السياسية:

مع تصاعد حدة اللهجة الصادرة عن البيت الأبيض، والتي تُعد أكثر قبولاً لفكرة أن يأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشن حرب على أوكرانيا خلال خمسة أيام، توقع مراقبون أن يكون 20 فبراير (شباط) الحالي موعداً للقرار الروسي، كونه يصادف نهاية التدريبات العسكرية الروسية مع بيلاروس، ونهاية دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في الصين، والذكرى السنوية لغزو موسكو شبه جزيرة القرم في عام 2014، وهو ما يذكّر بأن الصراع حول أوكرانيا استمر ثماني سنوات على الرغم من الجهود المختلفة للوساطات الدولية. فلماذا أصبح السلام بعيد المنال، وما سبب فشل الوساطة طوال هذه السنوات، وهل يقدم ذلك أي دروس للمستقبل؟

* هل الغزو وشيك؟

وجاءت تحذيرات مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بأن الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا قد يحل قبل نهاية أولمبياد بكين، وتأكيدات مستشارين للرئيس الأميركي جو بايدن، لموقع “بوليتيكو”، أن الرئيس أبلغ نظراءه باحتمال بدء القوات الروسية توغلاً في أوكرانيا يوم 16 فبراير، مضيفاً أن الرهان حول الحلول الدبلوماسية لن تجدي نفعاً، على الرغم من أن الدبلوماسيين الأوروبيين ما زالوا يرفضون الاقتناع بأن الغزو وشيك. وفي حين أن الفجوة الهائلة في التوقعات حول مدى سرعة هجوم بوتين، قد تعود إلى أن المعلومات الاستخبارية عن هجوم 16 أو 20 فبراير، ليست التقييم الشامل بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إلا أنها تُظهر أيضاً نوعاً من عدم التباينات بين ضفتَي الأطلسي، خصوصاً وأن الأوروبيين أكثر ميلاً لتجنب حرب ستؤثر عليهم بشكل أكبر وقد تمتد تأثيراتها لسنوات، ولذلك لا يزالون يراهنون على الاتصالات والدبلوماسية على الرغم من الفشل الذي مُنيت به اللقاءات والاجتماعات والقمم المتتالية خلال الأسابيع والشهور الماضية، ولكن ما أسباب فشل المفاوضات؟

* جبهة موحدة أم منقسمة؟

قد يكون عدم التأكد من مدى تماسك الغرب في مواجهة روسيا هو أحد أسباب عدم تقديم الكرملين أي تنازلات جوهرية في المفاوضات الدبلوماسية، فعلى الرغم من التصريحات والتأكيدات على أعلى مستوى سياسي بأن مواقف الدول الثلاثين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) موحدة وأن ألمانيا ستفعل ما تريده واشنطن بوقف خط الغاز “نورد ستريم 2″، فإن الأمور قد لا تكون كذلك في الواقع العملي.
ويقول ماكس بيرغمان، الباحث في مركز التقدم الأميركي، إن “أحد الأشياء التي استوعبها فريق بايدن بسبب إخفاقات الرد الأميركي على بوتين عام 2014 هو أهمية وجود حلفاء أوروبيين لكبح عدوان روسيا على أوكرانيا، ولهذا ركزت إدارة بايدن بشكل كبير على العمل مع الناتو والاتحاد الأوروبي والشركاء الأوروبيين بشكل ثنائي لمواجهة بوتين، ولهذا يعتمد الأوروبيون على الولايات المتحدة تماماً”.

مواجهة أم استعراض

غير أن أرمسترونغ ويليامز، الباحث السياسي في شبكة “إي بي سي” الأميركية، يشير إلى أن مفاوضات إدارة بايدن فشلت لأسباب عدة، وعلى رأسها أن جهود الإدارة في مواجهة روسيا تبدو للاستعراض، إذ إن الأوروبيين لن يدعموا بايدن في إغلاق خط أنابيب الغاز نوردستريم الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا، لأن الأزمة تحدث في فصل الشتاء في أوروبا، ولن يخاطر قادة أوروبا بشعوبهم ويغلقون خط أنابيب حيوي بالنسبة لهم، بينما لا يوجد بديل جاهز، كما أن أميركا فقدت مصداقيتها بين الحلفاء، ما يجعل من الصعب فرض العقوبات بشكل جماعي”.
وتتفق أنغيلا ستينت، كبيرة الباحثين في مركز الولايات المتحدة وأوروبا، في أن “الأمور تبدو غير واضحة سياسياً بين الأوروبيين والولايات المتحدة، وأنه من المحتمل أن يكون هناك مزيد من الخلاف حول مسألة العقوبات إذا توغلت روسيا عسكرياً في أوكرانيا بقدر محدود داخل منطقة دونباس في شرق أوكرانيا، فمن غير المرجح أن يكون هناك اتفاق أوروبي على العقوبات القاسية للغاية التي يمكن أن تفرضها الولايات المتحدة، بما في ذلك عقوبات الطاقة، لكن الغزو الشامل ومحاولة تغيير الحكومة في كييف، سيوحد الأوروبيين مع الأميركيين”. وتشير ستينت إلى وجود “خلاف داخل الحكومة الائتلافية الألمانية حول خط أنابيب نوردستريم بين وزارة الخارجية، التي يقودها حزب الخضر، والمستشارية التي يقودها الديمقراطيون الاجتماعيون”.

* أزمة طويلة وطاحنة

وتعتقد ستينت أن “الأزمة حول أوكرانيا ستكون طويلة ومشتعلة وطاحنة، حتى لو لم يقرر الرئيس بوتين غزو أوكرانيا، لأن الرئيس الروسي لا يريد فقط إخضاع أوكرانيا، بل يود أيضاً أن يدرك الغرب أن لروسيا الحق في بسط نفوذها في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، وإذا انسحبت بعض القوات الروسية من الحدود فلا يزال من الممكن أن تبقى قوات روسية في بيلاروس، وقد يستمر هذا النوع من الضغط، لتقويض الاستقرار الداخلي في أوكرانيا عبر أدوات مختلفة مثل الهجمات الإلكترونية، وما يُسمى الحرب الهجينة، خصوصاً وأن بوتين يراقب مدى تماسك وحدة الحلفاء لفترة طويلة، وإذا استمر هذا التوتر لأشهر أو سنوات، فقد تتلاشى هذه الوحدة، لأن السكان في معظم الدول الغربية، لا يريدون التورط في أي صراع مع روسيا”.

وعلى الرغم من صعوبة التنبؤ على المدى الطويل بسيناريو كهذا في الوقت الحالي، فإن الكرملين قد يعتمد خطة طويلة المدى لحمل الغرب والولايات المتحدة على قبول أن شبه جزيرة القرم جزء من روسيا، وأن تكون أوكرانيا ضمن دائرة نفوذ روسيا. ولذلك، حتى لو لم يحدث غزو في نهاية هذه التدريبات العسكرية الروسية مع بيلاروس، فإن هذا لا يعني أن الأمر انتهى”.

* أصل النزاع

لكن أصل وطبيعة تطور الصراع في أوكرانيا، يدعم النزاع المتأجج بين روسيا والغرب ويلعب دوراً أساسياً في فشل الجهود الدبلوماسية الجارية الآن، بحسبما يقول يوجين تشوسوفسكي، الباحث في معهد نيولاينز، فالنزاع لم يبدأ في عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم ودعمت تمرداً انفصالياً في شرق أوكرانيا، ولكن بدأ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 بقرار من الرئيس الأوكراني آنذاك، فيكتور يانوكوفيتش بالانسحاب المفاجئ من المحادثات مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقية التجارة الحرة، وسعى بدلاً من ذلك إلى تكامل أوثق مع روسيا، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات جماهيرية استمرت شهوراً في كييف، وانتهت بالإطاحة بيانوكوفيتش في فبراير 2014 واستبداله بحكومة موالية للغرب في أوكرانيا.
وكان لروسيا والغرب تفسيرات مختلفة جداً لهذه التطورات، فبينما اعتبرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الإطاحة بيانوكوفيتش بمثابة انتصار للديمقراطية، اعتبرت روسيا ما حدث انقلاباً مدعوماً من الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة في إطار جهودها لتوسيع نفوذها شرقاً.

وبذات الطريقة، نظرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الحركة الانفصالية في شرق أوكرانيا، والمشاركة الروسية في الصراع، على أنها حرب، في حين اعتبرتها موسكو رفضاً شعبياً لحكومة أوكرانية لا يختلف عن الدعم الغربي للاحتجاجات في كييف التي أدت إلى سقوط حكومة يانوكوفيتش.
وأعاقت هذه التفسيرات المختلفة بين روسيا والغرب حول أصول الصراع الأوكراني، جهود حل النزاع منذ البداية، واستمرت مع المجموعات التنسيقية والتفاوضية المختلفة التي تشكلت بين أطراف النزاع وبمشاركات أوروبية. وكان في قلب الخلاف دائماً دور روسيا في الصراع الأوكراني وتوصيف ما يجري بأنه حرب أهلية أم حركات تمرد انفصالية.

* عدم ارتياح

ومع فشل اتفاقي مينسك الأول والثاني اللذين شكلا الأساس النظري للتسوية السياسية في أوكرانيا حتى يومنا هذا، اتسعت مساحة الاختلاف لتصل إلى تباين في وجهات النظر العالمية بين روسيا والغرب حول الهيكل الأمني ​​بأكمله في أوروبا، حيث لم يكن الكرملين مرتاحاً لتوسيع الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً حلف الناتو، باتجاه الأراضي السوفياتية السابقة في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

ووفقاً لما كتبه تشوسوفسكي في موقع “فورين بوليسي”، فإن “علاقة أوكرانيا مع الغرب ومع حلف شمال الأطلسي ازدادت في السنوات الأخيرة فقط، ولهذا قرر بوتين إعادة تعريف البنية الأمنية لأوروبا، وأنه لا وقت ليضيعه بعد الآن، وأن أوكرانيا ستكون جزءاً من عملية التفاوض الحقيقية التي تحاول روسيا دفعها، وهو ما يفسر المطالب الأمنية الشاملة التي قدمتها موسكو إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو في أواخر ديسمبر (كانون الثاني) من العام الماضي، وهذا ما يفسر لماذا أثبتت جهود الوساطة صعوبة تحقيق أي تقدم”.

لكن قد يفسر هذا أيضاً أن التعزيزات العسكرية الروسية لم تكن بالضرورة لغرض وحيد هو غزو أوكرانيا، بل لإجبار الغرب على إعادة صياغة علاقته الوظيفية والمؤسسية مع دول شرق أوروبا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، وهو ما يبدو أنه نجح إلى حد ما، كما أقر بذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب محادثاته الأخيرة مع بوتين، حين قال، إن “الهدف الجيوسياسي لروسيا اليوم ليس أوكرانيا بوضوح، ولكن توضيح قواعد التعايش مع الناتو والاتحاد الأوروبي”.

قد يكون من الصعب على المفاوضات حول أوكرانيا أن تحقق تقدماً حقيقياً ما لم يعترف الجانبان بأن مثل هذه المفاوضات لا تتعلق فقط بأوكرانيا، بل تتعلق بالعلاقة الكاملة بين روسيا والغرب، وأن إعادة تأطير المواجهة يمكن أن يتجنب نتيجتها الأكثر خطورة، حيث إن المخاطر على الجانبين أصبحت أكبر من أي وقت مضى.

اندبندنت العربية