السياسية:

في مؤشر على حدوث انفراج في العلاقات المتأزمة بين الجزائر وفرنسا، استأنف السفير الجزائري لدى باريس محمد عنتر داود مهامه، الخميس 6 يناير/كانون الثاني 2022، بعد ثلاثة أشهر من استدعائه إثر تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتبرت مسيئة لتاريخ الجزائر.

وأفاد بيان للرئاسة الجزائرية، نقلته وكالة الأنباء المحلية، بأن الرئيس عبد المجيد تبون استقبل، الأربعاء، سفير الجزائر بفرنسا محمد عنتر داود، “الذي يعود لمواصلة أداء مهامه بباريس ابتداء من الخميس”.

خطوات فرنسية نحو التهدئة

وتزامنت عودة السفير الجزائري إلى باريس مع سلسلة خطوات اتخذتها فرنسا لتهدئة الأوضاع مع الجزائر، حتى لا تنجرف العلاقات بين البلدين إلى مستوى لا يمكن جبره، ما يساعد دولاً كبرى منافسة مثل روسيا والصين للتوغل أكثر في منطقة شمال إفريقيا والساحل.

وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قال في حوار مع مجلة “دير شبيغل” في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إنه لن يقوم “بالخطوة الأولى” لتخفيف التوتر.

وفي أكتوبر/تشرين الأول، اشترط الرئيس تبون، في تصريحات منفصلة، “الاحترام الكامل للدولة الجزائرية” مقابل عودة السفير الجزائري إلى باريس.

ومنذ استدعاء السفير الجزائري إلى بلاده في 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حاولت باريس تخفيف التوتر، من خلال تعبير ماكرون، عن أسفه “للخلافات وسوء التفاهم” مع الجزائر، مؤكداً أنه “يحترم الأمة الجزائرية وتاريخها”، وقبلها وصفها لمجازر 17 أكتوبر 1961ضد المهاجرين الجزائريين في باريس بأنها “جرائم لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية”.

فرنسا تحاول استعادة الكبرياء الإمبراطوري الضائع منذ الحرب العالمية الثانية لكن الأمر لا يزال يستعصي عليها/ عربي بوست
وجاء قرار ماكرون فتح الأرشيف السري للثورة الجزائرية خطوة مهمة في طريق طويل نحو المصالحة التاريخية مع الجزائر، رغم أنها أيضاً مطلب مؤرخين فرنسيين نافذين لدى صناع القرار في باريس.

وأخيراً جاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى الجزائر في 8 ديسمبر الماضي، والذي حظي باستقبال الرئيس تبون، لكن تصريحاته عقب اللقاء لم توحِ بتحقيق اختراق كبير في الأزمة الدبلوماسية بين البلدين.

كانت الجزائر تنتظر من باريس أفعالاً وليس الاكتفاء بكلمات دبلوماسية، رغم أن حجم المصالح المشتركة بين البلدين أعقد بكثير من خلافاتهما وعلاقاتهما المتصدعة.

إذ إن نحو 4 ملايين جزائري يقيمون في فرنسا سواء بطريقة شرعية أو غير نظامية، منهم أكثر من مليون نسمة يحملون الجنسية الفرنسية، ولديهم حق التصويت.

وهذه الأرقام لا تسمح لا للجزائر ولا لفرنسا بالقفز عليها، ما يجعل عودة السفير الجزائري إلى باريس مسألة حتمية رغم الضرر الذي خلفته تصريحات ماكرون، الذي يخشى أن يخسر انتخابات 2022 بسبب مليون ناخب جزائري، كما ربحها في 2017، لنفس السبب.

إلا أن خطوات صغيرة أقدمت عليها باريس مؤخراً سرّعت من عودة السفير الجزائري إلى منصبه.

“أصدقاء فرنسيون”

تزامن قرار عودة السفير الجزائري إلى باريس، مع برقية لوكالة الأنباء الجزائرية، هاجمت فيه تقريراً للبنك الدولي انتقد الوضعية الاقتصادية للجزائر، لكن هذه المرة استندت في معلوماتها على ما وصفته بـ”الدليل القاطع أتى به أصدقاء فرنسيون للجزائر”.

واتهمت الوكالة شخصية تونسية تدعى فريد بلحاج، يتولى منصب نائب رئيس البنك العالمي مكلف بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بأنه الذي “حرر هذا التقرير المغرض (..) بتوجيه من القصر الملكي المغربي”.

وبغض النظر عن تفاصيل هذه القضية، إلا أن اللافت أن جهة فرنسية ساعدت الجزائر على تحديد الأطراف التي حررت أو حرضت على كتابة تقرير البنك الدولي، والذي وصفته الوكالة الرسمية للأنباء بـ”المغرض”.

حل جماعة “زواف باريس”

وآخر الخطوات التي اتخذتها باريس للتودد إلى الجزائر، ما أعلنه وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، الأربعاء، في تغريدة على تويتر، عن “حل جماعة زواف باريس، بحكم الأمر الواقع، صباح اليوم (5 يناير)، في مجلس الوزراء، وفقاً لتعليمات رئيس الجمهورية. كما هو مفصل في المرسوم الذي قدمته. حرضت هذه المجموعة الواقعية على الكراهية والعنف”.

و”جماعة زواف باريس” تنظيم يميني متطرف معادٍ للمهاجرين، وداعم للمرشح الفرنسي إريك زمور، اليهودي ذي الأصول الجزائرية، والمعادي للمسلمين والمهاجرين.

واستعملت هذه الجماعة العنف ضد المعارضين للعنصرية، الذين تظاهروا ضد زمور، في أول لقاء جماهيري بعد إعلان ترشحه رسمياً للرئاسيات الفرنسية القادمة، والذي اختار له أن يكون بمنطقة سان دوني، بضواحي باريس، المأهولة بعدد كبير من الجاليات المهاجرة، مع حول التجمع إلى ساحة معركة دموية.

وكلمة “زواف” اشتهرت خلال الحراك الشعبي بالجزائر، ونسبت إلى المتطرفين من الأمازيغ الذين لديهم ميول انفصالية، وتتهم قياداتهم بالولاء لأطراف معادية للجزائر على غرار فرنسا.

وليس واضحاً مدى علاقة “زواف باريس” بـ”زواف الجزائر”، غير أن هذا المصطلح يرتبط تاريخياً بقبائل “الزواوة” في منطقة القبائل بالجزائر، والذين شكل الجيش الفرنسي منهم وحدات عسكرية إبان فترة احتلاله للجزائر (1830-1962) لقمع “الأهالي”.

وفي مايو/أيار 2021، صنفت الجزائر تنظيم “الماك”، الذي يطالب بانفصال منطقة القبائل، “حركة إرهابية”، وطلبت من فرنسا تسليم زعيمه فرحات مهني، ولكن باريس لم تستجب لهذا الطلب لحد الآن.

وحل جماعة “زواف باريس” وإن كانت مرتبطة بممارستها العنف في فرنسا المهاجرين والمعارضين للعنصرية، إلا أنها خطوة إيجابية بالنسبة للجزائر، التي لها جالية كبيرة في فرنسا، ومقدمة لإقناع باريس بتصنيف “الماك” حركة إرهابية.

“استرجاع كل التراث التاريخي”

لا تريد الجزائر تفويت فرصة فتح باريس أرشيفها السري المتعلق بالشؤون القضائية وتحقيقات الشرطة في الجزائر إبان حرب التحرير الجزائرية (1954-1962).

وفي هذا الصدد، شدد وزير المجاهدين الجزائر (قدماء المحاربين) العيد ربيقة، على أن الجزائر “عازمة اليوم على استرجاع كل تراثها التاريخي والثقافي من الخارج”.

والغريب أن هذا التصريح تزامن أيضاً مع عودة السفير عنتر إلى باريس، ما يرجح وجود تفاهمات جزائرية غير معلنة بشأن عدة ملفات بينها الذاكرة ومكافحة الإرهاب والتعاون الأمني.

فرنسا الجزائر
مراسم في الجزائر لتشييع جثامين 24 من المقاومين بعد استرجاعها من فرنسا 2020/ رويترز
الوزير ربيقة، وفي رده على سؤال لعضو في مجلس الأمة، أوضح أن الدولة الجزائرية “تعتبر قضية استرجاع التراث التاريخي والثقافي بكل عناصره المحتجز في فرنسا من أولوياتها ضمن معالجة ملفات الذاكرة”.

وتابع “تعمل الدولة في هذا المجال وفق عملية رصد وإحصاء كل هذا التراث، ومن بينه مدفع بابا مرزوق الذي يعد من المحجوزات التي تمت سرقتها من طرف فرنسا الاستعمارية”.

فعودة السفير داود، مرتبطة أيضاً بتسريع كل ما يتعلق بالذاكرة الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي، خصوصاً أن ماكرون يبدو أكثر تفاعلاً مع هذا الملف مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل/نيسان المقبل.

لكن عودة السفير الجزائري لا تعني بالضرورة حل جميع الملفات الناتجة عن هذه الأزمة على غرار فتح الأجواء الجزائرية أمام الطيران الحربي الفرنسي المتوجه إلى مالي، ولا ملف التأشيرات للجزائريين، التي تقلصت إلى النصف، بحسب وزير الداخلية الفرنسي.

عربي بوست