من المسؤول عن اندلاع سباق التسلح الخطير في آسيا، أمريكا أم الصين؟
السياسية:
جدل كبير يدور بين المحللين السياسيين الأمريكيين بشأن تحديد مَن المسؤول عن اندلاع سباق التسلح في آسيا، هل هي الصين بتصعيدها لعملية بناء ترسانتها العسكرية والتنمر على جيرانها، أم أمريكا بسعيها لمحاصرة الصين عبر سلسلة من التحالفات العسكرية؟
وتصاعد سباق التسلح في آسيا حيث تشهد منطقتا شرق وجنوب آسيا تحديداً تزايداً في وتيرة التسلح بصورة مقلقة، وترجع أسبابه ليس فقط إلى الحرب الباردة بين الصين وأمريكا، فالمنطقة لا تنقصها أسباب الصراع من الأساس.
فالصين والهند بينهما حدود متداخلة ومناوشات متقطعة كادت تتحول إلى حرب شاملة في يونيو/حزيران الماضي، واليابان وكوريا الجنوبية تشعران بتهديد متزايد من كوريا الشمالية والصين، والهند وباكستان عدوان تقليديان خاضا أربع حروب بالفعل من قبل. كل هذه الصراعات التاريخية والظروف الداخلية بالولايات المتحدة تسببت في سباق تسلح يبنى على نار هادئة، بحسب المراقبين.
أحد فصول الجدل حول تحديد مَن المسؤول عن تصاعد سباق التسلح في آسيا دار على صفحات مجلة Foreign Affairs الأمريكية، بين توماس شوغارت (زميل أول مساعد بمركز الأمن الأمريكي الجديد)، وفان جاكسون (زميل متميز بمؤسسة آسيا والمحيط الهادي الكندية).
هناك وجهة نظر ترى أن عدوانية بكين مهَّدت لاندلاع سباق التسلح في آسيا
ينتقد توماس شوغارت مقالاً سابقاً، لفان جاكسون بعنوان “America Is Turning Asia Into a Powder Keg” (أمريكا تُحول آسيا إلى برميل بارود)، يحاول فيه تفسير أسباب اندلاع سباق التسلح في آسيا.
ويقول شوغارت لموقع عربي بوست : “إن التحشيد العسكري الصيني أمر لا يمكن إنكاره. فقد صنَّعت بكين مئات من الصواريخ الباليستية الدقيقة طويلة المدى، وظلَّت طوال سنوات تطلقها على نماذج بالحجم الطبيعي لسفن وقواعد أمريكية في آسيا”.
وبَنَت أكبر قوات بحرية في العالم من حيث عدد السفن، وتجاوزت معدل إنتاج السفن الحربية الأمريكية بصورة هائلة في السنوات الأخيرة. وفيما تنامت قوة بكين، فإنَّها أصبحت أيضاً عدوانية على نحوٍ متزايد، فهي تتنمَّر على الجيران الذين تجرأوا على استغلال مواردهم الطبيعية الخاصة، وتهاجم وسائل إعلامها التي تسيطر عليها الدولة تايوان، بالغزو بصورة روتينية.
يقول شوغارت لكن في مقاله “أمريكا تُحول آسيا إلى برميل بارود”، المنشور في 22 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يحاجج فان جاكسون بأنَّ النهج الأمريكي “المفرط في العسكرة” هو المُلام على زيادة خطر الحرب وتدهور الاتجاهات الإقليمية السلبية.
يضيف شوغارت قائلاً: “مع أنَّ جاكسون يعترف بأنَّ واشنطن ليست هي (سبب هذه الاتجاهات المقلقة) و(لا يجب تحميلها اللوم على تصرفات الصين وكوريا الشمالية)، يترك مقاله انطباعاً بعكس ذلك. علاوة على ذلك، يدلل على حجته بتقديم حقائق تكون في بعض الأحيان مضللة أو غير صحيحة أو غير دقيقة. فهو يُصوِّر رد الفعل المنطقي في حقيقة الأمر للولايات المتحدة وحلفائها على التوسع الكبير للقدرات الهجومية الصينية بأنَّه تهور”.
يبدأ جاكسون بلوم واشنطن على “زيادة القوات والعتاد العسكري في المنطقة”. ومع أنَّه كانت هناك بعض المبادرات من أجل “التحول نحو المحيط الهادي” وإعادة توازن الجيش الأمريكي باتجاه آسيا، فإنَّ التغيير في وجود القوات الأمريكية لم يكن دراماتيكياً بقدر ما يشير هذا الخطاب، حسب شوغارت.
سباق التسلح في آسيا
فوفقاً لسجلات الأفراد لدى وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، كان يتمركز نحو 89 ألفاً من القوات في الخدمة الفعلية بمسرح المحيطين الهندي والهادي حتى الصيف الماضي. وكان العدد يبلغ 84 ألفاً قبل عقد من الزمن. وزيادة 5 آلاف من القوات، بما يمثل أقل من نصف في المئة من عدد أفراد القوات المسلحة الأمريكية، لا تشكِّل “زيادة” تفاقم التوترات في المنطقة.
يلقي جاكسون باللوم أيضاً على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الشروع في مبادرات دفاعية يزعم هو أنَّها تُصعِّد سباقاً للتسلح مع الصين. ويستشهد بتشجيع الإدارة لليابان بتطوير أسلحة فرط صوتية (وهو برنامج كُشِفَ النقاب عنه في مارس/آذار 2020، أي قبل 10 أشهر من تنصيب بايدن) وتوسيع مدى صواريخها المضادة للسفن (بدأ أيضاً عام 2020). ويذكر أيضاً أنَّ الإدارة أعلنت خططاً لتوسيع الوجود الأمريكي في غوام، في إشارة إلى عملية النقل الجارية لخمسة آلاف من قوات مشاة البحرية الأمريكية من أوكيناوا اليابانية إلى جزيرة غوام (أي الابتعاد عن الصين أكثر)، وهي العملية المُخطَّط لها منذ 2006. وأخيراً، يذكر بناء قاعدة جديدة في بابوا غينيا الجديدة –وهي في الحقيقة تطوير لقاعدة موجودة بالفعل أُعلِن عنه في 2018- وتنصيب رادارات جديدة في جزيرة بالاو، التي تقع على بُعد أكثر من 1500 ميل (2414 كم تقريباً) من الصين، وكان قد أُعلِن عن وصولها لأول مرة في عام 2017. يجب أن لا تُنسَب هذه السياسات التي ترمي لمواجهة الصين فقط إلى فريق بايدن، بل إنَّها تمثل مسعىً عابراً لأقسام الإدارة وللأحزاب لمواكبة الحقيقة الواضحة للتدهور السريع في الميزان العسكري.
وفي مجال القوات النووية، يرى شوغارت أن جاكسون يخطئ أيضاً في توصيف الجدول الزمني للأحداث ويخطئ في بعض التفاصيل. فيذكر على سبيل المثال أنَّ “إدارة ترامب وضعت خططاً لعملية تحديث نووي على مدار ثلاثة عقود، من شأنها أن تكلف ما بين 1.2 و1.7 تريليون دولار”، ويشير إلى توسيع الصين ترسانتها النووية باعتباره أحد أسباب هذه المبادرة.
ويقول: “في الواقع، ورث الرئيس دونالد ترامب تلك الخطط عن سلفه، باراك أوباما. ومع أنَّ أنشطة الصين تمثل عاملاً في احتياج واشنطن للإبقاء على قوة ردع نووية، فإنَّ السبب الأكبر بكثير لبرنامج التحديث هو تقادم المنصات النووية الأمريكية التي تعود إلى عقود”.
ويضيف: “أخطأ جاكسون أيضاً في توصيف خطط التحديث النووي الأمريكي باعتبارها (توسُّعاً). في الواقع، ستُقلِّص الخطط عدد منصات الإطلاق الاستراتيجية النووية فقط– أي الصواريخ البالستية العابرة للقارات وتلك التي تُطلَق من الغواصات- التي تحتفظ بها واشنطن. وسيعيد سلاح الجو الأمريكي استخدام منشآت الإطلاق، وستتراجع قوة غواصات الصواريخ الباليستية من 14 إلى 12 غواصة، ومن 20 أنبوب صواريخ بكلٍ منها إلى 16 فقط”.
وأخيراً، يؤكد جاكسون أنَّ التوسع النووي المذهل للصين مؤخراً يأتي “بوضوح رداً على السياسات النووية غير المبررة وغير المُقيَّدة من جانب إدارة ترامب”. لكنَّ هذا بعيد كل البعد عن الوضوح، حسب شوغارت.
فهناك العديد من العوامل الأخرى التي قد تكون مسؤولة عن تحركات الصين، فبكين ربما ترغب في أن تكون قادرة على إرباك الدفاعات الصاروخية الأمريكية بإمطارها بالصواريخ، أو قد تكون تحاول الهرب من الإكراه النووي الأمريكي، أو ربما تسعى للحفاظ على ورقة ضغط في حال نشوب صراع تقليدي.
وقد أعلن قادة الصين في 2017 –قبل فترة طويلة من طرح إدارة ترامب “مراجعة الوضع النووي” في 2017 و”استراتيجية الدفاع الوطني” في 2018- رغبتهم في امتلاك “جيش عالميّ الطراز بحلول منتصف القرن”.
يقول شوغارت إنَّ جاكسون مُحقٌّ في أنَّه يجب أن تعمل الولايات المتحدة بجد أكثر لإيجاد سبل للتعاون والتنافس مع الصين في المجالات غير العسكرية. لكنَّه يقدم واشنطن كأنَّها منشغلة “بمبيعات الأسلحة الحديثة وتوسيع وضع قواتها” فيما أصبحت الصين عملاقاً اقتصادياً، كما لو أنَّ الصين لا تبيع الأسلحة أيضاً وقلبت الميزان العسكري في المنطقة بشكل كبير خلال تحولها إلى عملاق اقتصادي.
ويختتم مقاله بالقول: “لقد بدأت واشنطن أخيراً تدرك الخطر المحدق الذي يُشكِّله النظام الصيني، الذي يتنامى استبداده وقوته التكنولوجية على المنطقة والعالم وتتحرك بناءً على ذلك. ومن شأن عدم إدراك هذا الخطر واتخاذ الردود الملائمة أن يزيد فرص الصراع من خلال زيادة احتمال أن يقرر قادة الحزب الشيوعي الصيني ذات يوم، أنَّ ميزان القوة قد انقلب لصالحهم وأنَّهم يجب أن يستغلوا هذا الانقلاب من خلال اللجوء إلى القوة”.
في المقابل هناك من يرفض إعفاء أمريكا من المسؤولية
يرد جاكسون قائلاً: “يرفض توماس شوغارت فكرة أنَّ خصوم واشنطن قد يردون على سياستها الخارجية المفرطة في العسكرة بطرق غير مرغوبة. وتجمع انتقاداته شكاوى صغيرة تسيء فهم ما كتبتُه، وتفشل أيضاً في دحض حجتي”.
النقطة الأكبر التي يغفلها شوغارت هي أنَّ السياسة الأمريكية في آسيا تظل على الجانب الخطأ من الاتجاهات التي تؤثر بشدة على الأمن الإقليمي والمصالح الأمريكية. ويبدو أنَّه منشغل أساساً بضمان عدم تحميل واشنطن أي “لوم” على غرق آسيا في العسكرة، ولا يُظهِر أي اهتمام بدور الولايات المتحدة في تأجيج الوضع المحفوف بالمخاطر على نحو متزايد في آسيا.
ويقول: “يراوغ شوغارت كثيراً مع اختياراتي للكلمات بدلاً من تحدي الادعاءات التي أقدمها. فعلى سبيل المثال، أتحدث عن الاتجاه الواسع (لزيادة واشنطن قواتها وعتادها العسكري في المنطقة)، ثم أُفصِّل بالضبط ما أعنيه على مدى بضع الفقرات التالية. فيتجاهل شوغارت كلامي ويخبر القارئ عن عدد القوات التي تضعها الولايات المتحدة في آسيا. وهذا لا يدحض حجتي، لأنَّ تصاعد العسكرة الذي أتحدث عنه يجري على مدار سنوات عدة ويتعلق بالعتاد والقواعد بقدر ما يتعلق بعدد الأفراد”.
سباق التسلح في آسيا
علاوة على ذلك، يستثني رقم 89 ألفاً الذي ذكره شوغارت للقوات الأمريكية المتمركزة في منطقة المحيطين الهندي والهادي –والذي يُعَد كبيراً بحد ذاته- عدد القوات التي تتزايد بالمنطقة للمشاركة في المناورات الكثيرة التي تجريها الولايات المتحدة كل عام.
ويذكر شوغارت خطأً أنَّني ألوم إدارة الرئيس جو بايدن على سعي اليابان للحصول على الصواريخ فرط صوتية. لكنَّني لا ألومها، ومقالي يوضح أنَّ بايدن هو المشرف على اتجاه سيئ يسبق وصوله إلى السلطة. ولستُ أقول إنَّ الإدارة بادرت بهذا التطور مثلما يشير شوغارت.
وفيما يتعلَّق بمسألة القوات النووية الأمريكية، يجادل شوغارت بأنَّ خطط الرئيس السابق دونالد ترامب النووية غير المبررة هي في الحقيقة سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما. وهذا ليس صحيحاً تماماً وليس وثيق الصلة بالموضوع على أي حال. فخلال عهد أوباما، وضع البنتاغون بالفعل خططاً للتحديث النووي ورثها ترامب. لكنَّ الطلبات المتعلقة بالميزانية في عهد ترامب وسَّعت الأجندة النووية لحقبة أوباما.
ويقول جاكسون: “هنا مجدداً يتظاهر شوغارت بالمجادلة في مفرداتي وليس تحليلي. فقد وصَّفت التحديث النووي الأمريكي عدة مرات في مقالي وتنقلتُ بين وصفه بـ(التحديث) و(التوسع) بغرض التنويع، لكنَّ كلا المصطلحين دقيق. ويستغل شوغارت كلمة (التوسع) لكي يشير إلى أنَّ عدد منصات إطلاق الصواريخ طويلة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية في حوزة الولايات المتحدة لا يزداد. لكنَّني لم أقل إنَّه يزداد قط. ما يزداد هو فتك وتكلفة (وتكاليف الفرص البديلة) الترسانة النووية الأمريكية”.
سياسة أمريكا تصرف نظر عن التهديدات الحقيقة في آسيا
لكن حتى لو كانت كل هذه الشكاوى المضللة صحيحة، فإنَّها لا ترقى إلى أن تكون دفاعاً عن السياسات الأمريكية الحالية أو سمتها التي تمنح الأولوية للجانب العسكري، حسب جاكسون الذي يرى أن الولايات المتحدة، بصفتها الطرف المهيمن عسكرياً في آسيا، تملك يداً في تشكيل الاتجاهات التي تهدد المنطقة بما في ذلك صعود سباق التسلح في آسيا.
ولكن بالنسبة للسياسيين، تعني الاستثنائية الأمريكية عدم الاعتراف أبداً بضلوع واشنطن في النتائج السيئة مثل تصاعد سباق التسلح في آسيا . لكن لا يمكن أن يكون المحللون قصار النظر بهذا الشكل، حسب وصف جاكسون.
ويقول فان جاكسون: “يصطف شوغارت بنفسه إلى جانب ما أعتبره انجرافاً عسكري النزعة لأمريكا دون تحديد كيف يمكن للجهود الأمريكية الرامية لـ(مواجهة) التحديث العسكري الصيني بمزيد من الصواريخ والسفن والأسلحة النووية أن تساعد بأي شكل. وهو يتجاهل معالجة التخوف من فكرة أنَّ الهوس بالاستراتيجية العسكرية يصرف الانتباه عما يهدد آسيا حقاً”.
فالتفاوتات الاقتصادية الكبيرة، والتدهور البيئي، والدمار الناجم عن الجائحة هي ما يُقلِق معظم الآسيويين وهي ما تهدد بنثر بذور الصراع العسكري مستقبلاً.
ويقول جاكسون: “يعكس عدم اعتراف شوغارت بهذه المشكلات، فضلاً عن معالجتها، ذلك الهوس بالشؤون العسكرية الذي سعى مقالي لتسليط الضوء عليه. وهو بهذا المعنى يوضح وجهة نظري عن غير قصد. لقد شوَّه البنتاغون قدرة المحللين على التفكير في فن الحكم بمت يتجاوز السياسة الدفاعية”.