السياسية: متابعات : صادق سريع

بعد عقود من “الاستقلال” ما زالت تطارد شعوب المستعمرات القديمة بالتدخلات العسكرية واستنزاف الموارد والتواطؤ في جرائم الحكام الطغاة من “أصدقائها”

بعض شعوب مستعمراتها السابقة تطبق عليها لقب “الأم الحنون”.. من باب المحبة أو السخرية.

يحمل اللقب مفارقة أن تكون فرنسا هي الأم، وقوة الاحتلال الغاشمة التي تُخضع الشعوب وتسرق ثرواتهم، والأخطر من ذلك كله تحاول أن تمحو هويتهم الثقافية.

نعم، تنفرد فرنسا بين قوى الاستعمار القديم بأنها فعلت ما بوسعها لضم المستعمرات ثقافياً.

كما تنفرد بأنها لم تغادر المستعمرات السابقة.

جنودها خرجوا من إفريقيا وآسيا، صحيح، لكنها بقيت عبر اتفاقيات وشراكات، وعبر خطط طويلة المدى لتحديد النخب الحاكمة الآن والتعاون معها، وفرز واختيار النخب التي تحكم غداً، وإعدادها “حكام المستقبل” في باريس.

في مرحلة الاستعمار ارتكب الاحتلال الفرنسي فظائع لا تسقط بتعاقب الليل والنهار، لإخضاع “السكان الأصليين” ثقافياً وإنسانياً.

وفي مرحلة ما بعد الاستعمار تلاعبت بالشعوب والعروش، وخططت الانقلابات، ودكت بطائراتها خصوم “الأنظمة الصديقة” بلا تردد.

لكنها لا تعترف بذلك صراحة، ولا تعتذر بوضوح وشجاعة. 

“لم تفهم فرنسا، أثناء محاولتها منع نشوب صراع إقليمي أو حرب أهلية، أنها في الواقع تقف إلى جانب نظام إبادة جماعية”.

هكذا مثلاً أقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علناً بـ”المسؤولية الجسيمة” لفرنسا في الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، وقال إن الناجين فقط هم من يمكنهم منح “هدية الغفران”.

هذا بالنص ما اعتبرته وسائل الإعلام أقوى اعتراف علني بالمسؤولية من زعيم فرنسي حتى الآن.

رغم تعهده بأنه “لن يتمكن أي مرتكب جريمة إبادة جماعية مشتبه به من تجنب العدالة”، لأن “الاعتراف بماضينا هو أيضاً- وقبل كل شيء- يكمل عمل العدالة”.

لكنه لم يتحدث عن عدم محاكمة الجناة الذين يعيش بعضهم في فرنسا منذ سنوات!

كان يريد إرضاء المدافعين عن حقوق الإنسان، لكنه أغضبهم.

في هذا التقرير نستعرض أساليب فرنسا التي أخضعت بها المستعمرات، ونماذج من الجرائم الإنسانية والقانونية التي ارتكبتها، خاصة في إفريقيا، وعلى رأسها حروب إدماج السكان الأصليين بالثقافة الفرنسية، ومحو هويتهم. وينتهي التقرير بالنهب المتواصل للمستعمرات بعد منحها “الاستقلال” منتصف القرن الماضي.

الاحتلاللم يكُن مجرد بندقية ودبابة

أطلقت فرنسا أنشطتها الاستعمارية عام 1524، بمغامرات فردية للتجار والمستكشفين، حتى بسطت حكمها الاستعماري في النهاية على 20 دولة بين شمالي وغربي القارة الإفريقية. وعلى مدار 3 قرون خضع ثلث مناطق القارة السمراء للسيطرة الفرنسية.

بدأت الهيمنة الفرنسية على إفريقيا في القرن السابع عشر، عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال.
ونقل التجار الفرنسيون ملايين الرقيق من إفريقيا إلى الكاريبي وهايتي، أي إلى المستعمرات الفرنسية في العالم الجديد، بواسطة سفن فرنسية. 

خلال فترة الاستعمار اتبعت سياسات الاستيعاب من خلال فرض أنظمتها الثقافية وقيمها. 
ونجحت في صناعة “نخب إفريقية” تدافع عن الاستعمار وتحارب أفكار الاستقلال.

مع تراجع قوة الدولة العثمانية سارعت فرنسا إلى احتلال الجزائر عام 1830، ثم التوسع في شمال إفريقيا.
وعندما دقت طبول الحرب العالمية الأولى، كانت فرنسا جاهزة بأكثر من مليون جندي إفريقي، ألقت بهم إلى ساحات القتال ضمن جيشها.

بعد الحرب العالمية الثانية، منحت فرنسا مستعمراتها في إفريقيا استقلالاً هزيلاً ومشروطاً.

الجزائر نموذجاً:
المجازر على خلفية الحرب الثقافية

كل الجزائريين يشعرون أنهم غير مستقلين بالكامل. لا يزالون يشعرون أن الاستعمار لا يزال مهيمناً على حياتهم. 

كيف؟

للإجابة تكفي نظرة إلى مراحل سياسة الاستعمار الفرنسي الثقافية طيلة 132 سنة بتفاصيلها المدمرة للثقافة الوطنية ببعديها العربي والإسلامي، كما وردت في كتاب “سياسة الثقافة الفرنسية في الجزائر”، الذي كتبته الباحثة الفرنسية كامي ريسلير Camille Risler. 

يحكي الكتاب عن بداية “الحرب الثقافية” ضد أهل الجزائر، تحت شعار “الإدماج”: شكل الاحتلال لجاناً للبحث في الأدب والفنون، وإنشاء جمعيات الآثار، وإصدار المجلات ومنها المجلة الإفريقية التي استمرت إلى غاية الاستقلال، ومن خلال الدراسات الأنثربولوجية تم تصوير المجتمع الجزائري على أنه كان مستعمَراً من قبل باحتلال روماني ثم عربي، والاحتلال الفرنسي أكثر شرعية من سابقيه.

ثم خاض الاحتلال حملات على الثقافة الإسلامية بتأميم الأوقاف، والتحكم في المساجد والزوايا وتقليص تأثيرها 

الأخطر كان منع الأطفال من الالتحاق بالمدارس القرآنية، والرقابة على الحج باعتباره المنفذ على الشرق وهو خطير.

ونشطت حركة التنصير، مع التركيز على منطقة القبائل.

تم تلوين كل الأنشطة الثقافية بالروح الفرنسية، الهندسة المعمارية والتماثيل، أسماء الشوارع، الفنون الجميلة، الأدب والمسرح… إلخ.

كل هذه المراحل أثمرت نتيجتين مباشرتين:

بروز نخبة مثقفة تعلمت في مدارس فرنسية تحت رعاية المحتل، وأصبحت أداة طيعة في يده لضرب الثقافة العربية الإسلامية.

ثم بدأ صراع فكري ثقافي وديني بين المعربين الذين تتلمذوا في الزوايا، والمدارس القرآنية، والكتاتيب، والمفرنسين الذين تتلمذوا في التعليم الرسمي الفرنسي، ويحملون راية الفكر الغربي والثقافة الهدامة.

السطور التالية تسترجع ذكريات من سنوات الجمر التي عاشها الجزائريون تحت الاحتلال.

نماذج من التاريخ الأسود لجرائم فرنسا

في 2017 أثناء حملته الانتخابية قال إيمانويل ماكرون إن استعمار فرنسا للجزائر كان “جريمة ضد الإنسانية” 

وفي 2018 أقرّ أيضاً بأن بلاده مسؤولة عن إقامة “نظام تعذيب” إبان استعمار الجزائر.

بين 1830 ويوليو/تموز 1962، اقترفت فرنسا العديد من المجازر والجرائم بحق مئات الآلاف من الجزائريين.. هنا بعض الأمثلة.

مجازر 8 مايو/أيار 1945 في شرق الجزائر

​جنَّدت فرنسا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية آلاف الجزائريين. وفي المقابل وعدتهم بمنحهم المواطنة الكاملة. إلا أن الجنسية الفرنسية ذهبت للأوروبيين واليهود فقط، في حين بقي الآخرون في خانة “الأهالي المحليين والمسلمين”. 

وفهمَ الجزائريون الطامحون للاستقلال أنهم لن يكونوا أبداً فرنسيين، رغم مساهمتهم في انتصار فرنسا.

ففي ذلك اليوم سقط آلاف القتلى الجزائريين برصاص الشرطة والجيش وميليشيات المستوطنين، بسبب رفع الجزائريين لعلم بلادهم.

تجارب نووية ما زالت تؤذي الجزائريين حتى الآن 

في صباح 13 فبراير/شباط 1960، استيقظ سكان منطقة رقان الواقعة بالجنوب الغربي نحو الساعة السابعة وأربع دقائق على وقع انفجار ضخم ومريع.

لقد قرّرت فرنسا أن تجعل من سكان الجزائر حقلاً للتجارب النووية، وفجّرت القنبلة الأولى هناك تحت اسم اليربوع الأزرق Gerboise Bleue، تيمناً بأول لون من العلم الفرنسي.

أدى الانفجار إلى ظهور عدة أمراض سرطانية وجلدية وتنفسية لسكان المناطق، التي صُنفت في خانة الجرائم ضد الإنسانية.

بين 1960 و1966 أجرت باريس 17 تجربة نووية، تسببت في مقتل 42 ألف جزائري بإشعاعات نووية، على عهدة رئيس الهيئة الجزائرية لترقية الصحة وتطوير البحث (فورام)، مصطفى خياطي.

مجزرة نهر السين بباريس ضد المظاهرات السلمية

قبل خمسة أشهر من انتهاء الحرب الجزائرية، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، تحول شارع “سان ميشال” بالعاصمة الفرنسية باريس إلى مسرح مذبحة بشعة ضد الجزائريين.

مساء ذلك اليوم، خرجت ثلاث مسيرات احتجاجية بطريقة سلمية، وردت الشرطة الفرنسية بكل العنف، وقتلت بعض المتظاهرين العزّل.

الشرطة اعتقلت نحو 12 ألف جزائري، وتعرضوا للاستجواب والإهانة والضرب والتعذيب، والقتل، حسب شهود.

كما رحّلت السلطات آلاف العمال الجزائريين من باريس وضواحيها إلى الجزائر، بسبب مشاركتهم في المظاهرات.

ويقدر المسؤولون الجزائريون ضحايا قمع مظاهرات 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بما بين 300 و400 قتيل، ألقي بجثث العشرات منهم في نهر السين، فضلاً عن المفقودين.

سرقة الجماجم لأسباب سياسية وأنثروبولوجية

في شهر مارس/آذار 2011 ظهرت الجريمة الفرنسية ضد أبطال المقاومة، بعد تحركات للباحث الجزائري علي فريد بالقاضي المقيم في فرنسا.

كشفت جهود الباحث عن قتل جزائريين والتنكيل بجثثهم، وسرقة جماجم العديد منهم والاحتفاظ بها في علب من الورق المقوّى داخل خزانات حديدية في قاعة منعزلة بمتحف “الإنسان” بعيداً عن العيون.

بثّت قناة “فرنسا 24″ الفرنسية تقريراً كشفت فيه عن 18 ألف جمجمة محفوظة بالمتحف؛ منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها، من ضمنهم 36 قائداً من المقاومة الجزائرية قُتلوا ثم قُطعت رؤوسهم من قِبل قوات الاستعمار أواسط القرن الـ19، ثم نُقلت إلى باريس لدوافع سياسية وأنثروبولوجية.

الاستقلال ليس مجرد خروج جيش الاحتلال

في خطاب ماكرون عام 2017 بدولة بوركينا فاسو، أعلن نهاية ما يُسمَّى فرنسافريك أو Françafrique، وهي الاستراتيجية الفرنسية لممارسة النفوذ العسكري والسياسي والتجاري على مستعمراتها السابقة في القارة.

و”فرنسافريك” ليست منظمة ولا هيئة ذات وجود.

لكنها تلك “الروح الفرنسية” في حكم المستعمرات السمراء، ومحاولات تغيير هويتها، واستنزاف مواردها.

بدأت هذه الاستراتيجية في عام 1944، بسعي شارل ديغول، رئيس الحكومة، لتدشين اتحاد “فرنسي إفريقي”، يحفظ به مكانة فرنسا في مستعمراتها ويعزز به مكانتها الدولية.

كان ديغول يعرف أن الانسحاب الفرنسي من المستعمرات بات وشيكاً، وكان يسعى للحفاظ على إفريقيا الناطقة بالفرنسية.

كان لا بدّ من إيجاد صيغة وإن كانت غير قانونية للبقاء هناك.

لم يدم الاتحاد طويلاً، غير أنه نجح في خلق شبكة مصالح مهمتها إبقاء دول غرب ووسط إفريقيا تحت سيطرة فرنسا، حتى بعد خروجها عسكرياً منها.

كان دور الشبكة تأمين الحصول على المواد الخام الاستراتيجية للقارة مثل النفط واليورانيوم وغيرهما.

وتوفير أسواق متميزة للشركات متعددة الجنسيات الفرنسية.

وضمان بقاء القواعد العسكرية لحماية مصالحها عند الخطر.

وإلزام جميع الدول الإفريقية جنوب الصحراء باتباع السياسة الفرنسية في المحافل الدولية.

ولدى وصول شارل ديغول إلى منصب الرئيس عام 1958، وقّع اتفاقاً مع 14 مستعمرة سابقة في إفريقيا تحصل بموجبه على استقلالها في خلال عامين.

والمقابل؟

اتفاق للتعاون الأمني مع فرنسا يلزم هذه الدول بالتحالف معها في حال خوضها أي حرب.

إلزام الدول الموقّعة بوضع نسبة من النقد الأجنبي لهذه الدول تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي.

كما أعطى الاتفاق لفرنسا الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام تُكتَشف في أراضي مستعمراتها السابقة.

منح الشركات الفرنسية أولوية في أي أنشطة اقتصادية في هذه البلاد.

واحتكرت باريس وحدها عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية في هذه البلدان.

أبرمت فرنسا عقوداً مع حكام تلك البلدان تضمن فيها الحماية العسكرية لهم في الحروب أو الانقلابات.

ومقابل ملايين من الدولارات كعمولات للحكام تمكنت الشركات الفرنسية من استغلال الموارد الاستراتيجية كالألماس واليورانيوم والغاز والنفط بلا منافسين.

الوجود الفرنسي ملحوظ اليوم في القارة: 1100 شركة كبرى، و2100 شركة صغرى وثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة.

السطور التالية تقدم نماذج من الصندوق الأسود للشبكة الفرنسية في إفريقيا، لنتعرف على الوجه الفرنسي لما بعد الاحتلال العسكري.

دعم الديكتاتوريات والانقلابات والاغتيالات السياسية

لا حدود أمام مصلحة فرنسا العليا في إفريقيا، حتى وإن اقتضى الحال تغيير رؤساء عبر الانقلابات والاغتيالات السياسية.

وتشير بعض التقارير إلى أن فرنسا تدخلت عسكرياً في إفريقيا نحو خمسين مرة بين 1960 و2020.

لباريس فرق استخباراتية وأمنية تمرح في ربوع القارة السمراء، لتنفيذ خططها هناك دون معارضة أحد. 

من هذه الشبكات مصلحة الوثائق الخارجية ومكافحة التجسس SDECE.

ووكالة الاستخبارات الفرنسية DGSE.

والإدارة العامة للأمن.

وبالطبع إدارة الاستخبارات العسكرية المعنية بالدعاية لصالح فرنسا وخصوصاً عند الأزمات في إفريقيا.

وبالطبع إدارة الاستخبارات العسكرية المعنية بالدعاية لصالح فرنسا وخصوصاً عند الأزمات في إفريقيا.

وكمثال على عمل هذه المجموعات ما حدث في غينيا عام 1944.

حينها أعلن الرئيس الغيني أحمد سيكو توري رفضه التوقيع على اتفاقية التبعية السياسية والاقتصادية لفرنسا بعد مؤتمر برازافيل سنة 1944.

ولم يمضِ إلا وقت قليل حتى أغرقت المخابرات الفرنسية غينيا بالعملات المزيفة، وأضرت كثيراً باقتصادها.

ثم سحبت جنودها من هناك كما سحبت أسلحة الشرطة والدرك.

وأوقفت إنشاء الطرقات والمدارس وتدريب الكوادر الإدارية للدولة الوليدة، ودمرت جميع ممتلكاتها السابقة في غينيا.

الفرنك الإفريقي يحمي الاقتصاد الفرنسي

الفرنك الإفريقي هو عملة موروثة من الاستعمار الفرنسي، وهو نظام تخضع بموجبه 15 دولة إفريقية، من بينها 12 مستعمرة فرنسية سابقة، للنظام المصرفي الفرنسي.

بدأت الحكاية عام 1945، بإصدار فرنسا عملة “فرنك المستعمرات الفرنسية في إفريقيا” CFA.

وفي سنة 1958، أي بعد استقلال هذه المستعمرات، أصبح “فرنك المجموعة المالية الإفريقية”.

بفضل السيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب إفريقيا، تمكَّنت فرنسا من تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من مستعمراتها السابقة.

إن الاتفاق كان يشترط على دول الفرنك وضع 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بها للبنك المركزي الفرنسي، قبل تخفيض هذه النسبة إلى 50% عام 2005، تحت ذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي.

بنين/ بوركينا فاسو/ غينيا بيساو/ ساحل العاج/ مالي/ النيجر/ السنغال/ توغو/ الكاميرون/ إفريقيا الوسطى/ تشاد/ الكونغو برازافيل/ غينيا الاستوائية/ الغابون

السيطرة على نفط الغابون ويورانيوم النيجر

كان الدافع الأكبر لتأسيس الشبكات الفرنسية في إفريقيا، تأمين الحصول على مصادر آمنة ودائمة للطاقة.

هكذا كانت الغابون أول وجهةٍ لشركة إلف آكيتين Elf Aquitaine، وهي شركة المحروقات الرئيسية في فرنسا، التي أصبح اسمها لاحقاً “توتال”.

أقامت آبارها الأولى في الغابون، وتوسعت حتى صارت محدداً أساسياً لعلاقات فرنسا وإفريقيا.

وسيطرت فرنسا على اليورانيوم الموجود في الصحراء الإفريقية.

تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية. وظلت شركة أريفا الفرنسية Areva على مدى قرون أربعة ماضية تهيمن على حقوق استغلال اليورانيوم في النيجر، إلى أن ظهرت شركات هندية وصينية وغيرها.

والتدخلات العسكرية مستمرة بعد “الاستقلال” 

منتصف القرن الماضي استقلت كل المستعمرات الفرنسية، إلا أن نفوذ باريس بقي في أغلب المستعمرات، حتى إنها منحت نفسها حق التدخل العسكري لحماية مصالحها.

ولا حدود أمام مصلحة فرنسا في إفريقيا، حتى وإن اقتضى الحال تغيير رؤساء عبر الانقلابات والاغتيالات السياسية ودعم ديكتاتوريات وغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان. وتشير بعض التقارير إلى أن فرنسا تدخلت عسكرياً في إفريقيا نحو خمسين مرة بين 1960 و2020.

هنا نماذج من هذه التدخلات:جمهورية إفريقيا الوسطى 1979: انقلاب من أجل اليورانيوم

أوقفت فرنسا مساعداتها لحليفها التقليدي بحجة قمع الإمبراطور بوكاسا للمعارضة، إلا أن السبب الأبرز كان تقاربه مع القذافي.

بينما كان بوكاسا في ليبيا، تم إطلاق عملية باراكودا العسكرية لطرده من السلطة. سقطت العاصمة بانغي تحت سيطرة فرنسا، وأعلن مستشار بوكاسا نهاية المملكة وإعادة الجمهورية.

تشاد عام 1983: حرب فرنسية على المعارضة

وصل الجنود الفرنسيون إلى تشاد بطلب من الرئيس حسين حبري، لمساعدته في القضاء على تمرد في شمال البلاد.

استمرت العملية سنة كاملة، سقط خلالها عشرات القتلى من الجانب الفرنسي.

في 1986 نشرت فرنسا قوة في تشاد خلال حربها مع ليبيا، لضمان أمن الفرنسيين في تشاد.

جزر القمر 1978: انقلاب لصالح “صديقنا عبدالله”

تولى أحمد عبدالله الرئاسة في جزر القمر بفضل انقلاب نظمه المرتزق الفرنسي بوب دينارد.

عزز عبدالله سلطته وألغى الحرس الرئاسي ومنصب رئيس الوزراء واعتمد دستوراً جديداً يسمح له بالترشح لولاية أخرى بإذن من فرنسا.

بعد 11 عاماً اغتيل أحمد عبدالله بتحريض من الجيش، وقام دينارد والحرس الرئاسي بانقلاب تم خلاله نزع سلاح الجيش النظامي وعزل رئيس المحكمة العليا.

كوت ديفوار 2002: بناء على طلب الحكومة

بدأت فرنسا عملية عسكرية بشكل مستقل عن عملية الأمم المتحدة، لتتدخل في أزمة سياسية كانت تعيشها البلاد.

أرسلت فرنسا وحدات عسكرية كبيرة بطلب من الحكومة الإيفوارية، واستهدفت المتمردين والمدنيين بعمليات عسكرية.

أدى الغضب المتزايد من الإيفواريين ضد الفرنسيين إلى أعمال شغب “معادية للفرنسية” في العديد من المدن.

مالي ربيع 2012: مطاردة “القاعدة”.. والثروة المعدنية

سقط شمال مالي الذي تعتبره فرنسا منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها، في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة.

وسارعت فرنسا إلى التدخل العسكري لوقف زحف الجماعات المسلحة على باماكو، ضمن عملية عسكرية حملت اسم “سرفال”.

هكذا إذاً..فرنسا لم تغادر مستعمراتها “لغوياً”

ربما تُمثِّل فرنسا النموذج الأسوأ والأكثر صراحة في حماية مصالحها على حساب شعوب المستعمرات.

بريطانيا وبلجيكا وألمانيا والبرتغال، ومن بعدها الولايات المتحدة وروسيا والصين، لم تكن أقل شراسة.

لكن فرنسا كانت استعماراً عنيفاً يرتكب المجازر بلا تردد.

ولصاً يسرق ثروات الشعوب بالقوة، أو بعقود مع النخبة التي أتى بها لتحكم بعد خروجه.

وكانت فرنسا بعد كل هذا عدواً ثقافياً للشعوب التي استعمرتها.

انتهجت فرنسا طيلة سنوات الاستعمار سياسات الفرنسة، أي إحلال اللغة الفرنسية محل اللغات الوطنية في جميع مجالات الحياة، لتصبح اللغة الفرنسية تدريجياً لغة الإدارة والحكم و”النخبة”.

الآثار الممتدة للاستعمار والإملاءات على الدول الإفريقية واضحة حتى اليوم، والعلاقة بين باريس ومستعمراتها السابقة التي نالت الاستقلال عام 1960، ما زالت في الغالب علاقة المركز بالهامش.

ليس فقط في وسط وغرب إفريقيا، بل في الدول العربية التي خضعت للاستعمار الفرنسي، مثل الجزائر وتونس ولبنان.

بعد استعراض نهب الثروات والتدخلات العسكرية بعد الاستعمار، السطور التالية تقدم نموذجين لمحاولات فرنسا محو الهوية الثقافية للمستعمرات، من الجزائر وتونس.

الجزائر بدأت الحرب الثقافية قبل الاستقلال

في 2020، عندما اقترحت حركة “مجتمع السلم” الجزائرية تجريم استخدام الفرنسية بالمؤسسات والوثائق الرسمية، عادت للواجهة قضية تهميش اللغة العربية الرسمية، وجدل الهوية بالمجتمع.

اعتبر المؤيدون أن “تجريم اللغة الفرنسية مقابل تعميم اللغة العربية في المؤسسات والوثائق الرسمية” خلاص نهائي من التبعية الثقافية والسياسية لفرنسا بصفتها المستعمر القديم.

واعتبرت الحركة اللغتين العربية والأمازيغية “شقيقتين تنتميان عبر قرون من الزمن إلى بُعد حضاري واحد في ديباجة الدستور”.

بينما رأى آخرون في الدعوة استهدافاً للنخبة الفرانكفونية في البلاد! منتقدين طرح رئيس الحركة عبدالرزاق مقري الذي درس الطب باللغة الفرنسية ويحمل “أفكاراً مستوردة”.

ودعت الحركة إلى إدراج بند في الدستور يجرم استعمال اللغة الفرنسية في المؤسسات والوثائق الرسمية على حساب اللغة العربية.

وشددت، في بيان عقب اجتماع مكتبها التنفيذي، على ضرورة “تجريم استعمال الفرنسية كلغة تداول في المؤسسات الرسمية، وكلغة تعامل في الوثائق الرسمية”.

وينص التعديل الدستوري المطروح للنقاش حالياً على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية الأولى، والأمازيغية لغة رسمية ثانية.

الكاتب المغربي محمد سيفاوي، المقيم بفرنسا، هاجم الفكرة في مقال مطول، قال فيه: “وُلدت في الجزائر، واللغة الفرنسية هي لغتي الأصلية الوحيدة الحقيقية، أقولها وأكررها وأفتخر بها”.

أضاف: “المساس بالفرنسية هو مساس بهوية الكثير من الجزائريين”.

إلى هذا الحد تغلغلت اللغة الفرنسية في النسيج الثقافي للجزائر؟ أم هي لغة “النخبة” فقط؟

المسؤولون الجزائريون، على رأسهم الرئيس بوتفليقة، يخاطبون الجزائريين وكل العالم بالفرنسية كأنها اللغة الرسمية الجزائرية.

ويرى توفيق رباحي، الصحفي الجزائري المعارض المقيم في لندن، أن النخب السياسية والإعلامية والثقافية صاحبة الصوت الأعلى في الجزائر “تبدو مشدودة إلى فرنسا بشكل لافت حفاظاً على مصالحها الثقافية والعقائدية، وخوفاً من تمدد لغة وثقافة أخرى في أوساط الأجيال الجديدة من الجزائريين، عربية كانت أم غير عربية”.

مشكلة الفرنسية مع الجزائريين أنها لغة المستعمر. 

الفرنكوفونيون يبجّلونها كأن لا لغة فوق الأرض غيرها.

والمعرّبون يكرهونها كأنها سبب كل مآسي البلاد.

حرب الاستقلال لم تكن حرب فدائيين في شوارع المدن، وجنود في الجبال فقط.

سبق كل ذلك حرب ثقافية، عبر الجهود التي سبقت الثورة في المدارس القرآنية، وجهود جمعية العلماء المسلمين للحفاظ على مكانة الدين واللغة العربية في المجتمع، هي التي أطرت ثورة التحرير، ومشروع المجتمع الذي أريد له أن يكون.

وتونس تواصل “حرب التعريب” حتى اليوم

تستضيف تونس الدورة 18 لقمة الفرنكوفونية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 بجزيرة جربة، فهل هو حدث سعيد لأبناء “الخضراء”؟

ترويج الفرنسية وتعزيز التعاون بين الدّول الناطقة بها هدف كبير ونبيل، إلا أن ارتباط اللغة الفرنسية بالدولة التي كانت تستعمر دول شمال إفريقيا، وبينها تونس، أثار ولا يزال جدلاً واسعاً حول مكانة هذه اللغة، وارتباطاتها بالموروث الاستعماري.

الروائي وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية نور الدين العلوي يقول إن التعريب بعد رحيل الفرنسيين دفعة واحدة “كان مكلفاً ومؤذناً بعطالة كاملة

يضيف: أصبحت الإدارة تونسية بالكامل بعد عقدين من الاستقلال، ولكن فشلت من حيث المضمون؛ فالكادر التونسي تحول إلى نسخة من الكادر الفرنسي.

يفكر بالفرنسية.

ويحافظ على قدسية العلاقة مع الدولة الفرنسية في مجال الاقتصاد والثقافة ونمط التفكير عامة.

توجد في هذا التعميم استثناءات قليلة، لكنها استثناءات تؤكد قاعدة، كما يضيف العلوي.

واستعمال اللغة الفرنسية لدى التونسيين متفاوت حسب درجة التعليم، لذلك اعتُبرت علامة وجاهة، وتعكس الطبقة الاجتماعية للمتحدثين بها.

وارتبطت أكثر فأكثر بالأحياء الراقية والمناطق السّاحلية لقربها من المدارس الفرنسية وأيضاً المنشآت السياحية.

خرجت فرنسا من مستعمراتها، وبقيت روحها ويدها الطويلة وعصاها الغليظة.

تركت رجالها الذين ربتهم على عينها ليعيثوا في شعوبهم حكماً باطشاً فاسداً.

تركت شبكات مصالح مرتبطة باقتصادها.

إذ كيف تفرّط فرنسا في منجم كبير مليء بمصادر الطاقة والمعادن النفيسة والموارد الطبيعية، وسوق واسع لتصريف بضاعتها وصناعاتها؟!

يلخص الرئيس الفرنسي ميتران هذا الوضع بقوله: “بدون إفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الحادي والعشرين”.

ويؤكد ذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك حين يقول: “بدون إفريقيا، فرنسا سوف تنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث”.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع