سر تضرُّر المدن الحديثة من الفيضانات أكثر من غيرها، وكيف يمكنها مواجهة هذا الخطر المتزايد؟
السياسية:
نيويورك أيقونة الحضارة الحديثة حوصر سكانها كأنهم سكان بلد نامٍ جراء مياه الأمطار، وفي الصين الصاعدة شهدت المدن خسائر هائلة، وألمانيا المتباهية بتقدمها شهدت هذا العام خسائر بشرية غير مسبوقة منذ عقود جراء الفيضانات.
تبدو المدن الحديثة أكثر ضعفاً من غيرها أمام الأمطار، فما هي أسباب ذلك، وكيف يمكن لهذه المدن أن تتحصن في مواجهة الفيضانات التي قد تحدث نتيجة التغير المناخي؟.
فيضانات في عاصمة العالم
في الأسبوع الماضي، في مدينة نيويورك، تدفّقَت مياه الأمطار في محطات مترو الأنفاق، وحوَّلَت الشوارع إلى أنهارٍ متدفِّقة. وعبر شمال شرقي الولايات المتحدة تسبَّبَت الفيضانات المُفاجِئة في مقتل أكثر من 50 شخصاً بسبب الأمطار الغزيرة من بقايا إعصار إيدا. وفي يوليو/تموز، ظهرت مشاهدٌ مماثلة في مدينة تشنغتشو في الصين، حيث قُتِلَ ما يقرب من 300 شخص في طوفانٍ جارف.
لطالما شكَّلَت الفيضانات الناجمة عن العواصف والعواصف الاستوائية خطراً على المدن القريبة من مستوى البحر، مثل ميامي الأمريكية أو أمستردام الهولندية.
ولكن من خلال زيادة كمية المياه التي تحتفظ بها الغيوم، وتغيير أنماط هطول الأمطار، فإن ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي يعني أيضاً أن العواصف ستدفع المزيد من المياه نحو المدن. كيف يمكن لهذه المدن التأقلم مع ذلك؟
ليست البيئات الحضرية مناسبةً تماماً لاستقبال الأمطار الغزيرة، لأن الخرسانة توقف تصريف المياه. لذلك، فإن أحد أفضل الأمور التي يمكن للمدن القيام بها هو أن تصبح أكثر قابليةً لامتصاص المياه، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
الصين تريد جعل مدنها مثل الإسفنج
بحلول عام 2030، تريد الصين تغطية 30 مدينة بخصائص تشبه الإسفنج، والتي تبشِّر بامتصاصٍ أو إعادة استخدام لـ 80% من مياه الأمطار، بتكلفةٍ تقديرية تبلغ تريليون دولار. ويشمل ذلك “أرصفة امتصاص” تسمح للمياه بالمرور من خلالها، و “أسطح خضراء” تستخدم النباتات والتربة لتجميع مياه الأمطار وتصفيتها.
الحلول ذات التقنية المنخفضة تساعد في حلِّ المشكلة أيضاً. قد يقلِّل غرس الأشجار والشجيرات على طول الشوارع من الجريان السطحي، إذ وجدت إحدى الدراسات في مقاطعة كولومبيا البريطانية في كندا أن الأشجار في الحضر يمكن أن تعترض ما يقرب من نصف الأمطار. ويمكن للمدن أيضاً إيقاف تدفُّق المياه حيث لا ينبغي أن تتدفَّق، حسب المجلة البريطانية.
في روتردام، ثاني أكبر مدينة في هولندا شُيِّدَت الملاعب والمرافق الرياضية والمُتنزَهات لتوفير مساحةٍ للمياه. في يومٍ مشمسٍ في ساحة بنتيمبلين يمكنك أن تلعب كرة السلة، ولكن تتلبَّد السماء بالغيوم، تتضاعف الساحة كحوضٍ كبير لاستقبال مياه الأمطار. والترتيب ببساطة يمكنه أن يُحدِث فارقاً. صناديق القمامة التي تُترَك في الشوارع، كما هو الحال في العديد من المدن الأمريكية، تمنع تدفُّق المياه.
يجب التركيز تحت الأرض
تحدث العديد من أسوأ المشكلات تحت مستوى الشارع. غالباً ما تكافح شبكة المجاري من أجل التكيُّف مع تدفُّق المياه، فتعيد محتوياتها مرةً أخرى إلى المنازل والشوارع والممرات المائية. تعمل لندن على تشييد “مجارٍ خارقة” جديدة تكتمل بحلول العام 2025، وذلك جزئياً لتجنُّب هذه المشكلة.
أما شيكاغو الكبرى، التي بُنِيَت بالأساس على مستنقع فهي تبني منذ منتصف السبعينيات “النفق العميق”، وهو مُصمَّمٌ لتحويل مياه الصرف الصحي ومياه الأمطار إلى خزَّانات.
ولكن على الرغم من تشغيل جانب كبير من هذا النظام، لا يزال يغرق خلال العواصف الشديدة، ما أجبَرَ المدينة على التخلُّص من مياه الصرف الصحي في بحيرة ميشيغان.
يمكن للفيضانات الخاطفة أيضاً أن تلحق الفوضى بأنظمة النقل البري. في يوليو/تموز، لقي ما لا يقل عن 14 شخصاً مصرعهم في مدينة تشنغتشو الصينية بعد ارتفاع منسوب المياه في الأنفاق، وكانت المياه تحاصرهم. بالإمكان تفادي مثل هذه المآسي.
رُفِعَت مداخل مترو الأنفاق في العاصمة التايوانية تايبيه، لمنع دخول المياه خلال الأعاصير. أما مترو طوكيو فهو مُجهَّزٌ بأبوابٍ منزلقة قادرة على تحمُّل مياه الفيضانات. وكان 11 شخصاً على الأقل، من بين 13، قد لقوا حتفهم في نيويورك نتيجةً لفيضانات الأسبوع الماضي في شققٍ بالطابق السفلي، وكثيرٌ من هذه الشقق غير قانوني ويفتقر إلى تدابير السلامة، مثل المخارج المتعدِّدة. وحدَّدَت خطة الفيضانات الجديدة للمدينة -صدرت في مايو/أيار- مُخطَّطاً لإخطار الأشخاص الذين يعيشون في الأقبية بمخاطر الفيضانات، لكن الخطة لن تبدأ قبل عام 2023.
وعلى قادة المدن متابعة تقارير الأرصاد، فقد يكون الحل في إجلاء السكان
في كثيرٍ من الحالات، يفشل المسؤولون والمقيمون في معالجة المخاطر الجسيمة للفيضانات. على سبيل المثال، أرسل النظام الأوروبي للتوعية بالفيضانات، وهو نظام إنذارٍ مبكِّرٍ طوَّرَته المفوضية الأوروبية، تحذيراتٍ مُحدَّدة إلى المسؤولين الألمان قبل أربعة أيام من بدء هطول الأمطار الغزيرة، في يوليو/تموز. ورغم ذلك، فوجئ الكثير من السكَّان في المناطق الأكثر تضرُّراً، وتُوفِّيَ أكثر من 180 شخصاً في ألمانيا.
وفي تشنغتشو، تجاهلت المدينة إلى حدٍّ كبيرٍ توقُّع خبراء الأرصاد الجوية بهطول أمطار غزيرة، في 19 يوليو/تموز، وحُذِّر سكَّان المدينة، البالغ عددهم أكثر من 10 ملايين نسمة بعد فوات الأوان. وبعد أيامٍ، نُقِلَ أكثر من 300 ألف من سكَّان نينغبو، وهي مدينةٌ صينيةٌ أخرى، بعد التحذيرات الأولى من هبوب إعصار. ورغم أن الفيضانات كانت واسعة النطاق، لم يُبلَغ عن أيِّ وفيات.
مثل العديد من عواقب تغيُّر المناخ، فإن هطول الأمطار الغزيرة والمُفاجِئة أمرٌ يتعيَّن أن تتكيَّف معه المدن. ولكن في بعض الأحيان يكون الأمر شديداً إلى درجة أن الشيء الوحيد الذي يجب فعله هو إبعاد الناس عن الطريق.
عربي بوست