بين معركتين.. ماذا تغيّر في تكتيكات محور المقاومة؟
محمد منصور*
على الرغم من أن الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، كانت بمثابة نقطة تحوّل في الأداء العسكري لمحور المقاومة بصورة عامة، ولحزب الله على نحو خاص، انتقل من خلالها التكتيك العسكري في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي من الاعتماد بصورة شبه حصرية على الضربات الصاروخية والكمائن الخاصة، إلى مرحلة جديدة تعتمد على مبدأ “الحرب الشاملة”، إلاّ أن الأداء المتفوق لفصائل المقاومة الفلسطينية خلال الجولة الأخيرة من المعارك مع “إسرائيل” في أيار/مايو الماضي، يمكن اعتباره بمثابة تدشين لمرحلة أخرى في الأداء العسكري لفصائل هذا المحور، تدخل فيه بصورة دائمة أنواع جديدة من التقنيات العسكرية، التي تساهم على نحو أكبر في تشتيت المجهود العسكري المعادي، بالشكل الذي رأيناه بوضوح خلال الجولة الأخيرة من المعارك.
حرب تموز/يوليو كانت، في حد ذاتها، تدشيناً لانتهاء عصر الحروب التقليدية، وبدء عصر جديد يكون فيه الدور الأساسي من نصيب تكتيكات حرب العصابات الممزوجة بمنظومات القيادة والسيطرة والمنظومات القتالية المستوحاة من الحروب النظامية. هذا الأسلوب في القتال تم تأكيده، بصورة أكثر وضوحاً، خلال معركة “سيف القدس”. فعلى الرغم من أن دور البطولة كان لسلاح الصواريخ – كما كانت الحال عام 2006 – فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي وجد نفسه أمام مجموعة مغايرة ومتنوعة من التهديدات الميدانية، يمكن أن نصفها مجتمعة بأنها أحد تطبيقات مبدأ “الحرب الشاملة”.
دخول الطائرات المسيَّرة بقوة في تكتيكات المحور
التهديد الأبرز ضمن هذه التهديدات كان للأنظمة الجوية المسيّرة، فلقد كان لحزب الله ضربة البداية في إدخال هذه الأنظمة ضمن الذهنية العسكرية الاستراتيجية لكل فصائل محور المقاومة، حين استخدم بصورة محدودة للمرة الأولى هذه الأنظمة خلال حرب عام 2006، وتحديداً الطائرات من دون طيار، من نوعي “مرصاد – 1” و”مرصاد – 2″، والتي استخدمها في استطلاع المناطق الحدودية مع فلسطين المحتلة، وذلك بعد تجربتين سابقتين قام خلالهما باستطلاع مناطق الجليل الأعلى في فلسطين المحتلة عامي 2004 و2005.
أهمية هذه المنظومات دفعت الحزب إلى توسيع دائرة تطوير قدراته واختبارها خلال السنوات اللاحقة، وكانت أول تجربة في تشرين الأول/أكتوبر 2012، حين اخترقت إحدى طائراته المسيَّرة أجواء جنوبيّ فلسطين المحتلة في صحراء النقب. وتكرّر هذا في نيسان/أبريل 2013 عبر استخدام طائرات “أيوب 1″، التي نفّذت تحليقاً استطلاعياً قرب سواحل مدينة حيفا، في رسالة فسّرتها الأوساط الإسرائيلية آنذاك بأنها تحذير من إمكان استهداف منصّات التنقيب عن الغاز قبالة سواحل فلسطين المحتلة. جدير بالذكر هنا أن الحزب قام عام 2014 بتنفيذ عدة عمليات هجومية، مستخدماً للمرة الأولى الطائرات المسيّرة ضد مواقع تنظيم “داعش” في منطقة جرود القلمون.
أظهرت معركة “سيف القدس” أن الفصائل الفلسطينية قامت بالبناء على ما توصَّل إليه حزب الله في هذا المضمار، بحيث ظهرت خلال هذه المعركة للمرة الأولى الطائرات الانتحارية من دون طيار، “شهاب”، التي يشبه تصميمها إلى حدّ كبير طائرات “أبابيل” الإيرانية، ونسختها اليمنية “قاصف”. استخدمت كتائب “القسام” هذه الطائرات على نحو فعال جداً، لاستهداف مواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي ومرابض المدفعية الموجودة في مستوطنات غلاف غزة، وخصوصاً مستوطنات “سدوت نحيف” و”شاعر هنيعف” و”أشكول”. وتميّزت هذه الطائرات بالدقة الشديدة في هجماتها، كما ظهر خلال الهجوم على مصنع للكيماويات في مستوطنة “نير عوز”.
يُضاف إلى ذلك تطوُّرٌ ملموس في استخدام فصائل المقاومة الجانبَ الاستطلاعي من الطائرات من دون طيار، بحيث لم يعد دورها مقتصراً على الاستطلاع الحرّ للمواقع المحيطة بقطاع غزة، بل تم استخدامها – وخصوصاً طائرة “الزواري” الاستطلاعية – في الرصد الدقيق لتحرّكات مدرّعات جيش الاحتلال الإسرائيلي في مستوطنات غلاف غزة، على النحو الذي يعطي طواقمَ الصواريخ ومدافعَ الهاون ومشغّلي الطائرات من دون طيار إحداثياتٍ دقيقةً ومحدَّثة للمواقع الحالية التي تشكل خطراً على العمل المقاوم. وبالتالي، كانت الهجمات الصاروخية التالية من غزة تتّسم بأكبر قدر ممكن من الدقة، وهذا دور لم تمارسه الطائرات من دون طيار، التابعة لحزب الله، خلال حرب تموز/يوليو 2006.
حضور متزايد في البحر
ربما لم يكن للجانب البحري – إن استثنينا الحالة اليمنية – دورٌ كبير في الاستراتيجية العسكرية لفصائل المقاومة، لكن كان لحزب الله أيضاً ضربة البداية في هذا الصدد، حين استخدم خلال حرب تموز 2006 للمرة الأولى الصواريخ المضادة للقطع البحرية، وتحديداً الصواريخ الصينية الصنع “سي – 802″، من أجل استهداف زورق صاروخي إسرائيلي من فئة “ساعر-5″، وزورق دورية سريع من فئة “سوبر ديفورا”. فصائل غزة، منذ ما قبل معركة “سيف القدس”، عملت على تطوير التعامل التكتيكي في الجانب البحري، ليشمل عدة جوانب أخرى، مستلهمة في ذلك التجربة الناجحة لجماعة “أنصار الله” اليمنية في التعامل مع الأهداف العدائية البحرية.
ظهر هذا جلياً خلال المناورات المشتركة لفصائل المقاومة في غزة في أيلول/سبتمبر 2020، حين ظهر خلال فعاليات هذه المناورات التركيز الواضح على عمليات الضفادع البشرية الخاصة، وخصوصاً عمليات النسف تحت الماء، ونشر الألغام البحرية، ناهيك بتدرب فرق الغوص التابعة للمقاومة على الغوص حتى أعماق كبيرة، وانتشالها كميات كبيرة من الذخائر الغارقة من حطام بعض السفن البريطانية الغارقة قرب سواحل غزة.
هذا التوجه أتى ثماره خلال معركة “سيف القدس”، حين أدخلت فصائل المقاومة الفلسطينية للمرة الأولى عمليات الضفادع البشرية كأحد أسلحتها في المواجهة العسكرية المباشرة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وذلك عبر عمليات خاصة تم تنفيذها ضد إحدى منصّات الغاز قبالة ساحل غزة، وأيضاً ضدّ إحدى القطع البحرية الإسرائيلية، وهو تطور نوعي تزداد أهميته إذا وضعنا في الاعتبار أن التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن هذه الهجمات تمت باستخدام مركَبات غاطسة لنقل الغواصين، تستطيع حمل شحنات متفجرة، زنتها بين 30 و50 كيلوغراماً. وهو ما يشكّل تهديداً جدياً لكلّ أنواع القطع البحرية الإسرائيلية، بما في ذلك الغواصات، وهي وسائط قتالية كانت حتى وقت قريب في منأى عن قبضة فصائل المقاومة.
تطوُّر أساليب استخدام مضادّات الدروع من لبنان إلى غزة
من أهم الجوانب التي ظهرت أهميتها في الاستراتيجية العسكرية لمحور المقاومة بصورة عامة، “الصواريخُ المضادّة للدروع”، فلقد شهدت حرب تموز/يوليو 2006 استخداماً مكثفاً وفعالاً للقواذف المضادة للدروع، مثل القواذف الروسية “آر بي جي 29″ و”كورنيت”. وتحوّلت الدبابات الإسرائيلية إلى مقابر لأطقمها وللمشاة المتحرّكين معها، وخصوصاً في معركة “وادي الحجير”.
تنبّهت فصائل المقاومة في غزة أيضاً لأهمية هذا السلاح، وخصوصاً أنه يتيح ضرب القطع المدرَّعة المعادية على مسافات تتراوح بين 3 و5 كيلومترات، فعكفت خلال السنوات الماضية على تطوير تكتيكات استخدام هذا السلاح، وفق مستويات النوع والكمّ والأسلوب، فباتت تمتلك مجموعة متنوعة من أنواع القواذف المضادة للدروع، الروسية والكورية الشمالية.
خلال معركة “سيف القدس”، كانت صواريخ “كورنيت” الروسية المضادة للدروع هي فاتحة بدء المواجهة العسكرية الميدانية، حين استهدفت كتائب “القسام” بصاروخ من هذا النوع عربةً تابعة لمنظومة استخبارات حرس الحدود الإسرائيلي. ثم، في هجوم آخر، تم تدمير عربة عسكرية إسرائيلية، قرب مستوطنة “نيف هعسراه” شمالي قطاع غزة. وأعقب ذلك هجومان آخران، استهدف الأول شاحنة تنقل دبابة من نوع “ميركافا”، والثاني استهدف حافلة لنقل الجنود.
دقة الإصابات المحقَّقة في الهجمات الأربع كانت أكبر من المستوى الذي كانت عليه أطقم الصواريخ المضادة للدروع في فصائل المقاومة الفلسطينية خلال حرب عام 2008، وهذا كان مؤشّراً على التطور الملحوظ في القدرات المَهارية لهذه الطواقم، نظراً إلى أن هذا النوع من الصواريخ يحتاج إلى عدة متطلبات ميدانية، تتراوح بين الرصد الدقيق، والتموضع في أماكن مستترة، ومموّهة وقريبة في الوقت نفسه من الهدف. وهي مهمة صعبة بالنظر إلى التحليق المستمر للمروحيات الإسرائيلية من أجل تتبّع حركة طواقم هذه الصواريخ في المناطق الزراعية، المتاخمة لمستوطنات غلاف غزة.
هنا، ظهر تطور آخر في تكتيكات الفصائل الفلسطينية في هذا الصدد، بحيث باتت الفرق المكلَّفة استخدام هذه الصواريخ، مقسَّمة إلى قسمين أساسيين، بحسب نوع الهدف المراد ضربه. القسم الأول عبارة عن فريق متكامل، يتكوّن من فرد للتوجيه والإطلاق، وفرد للمراقبة والرصد، وفرد لمُهمات الحراسة والقنص، وفرد مسلّح بقاذف مضادّ للطائرات. وهذه الفِرَق تُستخدم في العمليات التي تقتضي وجود الأفراد فتراتٍ طويلةً نسبياً في موقع واحد. أمّا القسم الثاني فهو عبارة عن فرد واحد فقط، تم تزويده بمعدات خاصة تسمح له بحمل مِنصة الإطلاق وصاروخها على ظهره، بدلاً من استخدام طاقم مكوَّن من ثلاثة أشخاص لنقل هذه المنظومة ونصبها وتشغيلها، كما يحدث عادة. وهو ما وفّر كثيراً في القوة البشرية اللازمة، وجعل من اليسير توجيهها إلى العمل في اتجاهات أخرى أكثر أهمية.
هذا التكتيك بالتحديد جعل القيادة العسكرية الإسرائيلية تبدأ للمرة الأولى تفعيل استخدامها الروبوتاتِ القتاليةَ في المناطق المحيطة بقطاع غزة، بحيث استخدمت في الدوريات الملاصقة للقطاع الروبوت القتالي “جاكوار” على طول الحدود مع قطاع غزة، وقد طوّرته شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين، من أجل أن يتم دمجه في فرقة “غزة” ليحل محل وحدات المشاة الراجلة والمؤلَّلة، التي تتولى الحراسة في هذا النطاق.
تزايد أشكال التهديدات التي تواجه جيش الاحتلال
من التغيُّرات المهمة التي يمكن إضافتها في هذا الصدد، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان عام 2006 يواجه مقاتلي حزب الله في جنوبي لبنان، في حين أنه، في عام 2021، لم يكن يقاتل فقط في اتجاه قطاع غزة، بل وجد نفسه بمعية المنظومتين الإسرائيليتين السياسية والأمنية، أمام تحدٍّ أمني خطير، يتمثّل بما يشبه “انتفاضة” أطلقها الفلسطينيون في كل مناطق الداخل الفلسطيني المحتل، اشتبكوا خلالها مع المستوطنين الإسرائيليين في جميع المدن، من اللد وطبريا والرملة وعكا وحيفا ويافا وأم الفحم وكفر كنا، وصولًا إلى حي الشيخ جراح في القدس المحتلة. وهو وضع كان – إلى جانب الصمود الواضح لفصائل المقاومة الفلسطينية في ميدانياً – سبباً رئيسياً في إحجام الجيش الإسرائيلي عن إطلاق عملية برية نحو قطاع غزة.
المؤكَّد أن أشياء كثيرة تغيَّرت، ميدانياً وتكتيكياً واستراتيجياً، منذ عام 2006 حتى عام 2021، لكن تبقى حقيقة أساسية، مفادها أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان طوال عقود مضت هو المبادر دائماً إلى الهجوم، من دون أن تكون هناك تهديدات جدية بالنسبة إلى مواقعه وتمركزاته في عمق أراضي فلسطين المحتلة، بات منذ عام 2006 أمام تهديدات دائمة ومتعدّدة الأنواع لمختلف مراكزه داخل الأراضي المحتلة. والأهم أن هذه التهديدات باتت من الشمال ومن الجنوب، وأصبح مدى صواريخ المقاومتين اللبنانية والفلسطينية يغطّي فعلياً كل مناطق فلسطين المحتلة.
* المصدر : الميادين نت