صراع الهوية… حكاية طرابلس اللبنانية مع وصمة التطرف
السياسية:
خلال الحرب الأهلية اللبنانية اختبرت طرابلس “تجربة الإمارة” للمرة الأولى، وقد تكون الأخيرة على يد حركة التوحيد بقيادة الشيخ سعيد شعبان. آنذاك، أزيل تمثال عبد الحميد كرامي بما يجسده من رمز للإسهام في الاستقلال اللبناني، ليحل مكانه تمثال لفظة الجلالة، الذي يتذيل عبارة “قلعة المسلمين طرابلس”. هذه التجربة التي حاولت تكريس هوية أحادية للمدينة، شهدت على غرس بذور الفرقة بين أبناء الفيحاء على أساس عقائدي، تمهيداً لحقبة “المظلومية الثقافية”، التي تعمقت في ظل “التهميش الاقتصادي والسياسي” في المدينة التي اعتبرت “الأفقر على حوض البحر الأبيض المتوسط”.
شكلت مرحلة الحرب الأهلية تحولاً في مسيرة المدينة التي شكلت طوال ألف عام مساحة للتعايش بين أبناء الديانات السماوية الثلاث، ولا تزال شوارعها، وأزقتها، وكنائسها وزواياها شاهدة على التنوع الثقافي والاجتماعي. مذاك، تعاني المدينة “المحافظة على تراثها وهويتها” وسط تهمة “الحاضنة للمجموعات المتطرفة”، و”صندوق الرسائل بين الجماعات السياسية المتناحرة”.
يؤكد الشيخ نبيل رحيم، ناشط إسلامي، أن “ما شهدته المدينة آنذاك لم يكن صراعاً في الحقيقة بين أبناء المدينة على أساس ديني، وتحديداً بين السنة والعلويين، بل كان في حقيقته صراعاً بين ياسر عرفات وحافظ الأسد على الساحة الطرابلسية، إذ قام كل فريق بدعم مجموعة من أجل تحقيق المكاسب الخاصة به. ومع رجحان الكفة لصالح الأخير، شهدت المدينة مجازر قام بها النظام السوري ضد الآمنين. ويمكن التأكيد أن طرابلس حددت موقفها في تلك المرحلة من المشهد الإقليمي العام، أقله على الصعيد الوجداني لأن المدينة حرمت حتى 2005 من التعبير الحر عن خياراتها الكبرى.
مسيرة حافلة بالأحداث على وقع التوتر الإقليمي
هذه الواقعة، التي تعود إلى أواسط ثمانينيات القرن الماضي لم تمر مرور الكرام في تاريخ المدينة، وإنما لعبت دور البوصلة في تحديد موقعها التي بقيت حية بالذاكرة، وما لبث أن استثمرها الخصوم في وصم طرابلس بـ”الحاضنة لمجموعات متطرفة”. وقد تجاهل مروجو هذه التهمة الخوض في التفاصيل التي تحدد مكامن العلاقة بين عاصمة الشمال، والدولة اللبنانية المركزية، وصولاً إلى حقبة التهديد بمقاطعة النظام، وخطر الانسحاب السني من المشهد السياسي اللبناني، بعد أن كانت طائفة مؤسسة وميثاقية.
وفي سياق السرد التاريخي للأحداث، يشير الباحث أحمد الأيوبي، المتخصص في الحركات الإسلامية، إلى محطات رئيسة، ظهرت فيها التنظيمات الإسلاموية على سطح الأحداث، وبصور مختلفة، إذ كانت البداية مع أحداث الضنية في عام 2000، مع جماعة التكفير والهجرة التي هربت من بطش الجيش السوري إلى الجبال بعد حملة الاعتقالات والتضليل، ولم تتجاوز أعدادهم العشرات، والتي “باعها لاحقاً النظام للغرب تحت حجة محاربة الإرهاب”، أما المحطة الثانية “الظهور المفاجئ لفتح الإسلام التي خرجت هيكليتها القيادية من سجون النظام السوري، وبعد حسم الجيش اللبناني المعركة اختفى شاكر العبسي ولم يعرف له أثر، فيما أوقف للشبهة عشرات الشباب”.
يضيف، “في أعقاب أحداث 7 مايو (أيار) في بيروت، وغزوة حزب الله، تحولت طرابلس إلى صندوق بريد ودامت لسنوات الصدامات بين جبل محسن وباب التبانة”، و”تبنت الدولة اللبنانية تعريف حزب الله للإرهاب في أعقاب اندلاع الثورة السورية، والتعامل مع كل من يعارض الحزب وإيران والنظام السوري بالإرهاب حتى وإن لم يرتكب أي فعل إجرامي على الأراضي اللبنانية”، وصولاً إلى “اختفاء نحو 30 شاباً من طرابلس وظهورهم لاحقاً في العراق بعد التحاقهم بتنظيم داعش”.
هذا الإيجاز التاريخي، يطرح إشكالية كبيرة حول الأسباب التي تجعل من هذه المدينة التي تعتبر كبرى المدن السنية في لبنان، محطة للتوتر عند المفاصل التاريخية. ويتخوف أحمد الأيوبي من أن يكون مصير طرابلس مشابهاً لمصير الموصل في العراق، لناحية “نجاح جماعات مخترقة استخباراتياً في التحصن في المدينة التاريخية القديمة، ووقوع صدامات مع الجيش اللبناني، وصولاً إلى تدمير آخر الحواضر الإسلامية على البحر المتوسط، بعد دمار الإرث في بغداد، والموصل، وحمص، وحلب ودمشق”. لكنه في المقابل، يعبر عن اطمئنانه للكلام الذي صرح به قائد الجيش اللبناني جوزيف عون من دار الإفتاء في طرابلس نهار الثلاثاء 8 فبراير (شباط)، بأن “طرابلس ليست عاصمة للإرهاب، وعن الاستعداد لإنتاج حل لقضية المغرر بهم”. ويحمل الأيوبي التنظيمات الإسلامية مسؤولية إهمالهم (فقه المعاملات)، وعدم اهتمامهم بالقضايا التي تهم الشباب، وبالنتيجة تركهم عرضة للاصطياد من قبل التيارات المتطرفة.
يلفت الأيوبي إلى نقطة مهمة في ملف هروب الشباب للالتحاق بـ”داعش”، “خرج هؤلاء سراً، من دون معرفة ذويهم أو المحيطين بهم، وهذا يؤكد أنه لا توجد بيئة حاضنة لهم، وإلا خرجوا علانية من دون خوف من الملاحقة والقمع. كما أن أعدادهم الضئيلة، وتجنيدهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ينبئان بتغيير آليات الاجتذاب، إلى الخطاب البراق الذي يعتمد على التقنيات الدعائية والبروباغندا، كما تلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتواصل فرق مع الأشخاص الأكثر قابلية للتجنيد والإغراء بالمال والدولار من أجل الهروب”.
من جهته، يتحدث الشيخ نبيل رحيم عن استغلال الحماسة لدى الأطفال الصغار والشباب عديمي الخبرة بتجارب السابقين الذين تعرضوا للخيبات على يد تلك التنظيمات. كما يتطرق إلى خلفية الشباب الذين خرجوا فهم إما يعانون الفقر، أو الأوضاع الاجتماعية غير المستقرة، وتم تجنيدهم ليدفعوا ثمن الخلافات السياسية، كما حدث في تجربتي فتح الإسلام في نهر البارد، والصراع بين “8 و14 آذار”.
الهوية المحافظة ليست نقصاً
حافظت طرابلس على هويتها المحافظة منذ ضمها إلى دولة لبنان الكبير في الأول من سبتمبر (أيلول) 1920. وهذا الأمر جعلها عبر التاريخ عرضة للتهميش من قبل الدولة المركزية في لبنان. هذه الملاحظة يستهل بها إيهاب نافع، المسؤول السياسي في الجماعة الإسلامية، حديثه عن اتهام طرابلس بـالحاضنة للتطرف، مكرراً أن “ظهور عشرات الأشخاص ممن يتبنون أفكاراً منحرفة لا يعني أن المدينة مأوى للإرهاب والتطرف”. ويلجأ نافع إلى المعادلة الكمية، “فالمدينة يقطنها 800 ألف مواطن، تتبنى الأغلبية الساحقة منهم فكراً معتدلاً، لا يمكن إلا لجاهل أو حاقد اتهامها بما ليس فيها. ويستشهد نافع بالتعايش الإسلامي – المسيحي المستمر عبر التاريخ، وعدم تعرض أي معلم مسيحي عبر التاريخ للاعتداء حتى في صلب الحرب الأهلية اللبنانية”.
وحول الانتقادات التي توجه إلى الجماعة والتنظيمات السنية بأنها تنسحب من ساحة المواجهة السياسية، وعدم الوقوف ضد المظلومية التي يعانيها المجتمع الإسلامي، يتمسك نافع بابتعاد الجماعة عن الخطابات الإسلامية الشعبوية التي “تكسب في السياسة والانتخابات”، لأنها “لا يمكنها تحمل مسؤولية سفك دماء المواطنين”، “وقد حملت السلاح من خلال قوات الفجر في صيدا عندما اجتاح العدو الإسرائيلي جنوب لبنان، واعتزلت الحرب الأهلية اللبنانية، ولم تكن في موقع الهجوم”. كما أن “الجماعة تقوم بجهود في المجالات الإغاثية بالمناطق الفقيرة، وتحاول رفع المستوى الفكري والثقافي من خلال المؤسسات التربوية والدعوية التي تمتلكها”.
يؤكد نافع “أن الجماعة ستعود إلى المشهد السياسي من بوابة طرابلس خلال الانتخابات المقبلة، وستحاول تقديم مشروع لخدمة الناس في البرلمان”، نافياً تحول الجماعة إلى “تنظيم برجوازي” لأنها موجودة في قلب المناطق المحرومة، وتقدم الخدمات على قدر إمكاناتها.
الفزاعة السلفية
ومن التهم التي توجه إلى مدينة طرابلس أنها حاضنة للحركات السلفية. ينطلق الشيخ صفوان الزعبي من وجود شبهة بين الحركات السلفية العلمية، ونظيرتها الجهادية التي تنظر إليها المدرسة السلفية بأنهم “خوارج عن المنهج السلفي الذي تعود أصوله إلى العهد النبوي”. ويعتقد الزعبي أن التنظيمات المتطرفة لا تستغل فقط عامل الفقر، ولكن هناك شغل مكثف على الشق الفكري، إذ يقومون من خلال أشخاص متمرسين بغسل دماغ الشباب الصغار، ويسيطرون على عقولهم، وهذه المرة من خلال التلغرام أو المسنجر، والإنترنت. ويعطي مثالاً على ذلك، أن “أشخاصاً يعيشون في البلدان الغربية التي تعيش الرفاهية، التحقوا بداعش”، وينفي تهمة تخريج المعاهد الشرعية المتطرفين، لأنه “من خلال تتبع سيرة من التحق بالتنظيمات المتطرفة، لا نجدهم من خريجي المعاهد الشرعية، وإنما من قليلي المعرفة والخبرة العلمية”. وينبه الزعبي إلى اتجاه التنظيمات لتجنيد أشخاص غير ملتزمين دينياً، لافتاً إلى “استعداد المعاهد الشرعية المؤسسة من خارج عباءة دار الإفتاء لعرض مناهجها على الجهات الشرعية والحكومية للتدقيق فيها والتأكد من سلامتها”.
يتحدث الزعبي عن “وضوح في طروح الجماعة السلفية، فهي لديها مباحث في الجهاد والتكفير، ولكن ضمن ضوابط شديدة كإنكار ضرورة من ضرورات الدين”، وهي “ترحب بتأسيس دولة إسلامية في لبنان شرط وجود أكثرية حاسمة في البلاد تطالب بذلك، لا أن يكون على سبيل الفرض”، معبراً عن رفض الدعوة السلفية تأسيس دولة إسلامية من دون إعداد علمي ومادي لهذا الطرح.
يقر الزعبي بـ”تفرق الجماعات السلفية والإسلامية في لبنان”، ويحمل هؤلاء مسؤولية التحصين الفكري والثقافي للمجتمع وتحديداً فئة الشباب التي تستغل في كل مناسبة من أجل مصالح سياسية ضيقة.
الموقوفون الإسلاميون والسجن الكبير
يشكل ملف الموقوفين الإسلاميين عامل ضغط مستمراً على الساحة الطرابلسية والسنية بشكل عام. نهار الجمعة، 11 فبراير (شباط)، تجمع العشرات من عوائل الموقوفين في سجن رومية الذين بدأوا الإضراب عن الطعام. تقدم أم بلال إبراهيم رواية نموذجية لمعاناة الموقوفين وأهاليهم، ففي 2007، أوقف ابنها عندما كان في الـ18 من عمره، آنذاك اشتبه في انتمائه إلى تنظيم فتح الإسلام بسبب التواصل مع أحد المسلحين المتطرفين. خلال فترة سجنه، توفي زوجها، وابنها الآخر، وتعيش أم بلال على أمل خروج ابنها من السجن. وتطالب الدولة اللبنانية بتحديد سقف لعقوبة المؤبد المحكوم فيها ابنها. بينما تعيش على أمل عودته إلى أحضانها، فهو أصبح وحيدها، وتخشى أن ينعكس الانهيار المالي على ابنها كما يجري مع كل السجناء. تقول أم بلال “لا توجد عناية طبية، ولا تغذية كافية، والعائلات الفقيرة لا تتمكن من زيارة أبنائها في رومية، أو الشراء من الحانوت الذي أصبحت أسعاره لا تحتمل”.
تعتبر تجربة أم بلال واحدة من مآسي آخرين، سجن أبناؤهم على مراحل متتالية منذ معركة الضنية، إلى فتح الإسلام، مروراً بأحداث طرابلس، المشاركة في الحرب السورية، وصولاً إلى تراجيديا “داعش”. خلال الاعتصام، تحدث رئيس هيئة العلماء المسلمين سالم الرافعي عن التطور التاريخي لهذا الملف، وتأثير الانقسامات السياسية على إنصاف أبناء “أهل السنة”. ففي البداية، كان إفشال قانون العفو العام، بسبب الاختلاف بين المكونات السياسية المسيحية، السنية والشيعية، على صيغة هذا القانون. وبعد ذلك، كانت المطالبة بتخفيف العقوبات وتسريع المحاكمات، إلا أن هذا الطرح لم يكتمل.
يحمل الشيخ سالم الرافعي الممثلين السياسيين للطائفة الإسلامية السنية مسؤولية عدم إنصاف الشباب وحل الملفات العالقة قضائياً وأمنياً. ويتساءل “عن سبب الأحكام المخففة للمتعاملين مع العدو الإسرائيلي، وعرقلة العفو العام عن موقوفي أحداث طرابلس”.
وثائق الاتصال ومستقبل الشباب الطرابلسي
لا تتوقف المعاناة عند حافة السجن، وإنما تستمر إلى ما بعد الإفراج أو تخلية السبيل. يتحدث رئيس مركز حقوق السجين محمد صبلوح عن 11 ألف وثيقة اتصال، يلاحق بموجبها شباب طرابلسيون لمجرد شبهة أو وشاية مخبر لجهاز أمني.
ويتحدث عن إجراءات تمييزية بحق أبناء طرابلس والموقوفين منهم، وانتزاع اعترافات تحت التعذيب. يطالب صبلوح قائد الجيش بالمبادرة لإلغاء وثائق الاتصال، والامتثال لقرار الحكومة الذي أعلن إلغاءها في السابق.
من جهته، يسلط الشيخ نبيل رحيم الضوء على “مظلومية تلحق ببعض شباب أهل السنة الذين يسجن بعضهم لسنوات طويلة قبل الحكم عليهم بأحكام، تحدد فترتها بأقل مما قضاه السجين من دون محاكمة”، واصفاً “سجن رومية بجامعة التطرف التي يدخل إليها الشاب بعشرة في المئة تطرفاً، ويتخرج بشهادة عالية فيه”. كما يتحدث عن تجربة الشابين غسان العمر، وعبد الرحمن رعد اللذين قضيا عشر سنوات سجناً، قبل صدور قرار البراءة بحقهما”.
لا ينفي نبيل رحيم ضلوع بعض الشباب في أعمال أمنية، ومخالفة القوانين، ولكنه في المقابل ينتقد ازدواجية المعايير لدى السلطة اللبنانية في التعامل بين أبنائها، ومواطنيها على اختلاف انتماءاتهم، ناهيك بالقطيعة بين المؤسسة الدينية والحركات الإسلامية من جهة، وعامة الناس والمواطنين.
بقلم : بشير مصطفى ـ صحافي
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية ولايعبر عن راي الموقع