىاتفاقيات مينسك، ولتلك الاتفاقيات قصة تستحق أن تروى.

*اتفاقيات مينسك والوساطة بين الإخوة الأعداء

منذ ذلك الوقت، أصبحت أوكرانيا أو بمعنى أكثر دقةٍ الحكومة الأوكرانية المدعومة من الغرب، في حالة عداء مفتوح مع روسيا، إذ كانت النظرة من تلك الحكومة ومن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الانتفاضة الانفصالية في شرق أوكرانيا على أنها مشاركة روسية قتالية مباشرة في الصراع.

لكن موسكو من جانبها، رسمت هذه الانتفاضة بالمصطلحات نفسها التي استخدمها الغرب في منطقة الميدان الأوروبي؛ أي رفض شعبي لحكومة أوكرانية لا يدعمها المواطنون المحليون ويعتبرونها غير شرعية.

هذه التفسيرات العلنية المختلفة بين روسيا والغرب حول أصول الصراع الأوكراني أعاقت بدورها عملية الوساطة لحل النزاع من البداية، أو ربما كانت المشكلة في أطراف الوساطة أنفسهم.

فبعد الأشهر الأولى من القتال بمنطقة دونباس، أُنشِئَت صيغة تفاوضية في يونيو/حزيران 2014، في شكل مجموعة الاتصال الثلاثية بشأن أوكرانيا، التي تألفت من ثلاثة أطراف- هي أوكرانيا وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا- بصفتها الوسطاء. وبالتوازي مع مجموعة الاتصال الثلاثية، وُضِعَت صيغة تفاوض أخرى في الشهر نفسه في شكل “رباعية نورماندي”، التي شملت أوكرانيا وروسيا بصفتهما الأطراف، مع ألمانيا وفرنسا بصفتهما وسطاء.

وكان العامل الأكثر تعقيداً في عملية الوساطة لكل من مجموعة الاتصال الثلاثية ومجموعة نورماندي الأربعة هو دور روسيا في الصراع الأوكراني. إذ عكس القرم، لم تتدخل روسيا تدخلاً عسكرياً رسمياً في شرق أوكرانيا. وبدلاً من ذلك، شاركت روسيا في الصراع بطريقة غير مكشوفة، فزودت الانفصاليين سراً بالأسلحة ونشرت الآلاف من الأفراد العسكريين والأمنيين لدعم القوات الانفصالية.

وكان لهذا آثار مهمة في عملية الوساطة، فوفقاً لروسيا، كان الصراع في أوكرانيا حرباً أهلية بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين، وبالتالي دعت موسكو إلى المشاركة المباشرة لممثلي جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوهانسك الشعبية (الإقاليم الانفصالية المدعومة من روسيا في دونباس) في المفاوضات.

بينما وفقاً لموقف كييف، المدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كانت الحرب نزاعاً دولياً بين أوكرانيا وروسيا، حيث عمل الانفصاليون وكلاء لروسيا. وعلى هذا النحو، لم تقبل أوكرانيا إجراء مفاوضات مباشرة مع الانفصاليين، معتبرةً مشاركتهم بمثابة اعتراف بشرعيتهم السياسية.

وعلى الرغم من هذا الغموض، أفرزت المفاوضات اتفاقاً لإنهاء النزاع، وهو المعروف باسم بروتوكول مينسك، في سبتمبر/أيلول 2014. كان بروتوكول مينسك اتفاق سلام طموحاً، ومع ذلك، فقد انهار على الفور تقريباً، مع عدم التزام أي من الطرفين بوقف إطلاق النار. وبُذلت جهود وساطة متجددة لإنهاء النزاع في وقت مبكر من العام التالي، وهذه المرة مع الإدراج الرسمي لفرنسا وألمانيا باعتبارهما وسيطين إلى جانب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عملية مينسك.

وأسفرت هذه الجهود عن اتفاق مينسك الثاني، الذي كانت أحكامه مشابهة إلى حد كبير لتلك الخاصة بمينسك الأول، على الرغم من وجود تفاصيل أكثر تحديداً حول جوانب مثل انسحاب القوات والأسلحة من خط الاتصال. ومع ذلك، لم يُنفَذ بروتوكول مينسك 2، وانهار وقف إطلاق النار بعد وقت قصير من التوقيع، متأثراً كثيراً أيضاً بتفسيرات مختلفة لتسلسل التنفيذ.

* كيف تطور الموقف الروسي من أوكرانيا؟

لنتوقف قليلاً هنا وننتقل لرواية القصة من وجهة النظر الروسية، وتحديداً من خلال تفكير فلاديمير بوتين نفسه وكيف يرى أوكرانيا والصراع برمته. إذ ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن الفصل الحالي من الأزمة الأوكرانية مع مرور 30 عاماً على سقوط الاتحاد السوفييتي، فالأزمة الأوكرانية الحالية في الأساس أزمة جيوسياسية.

فبوتين يريد أن يجبر حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، وهذا الموقف ليس جديداً أو حتى سراً، فقد أعلنه الرئيس الروسي في أكثر من مناسبة ووجَّه كلامه للقادة الغربيين مباشرة، طالباً منهم احترام الوعود التي قدمتها دولهم لروسيا قبل 3 عقود بأن الحلف العسكري الغربي لن يتمدد شرقاً بوصة واحدة.

وكان موقع Responsible Statecraft الأمريكي قد تناول الأزمة الجيوسياسية الأوسع للصراع في أوكرانيا وما حولها، وذلك في تقرير عنوانه “بوتين يرسم خطاً أحمر جديداً لمنع الناتو من التوسع شرقاً إلى أوكرانيا”، رصد وثائق أمريكية وسوفييتية وأوروبية رُفعت عنها السرية مؤخراً، وكشفت كيف أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر، أكَّد للرئيس السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1990، أن الناتو لن يتوسع “بوصة واحدة” شرق ألمانيا، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.

لكن بعد ثلاثين عاماً، وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 2021، تحوَّل هذا الخط الأحمر من بوصة واحدة إلى نحو 965 كيلومتراً، بعد أن قال فلاديمير بوتين إنه يسعى الآن للحصول على وعد بأنَّ حلف الناتو لن يتوسع شرقاً إلى أوكرانيا، ولم يكن تراجع روسيا 965 كيلومتراً عن الخط الأحمر لآخر قادة الاتحاد السوفييتي

غورباتشوف عن طيب خاطر بالتأكيد، لذلك يرى بوتين الآن أنه بات بمقدوره أن يرسم خطاً أحمر جديداً؛ سعياً وراء “ضمانات أمنية موثوقة وطويلة الأجل”، وهذا هو لب الصراع الحالي في أوكرانيا وحولها.

ويرى كثير من المحللين أن جذور الأزمة الحالية بأوكرانيا تكمن في الكيفية التي انتهت بها الحرب الباردة وما خلَّفته في نفوس الأمريكيين من جهة والروس من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن تلك الحرب انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، فإن الروس لا يرون أن ذلك يعني هزيمتهم وانتصار الأمريكيين.

لكن على الجانب الآخر، يتصرف الأمريكيون كما لو أنهم حققوا الانتصار في الحرب الباردة وينتظرون من الروس أن يتصرفوا كما يتصرف المهزومون، ويدلل على ذلك الكيفية التي توسع بها حلف الناتو في أوروبا الشرقية، عكس ما كان يُفترض أن يحدث، فحلف الناتو كان يقابله حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي، وبالتالي فإن أي توسُّع في حلف الناتو تعتبره روسيا تهديداً لها.

* وقد شهدت العقود الثلاثة الماضية تطورين مهمين للغاية في هذه القصة:

التطور الأول هو أنّ حلف الناتو بدأ في ضم أعضاء جدد حتى ارتفع العدد من 16 دولة إلى 30، وانضمت دول من الكتلة الشرقية أو الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى عضوية الحلف العسكري الغربي.
أما التطور الثاني فهو سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي الجديد وليس فقط على حلف الناتو، وفي المقابل حاولت روسيا بقيادة بوتين، خلال العقدين الماضيين، استعادة بعض من قوة ونفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، لتصبح أوكرانيا ساحة إثبات الذات الأخيرة لروسيا وبوتين، خصوصاً بعد الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش الموالي لبوتين عام 2014.
إذ تعتبر أحداث عام 2014 بداية الأزمة الأوكرانية، أو بمعنى أكثر تحديداً بداية العودة لأجواء الحرب الباردة من جانب الرئيس الروسي بوتين، لأنه اعتبر الإطاحة بيانوكوفيتش هزيمة سياسية شخصية في معركته للاستحواذ على النفوذ بأوكرانيا، وهو ما غيّر معادلة التصرفات الروسية منذ ذلك الوقت.

ويرى بوتين أن الغرب ساعد مسلحين وسمح لهم بتوجيه الأحداث في العاصمة الأوكرانية كييف في ذلك الوقت، وهو ما أدى إلى الإطاحة بالرئيس المنتخب، وحمَّل بوتين الغرب مسؤولية تهييج المشاعر في كييف وتشجيع المعارضة على خرق الاتفاقات الرامية إلى استعادة السلام والسماح لمن تصفهم موسكو بأنهم “متطرفون” و”فاشيون” بإملاء التطورات السياسية في أوكرانيا.

ومن هذا المنطلق، قرر بوتين إرسال الجيش الروسي إلى أوكرانيا، تحت ذريعة حماية مصالح وطنية روسية ومصالح مواطنين روس، ومن المهم هنا ذكر أن روسيا في ذلك الوقت (عام 2014)، حشدت أكثر من 150 ألف جندي ووضعتهم في حالة تأهب قرب حدود أوكرانيا، نفس الأمر الذي تكرر هذه المرة ولكن الفرق أن بوتين نفذ وعيده فعلاً ودخل أوكرانيا.

وبالعودة إلى تسلسل الأحداث في تلك الأزمة والتي انتهت بضم روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، نجد أن بوتين ظل ملتزماً الصمت فيما يتعلق بأوكرانيا عندما تمت الإطاحة بالرئيس يانكوفيتش، ودفع ذلك الصمت وقتها التكهنات بشأن غزو روسي وشيك لأوكرانيا لتصدُّر التوقعات، وسط تهديدات أمريكية- من جانب الرئيس الأسبق باراك أوباما- بفرض عقوبات على روسيا إذا ما أقدمت على غزو أوكرانيا فعلاً.

ووقتها بنى بوتين حساباته على أساس أن أوباما ليست لديه أدوات ضغط تُذكر وليس مستعداً لخوض حرب بسبب شبه جزيرة نائية في البحر الأسود لها أهمية رمزية واستراتيجية لروسيا، لأنها تضم قاعدة بحرية روسية وليست لها قيمة اقتصادية تُذكر، ووقتها أيضاً تحدث الرئيسان بوتين وأوباما لمدة 90 دقيقة عبر الهاتف، وبدا أن تلك المكالمة كسرت بعض الجمود، وكان بوتين وقتها يريد الخروج بأي شيء من معركة أوكرانيا، لكن “الغرب قال لبوتين أن يغرب عن وجهه فيما يتعلق بأوكرانيا”، بحسب ما قاله لـ”رويترز” سيرجي ماركوف المحلل السياسي المؤيد لبوتين ومدير معهد الدراسات السياسية في موسكو.

وقتها حقق بوتين شعبية ضخمة بين الناخبين، خاصةً القوميين الروس، خصوصاً أن القرم كانت أرضاً روسية تنازل عنها الزعيم السوفييتي الراحل نيكيتا خروشوف عام 1954 لأوكرانيا. وارتفعت مكانة بوتين بالداخل الروسي في ظل موجة من الاستياء بين القوميين، بسبب محاولات للحد من استخدام اللغة الروسية في أوكرانيا واضطهاد الروس في بلد يرى كثيرون أنه يمثل امتداداً لبلدهم.

وفي لقطات تذكّر بما كان يحدث أيام الحرب الباردة، ينقل التلفزيون الرسمي في روسيا لقطات من ميدان في كييف، عاصمة أوكرانيا، لمواطنين يقومون بتدمير تمثال يرجع تاريخه إلى الحقبة السوفييتية، بينما يعلق المذيعون والمذيعات على ذلك بالقول إن كل ما له علاقة بالحقبة السوفييتية يتم تدنيسه في أوكرانيا.

وما أشبه اليوم بالبارحة، إذ كان التلفزيون الروسي يبث عام 2014 لقطات من الدوما (البرلمان) يتهم فيها متحدثون واشنطن بتجاوز خط أحمر بتحذيرها من أن موسكو ستدفع “ثمن” تدخلها في أوكرانيا، ولقطات متتالية للمحتجين المؤيدين للروس يرفعون العلم الروسي فوق مبانٍ إدارية في عدة مناطق بشرق أوكرانيا.

وتهدف هذه المواد الإعلامية إلى تأجيج المشاعر الوطنية بين الروس وتهيئتهم كي يروا الأزمة بعيون الرئيس بوتين. ويبدو أن تلك الاستراتيجية ناجحة إلى حد كبير حتى الآن، إذ يعتقد غالبية الروس أن بوتين مُحِقٌّ في موقفه من أوكرانيا وحلف الناتو والغرب بشكل عام، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.

غالبية الروس، من وجهة نظرهم، يرون الأزمة الأوكرانية بعيون الرئيس بوتين، الذي بدوره يراها فرصة سانحة لإعادة صياغة نهاية الحرب الباردة والتأكيد على أن روسيا ليست دولة مهزومة كي تخضع لإرادة الولايات المتحدة كطرف منتصر. ولا يعني هذا بالضرورة حتمية إقدام روسيا على غزو أوكرانيا.

* ماذا عن فعل الغرب في أزمة أوكرانيا؟

إذا تركنا الإخوة الذين باتوا أعداء واتجهنا إلى واشنطن لنرصد الأزمة بعيون ساكن البيت الأبيض لوجدنا عدة مؤشرات تستدعي التأمل وتستحق التحليل. فالرئيس جو بايدن أصدر تصريحات بشأن الأزمة الأوكرانية أضعاف أضعاف ما صدر من تصريحات على لسان بوتين ورئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي نفسه، لكن عندما اندلع الحرب اكتفى الرئيس الأمريكي بفرض عقوبات اقتصادية وقال “لن نرسل قوات إلى أوكرانيا”

ردود الفعل الغربية حتى الآن مثلت خيبة أمل بالنسبة للأوكران، فقد هاجم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في ساعة مبكرة من الجمعة 25 فبراير/شباط 2022، بشدة ردود الفعل الدولية تجاه الهجوم الروسي على بلاده، مؤكداً أن العقوبات المفروضة على روسيا غير كافية، متهماً الغرب بترك أوكرانيا وحدها في مواجهة روسيا.

زيلينسكي الذي بدا غاضباً وغير راضٍ عن رد الفعل الأوروبي، قال إن العالم يواصل مشاهدة ما يحدث في أوكرانيا من بعيد، مؤكداً أن العقوبات الجديدة التي فرضتها كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا “لم تقنع روسيا”.

وتساءل زيلينسكي قائلاً: “من مستعد للقتال معنا؟ لا أرى أحداً، من مستعد لأن يعطي أوكرانيا ضمانة بالانضمام إلى الناتو؟ الجميع خائفون”.

واعتبر زيلينسكي أن الزعماء الـ27 في أوروبا خائفون، قائلاً: “جميعهم خائفون بينما نحن لا نخاف، ولا نخشى الحديث حول الوضع الحيادي مع روسيا، لكن ما هي الضمانات الأمنية التي ستقدَّم لنا؟ من سيضمن ذلك؟”.

وأكد الرئيس الأوكراني أنه يتعين الحديث عن “نهاية الاحتلال المتواصل”. وأضاف: “لكن مصير بلادنا الآن يعتمد كلياً على جيشنا وقواتنا الأمنية”.

في الوقت ذاته أكد زيلينسكي أنه على رأس عمله، مشيراً إلى تلقيهم معلومات بأن “العدو” جعله الهدف الأول، وأسرته الهدف الثاني، مضيفاً أنهم “يريدون القضاء على أوكرانيا سياسياً عبر القضاء على رئيس الدولة”.

* الخلاصة في قصة الأزمة الأوكرانية

هذه التفسيرات المختلفة للنزاع الأوكراني- فيما يتعلق بأصوله وتسلسل طرق حله- تدعم المواجهة الحالية بين موسكو والغرب حول أوكرانيا، لكنها تشير أيضاً إلى شيء أعمق كثيراً يقود هذه المواجهة، وهو صدام في وجهات النظر العالمية لروسيا والغرب حول الهيكل الأمني ​​بأكمله في أوروبا.

* فالموقف الآن هو على النحو التالي:-

حرب عسكرية طاحنة تجري في أوكرانيا في الوقت الذي تكافح فيه العاصمة كييف الصمود ولو لفترة قصيرة.
ما كان يريده بوتين قبل الغزو هو ضمانات قانونية ملزمة بأن أوكرانيا لن تصبح يوماً عضواً في حلف الناتو، وسحب الحلف أسلحته الهجومية من دول البلقان وبحر البلطيق وأوروبا الشرقية بشكل عام، لكن الوضع الآن تغير وأصبح الهدف هو تنصيب نظام سياسي موال لموسكو في كييف ويكون بعيداً عن الغرب.
ما تريده الحكومة الأوكرانية الآن هو الجلوس على طاولة المفاوضات مع روسيا بعد اندلاع الحرب.
خذلت أوروبا وأمريكا أوكرانيا بعد إطلاق أول رصاصة في هذه المعركة التي لا يعرف إلى أين ستمضي.
الحرب في أوكرانيا في ظل هذه الظروف وبعد التراجع الغربي عن دعم كييف قد يفتح شهية بعد الدول لحسم بعض الملفات العالقة أو ما يمكن قوله بالحروب المؤجلة مثل الخلاف بين الصين وتايوان أو الصرب والبوسنة أو حتى إيران وبعض دول الخليج.
تغيرت المعادلة السياسية بعد أول طلقة خرجت من فوهة المدافع وبات كل ما يرجوه العالم أن يرجع بويتن عن الحرب فيما بات كل طموح الأوكرانيين العاديين هو النوم بسلام بعيداً عن أصوات الرصاص بعدما لجأوا إلى محطات القطار للاختباء من قوات بوتين.