حروب “غزة” الصعبة.. إنجاز في الميدان.. وإخفاق في الإستثمار..قراءة في الأسباب والحلول
أحمد عبد الرحمن*
على شريطٍ ساحليٍّ صغير لا تتجاوز مساحته 365 كلم مربع يقع ” قطاع غزة ” الذي يعيش فيه أكثر من مليوني مواطن فلسطيني في ظروف صعبة وقاهرة ، تحيط بهم الأسوار من كل مكان ، ويحاصرهم الفقر والعَوَز من كل اتجاه ، وتُحاك ضدهم المؤامرات والمكائد من القريب والبعيد ، وتُشن ضدهم الحروب تلو الحروب ، والهجمات تلو الهجمات ، إلا أنهم في كل مرة ينجحون في صد الأعداء ، ويتمكنون من الخروج من عنق الزجاجة بنصر جديد يُضاف إلى سلسلة انتصاراتهم المبهرة رغم قلة الزاد وضعف الإمكانيات .
لكن رغم تلك الإنجازات العظيمة ، ورغم ذلك الصمود الأسطوري ، إلا أن “الاستثمار” الذي يجب أن يلي أي انتصار ، وأن يتبع أي إنجاز لم يكن للأسف على النحو المطلوب والمأمول، ولم تشهد حياة المواطن أي تحسن يُذكر ، أو أي تقدم يُشار إليه بالبنان .
فما هي الأسباب التي تقف خلف ذلك ، ومن هي الجهات التي تجهض تلك الانتصارات وتفرغها من مضمونها ، وما هو السبيل لترجمة انتصارات الميدان لتنعكس إيجابا على احوال الناس الصعبة والقاسية .
وقبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نستعرض في عجالة أهم الحروب العسكرية التي استهدفت قطاع غزة خلال العشرة سنوات الاخيرة ، والتي شهدت تحقيق المقاومة الفلسطينية لإنجازات عسكرية مهمة أمام آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة والمدعومة من كل قوى الشر في العالم ، ونستعرض نتائج تلك المعارك وما أسفرت عنه من اتفاقات وتفاهمات .
ففي يوم الأربعاء الموافق الواحد والعشرون من نوفمبر عام 2012 أعلن وزير الخارجية المصري آنذاك “محمد كامل عمرو” التوصل لتهدئة بين المقاومة الفلسطينية من جهة والعدو الإسرائيلي من جهة أخرى ، ذلك الإعلان الذي جاء بحضور وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلينتون نص على وقف تام للنشاطات العسكرية بين الطرفين ، وعلى فتح جميع المعابر التي يستفيد منها قطاع غزة لحركة البضائع والأفراد بما فيها تلك التي تربط القطاع بالأراضي المحتلة عام 48 م ، كما نص على عدم التعرض للمزارعين في أراضيهم المتاخمة للسياج الحدودي ، وهذا الوضع ينسحب على الصيادين في بحر غزة .
في تلك المعركة التي استمرت ثمانية أيام على خلفية اغتيال اسرائيل للقائد في كتائب القسام الشهيد “أحمد الجعبري” دفع العدو ثمنا كبيرا ، وقُصفت لأول مرة عاصمته السياسية والاقتصادية تل أبيب بصواريخ ” فجر 5 ” التي زودت بها ” إيران” فصائل المقاومة الفلسطينية .
بعد انتهاء تلك المعركة بأيام قليلة نفضت ” إسرائيل ” يدها من ذلك الاتفاق ، وتعاملت معه وكأنه وقف متبادل لإطلاق النار، دون التقيّد بأيٍ من شروطه التي أُتفق عليها .
بعد أقل من عامين على تهدئة 2012م شنت ” إسرائيل ” حربا جديدة على قطاع غزة استمرت لمدة واحدٍ وخمسين يوما ، كانت الخسائر فيها كبيرة لدى الطرفين ، ولكن الخسارة “الإسرائيلية” كانت مختلفة هذه المرة ، إذ تمكنت المقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت من أسر ضابطين إسرائيليين ، وقتلت العشرات من الجنود في عمليات جريئة خلف خطوط العدو ، وقصفت معظم المدن الإسرائيلية برشقات كبيرة من الصواريخ التي تجاوز مدى البعض منها مائة وستون كيلومترا .
بعد توقف تلك المواجهة “القاسية” توصل الطرفان لاتفاق تهدئة مشابه لما تم التوصل إليه بعد عدوان 2012 م، مضافا إليه الحديث عن إعادة بناء وتجهيز “مطار غزة الدولي” الذي جرى تدميره عامي 2001 و2002 ، وكذلك “ميناء بحري” يربط القطاع بالعالم الخارجي ، بالإضافة لتسهيلات عديدة أخرى .
وكما هي العادة تنصلت ” إسرائيل ” من معظم تلك الالتزامات ، ولم يرَ النور من ذلك الاتفاق إلا بعض التسهيلات على المعابر خصوصا تلك الخاصة بإدخال مواد البناء لإعادة إعمار ما تم تدميره من بيوت ومنشئات بفعل القصف الإسرائيلي الهمجي .
استمر هذا التنصل الإسرائيلي من التزامات تهدئة 2014م حتى هذا العام ، الذي تعاظمت فيه خروقاته واستفزازاته حتى وصلت للمكان الأكثر قداسة لدي الفلسطينيين وهو “المسجد الاقصى المبارك” ، حيث زاد تغوّل المستوطنين الصهاينة بحماية من الجيش والشرطة ، وأصبح اقتحام ساحات المسجد الأقصى أمراً معتاداً يتكرر بشكل شبه يومي، إضافةً إلى محاولة طرد أهالي حي الشيخ جراح شرقي القدس المحتلة من بيوتهم والاستيلاء عليها بالقوة .
كل ذلك أدى لاندلاع مواجهة عسكرية من العيار الثقيل في العاشر من مايو/أيار الماضي بين المقاومة الفلسطينية في غزة وبين الجيش الإسرائيلي استمرت أحدَ عشرَ يوماً ، بدأت باستهداف جيب عسكري صهيوني بصاروخ ” كورنيت ” شرق غزة ومن ثم تبعها قصف مدينة القدس المحتلة بصواريخ متوسطة المدي ، كانت تلك البداية فقط ، حيث أخذ القتال يتصاعد يوما بعد يوم واستخدمت فيه صواريخ طويلة المدى وصلت لأقصى جنوب الأراضي المحتلة على بعد حوالي 250 كيلومترا، واستخدمت كذلك الطائرات المسيرة الانتحارية لمهاجمة مواقع وتحشدات العدو .
في تلك المواجهة التي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم ” سيف القدس ” قُصفت مدينة ” تل أبيب ” بمئات الصواريخ الثقيلة ، وبلغ حجم الدمار فيها مستوىً قياسياً لم يصله في أي معركة سابقة ، وزاد الضغط على العدو الصهيوني بعد انتفاضة فلسطينيي الداخل المحتل ، وهبة الضفة المحتلة ، وقاربت الجبهة الداخلية للعدو على الانهيار .
بعد هذه المعركة “الصعبة” التي سجلت فيها المقاومة نصراً واضحاً وجليّاً تم الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار يلتزم بموجبه العدو الصهيوني بوقف اقتحامات مستوطنيه وجنوده للمسجد الاقصى المبارك ، ورفع يده عن حي الشيخ جراح ، والتخفيف من حصار القطاع ، والسماح بإعمار ما تم تدميره من منازل المواطنين ومصانعهم ومنشآتهم.
حتى كتابة هذا المقال لم ينفذ العدو كعادته أي من بنود ذلك الاتفاق ، بل زاد من اقتحاماته للأقصى ، وفرض حصار مطبق على حي الشيخ جراح ، وتوسعت محاولات المصادرة والسرقة لتشمل أحياءً أخرى في مدينة القدس ، واستمر إغلاق معابر غزة ، ومُنع إدخال مواد البناء والكثير من السلع الضرورية الأخرى ، ولم يتم السماح بدخول أموال المنحة القطرية التي يستفيد منها الآلاف من الفقراء والمعوزين في قطاع غزة المحاصر .
وبالتالي أصبحنا أمام مشهد مُكرر ، مشهد يشبه بالتمام والكمال تجربة الحروب والمواجهات السابقة ، وخلاصته تشير إلى أن ما تحققه المقاومة من إنجازات عسكرية في الميدان لا يتم استثماره في السياسة ، وأن التضحيات الكبيرة التي يقدمها المقاتلون والمجاهدون أثناء الحرب لا تنعكس إيجابا على حياة السكان بالشكل المطلوب ، ولا تُحدث فارقا ملحوظا كما هو المأمول .
وهذا يُعيدنا للمربع الأول في هذا المقال ، ما هي الأسباب ؟ ومن هو المسئول ؟ ولماذا ننجح في الاداء ونُخفق في الاستثمار !!
وهنا يمكن لنا أن نحدد أربعة أسباب رئيسية توصلنا بعد كل مواجهة إلى هذه النتيجة وهي كالتالي :
أولا : ضعف وعدم كفاءة الوسطاء الإقليميين من جهة ، وتحيّز الوسطاء الدوليين والأمميين من جهة أخرى ، وهذا السبب لا يحتاج كثيرا من الشرح والتفسير ، فالوسيط المصري الاكثر نشاطا في هذا الجانب ومعه القطري والتركي لا يملكون أوراقاً للضغط على الجانب الإسرائيلي ، وتأثيرهم لا يكاد يٌذكر ، اما الوسيط الدولي والأممي فهو مرتهن للموقف الأمريكي المنحاز والداعم للعدو الصهيوني .
ثانيا : الانقسام الداخلي وعدم وجود موقف موحد للفلسطينيين ، وهذا الانقسام يُضعف كثيرا من قوة الموقف ويقلل من حجم تأثيره ، خصوصا إذا ما عرفنا أن مواقف “السلطة الفلسطينية” المعترف بها دوليا لا تتوافق مع مواقف فصائل المقاومة بل تتناقض معه في أحيان كثيرة .
ثالثا : عدم وجود ظهير قوي وفعال لقوى المقاومة في المؤسسات الدولية والاممية ، وهذا الظهير والداعم كان يمكن له حال توافره أن يمارس ضغطا مؤثرا على الجانب الصهيوني ، ويُسهم في إلزام العدو بالإيفاء بتعهداته وعدم التنصل منها .
رابعا : التجاذبات الداخلية الصهيونية ، والتي تشكّل ضغطا على صاحب القرار في إسرائيل والذي يخشى من خسارة أصوات ناخبيه وداعميه خصوصا مع توالي إجراء الانتخابات البرلمانية، وعدم استقرار منظومة الحكم لدي العدو وهذا مرشح للاستمرار في ظل حكومة التناقضات الحالية .
وبالتالي نحن أمام معضلة حقيقية ادت وما زالت إلى التقليل من نتائج الانتصارات التي حققتها المقاومة الفلسطينية ، وزادت بصورة أو بأخرى من معاناة شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة بالتحديد .
وإذا اردنا ان نتجاوزها أو ان نقلل من آثارها على أقل تقدير فيجب معالجة تلك الأسباب المشار إليها آنفا خصوصا الثلاثة الاولى منها ، فالبحث عن وسيط قوي ومحايد وقادر على فرض التفاهمات والتوافقات على جميع الأطراف بات أمراً مهما وضروريا ً ، وتوحيد الموقف والخطاب الوطني الفلسطيني على قاعدة مشروع المقاومة وليس أي شيء آخر أمرٌ لا مفر منه ، وهو من الضرورة بمكان شأنه شأن مواجهة العدو في الميدان ، وكذلك ترسيخ العلاقات وتمتينها مع القوى الإقليمية والدولية خصوصا تلك المناوئة لإسرائيل وأمريكا أو على أقل تقدير تلك التي تتباين مصالحها مع مصالح الإسرائيلي والأمريكي على قاعدة “عدو عدوي صديقي” .
في حال توافر تلك الحلول فنحن نعتقد أن انعكاس أي معركة جديدة مع العدو سيختلف تماما عن أي معركة سابقة ، وأن النتائج التي نتمناها ونصبو إليها ستكون أقرب لأرض الواقع من أي وقت آخر .
* المصدر : رأي اليوم
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع