ما هي أزمة الاستعصاء السياسي في لبنان؟
الخلاف المستعصي بين رئاسة الجمهورية اللبنانية ورئيس الحكومة المكلّف، هو أحد مظاهر انهيار مؤسسات الدولة، وهو يدلّ، إلى جانب مظاهر الانهيار الأخرى، على أنَّ الاهتراء المستشري يفرض إعادة تأسيس الدولة والنظام.
قاسم عز الدين *
الخلافات الحادة في لبنان بشأن الصلاحيات الدستورية وما يُسمى “حقوق الطوائف”، ليست حالة عرَضية؛ فمنذ أمد بعيد، لم يعد من الممكن تأليف حكومة أو معالجة شوائب النظام العليل من دون وصاية عربية وأجنبية تأخذ على عاتقها ترقيع النظام ورعاية مصالحها، عبر “استرضاء” الطبقة السياسية.
الأزمة الحالية التي تمنع تأليف حكومة هي الأكثر حدّة، بسبب عدم استعداد الوصاية السعودية والفرنسية لدفع تكاليف “الاسترضاء”، متيقّنة أن المزيد من الانهيار والفوضى الأمنية يؤديان إلى وقوع لبنان لقمة سائغة، ووقوع المقاومة في نهاية المطاف.
وفي هذا السياق، تراهن مجموعة الرئيس سعد الحريري على انتظار الانتخابات التشريعية العام المقبل، ثم الانتخابات الرئاسية، أملاً بتغيير المعادلات في مجلس النواب ورئاسة الجمهورية، بينما تراهن الرئاسة على منع سحب البساط من تحت أقدامها.
حصاد زرع الطائف
ما تتكشّف عنه الأزمات الدستورية والسياسية، وكذلك إفلاس الاقتصاد والمصرف المركزي وانهيار إدارات الدولة والمجتمع… جرى تأسيسه في وثيقة اتفاق “الطائف” في العام 1989، والتي أنهت الحرب الضروس تحت الوصاية السعودية – السورية – الفرنسية، وشقّت طريق تعميم الخراب وانحلال هيكل الدولة.
الحرب التي دامت 15 سنة مستمرّة، جاءت إثر حروب ساخنة وباردة دائمة منذ إنشاء “دولة لبنان الكبير” في العام 1943، لكنَّها كانت الأكثر تعبيراً عن عدم قابلية إصلاح ما أفسد الدهر في أسس النظام المنتجَة لأزمات مستعصية في سياسات الدولة، وفي تفسّخ سلطة الحكم، وفي تقسيم المجتمع وتفتيته.
المحاولة اليتيمة التي حفظت هيكل الدولة وإداراتها طيلة سنوات الحرب، أطلقها الرئيس فؤاد شهاب بدعم من الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أطاح حلف بغداد الأميركي في العام 1958، وتلاقى مع الشهابية على بناء هياكل الدولة في سياساتها الخارجيّة والداخليّة.
قلّم التلاقي الناصري ــ الشهابي براثن الزعامات السياسيّة، عبر إنشاء مؤسَّسات وإدارات دولة مستقلّة عن سيطرتها، تنظّم عملها بنفسها لرعاية الحقوق الجامعة وتآلف قاعدة المواطنين (مجلس الخدمة المدنية، مجالس التفتيش والمراقبة، الضمان الاجتماعي وقوانين العمل والنقابات…). وقد ظلّت تحفظ هيكل الدولة بعد انقلاب “الحلف الثلاثي” على الشهابية.
على النقيض من بناء هيكل الدولة، شرّعت وثيقة الطائف تحويل مؤسسات الدولة وإداراتها إلى مزارع زبائنية، بذريعة “حقوق الطوائف” التي تتقاسم توزيعها محاصصة زعماء الطوائف وأحزابها، فأنشأت إلى جانبها مؤسَّسات نهب وفساد بحجّة “إعادة الإعمار” لتقاسم ديون “باريس 1″ و”باريس 2” بين الزعماء وأتباعهم من رجال المال والأعمال (مجلس الانماء والإعمار، مجلس الجنوب، مجلس المهجّرين)، ودمّرت قطاعات الإنتاج الزراعية والخبرات الصناعية والحرفية في الاعتماد على الاستيراد وتصدير الخضار.
الوصاية السّورية- السّعودية- الفرنسية التي أشرفت على إتمام تعميم النهب والفساد والاهتراء، انقلبت بمشاركة رموز الوصاية السورية (عبد الحليم خدام، غازي كنعان…) على الدولة السورية ورئاسة بشار الأسد في العام 2005 في “ربيع دمشق” (قبل “الربيع العربي”)، بهدف إسقاط الخيار السوري عن محور المقاومة، والمراهنة على نزع سلاح المقاومة في لبنان، والالتحاق بالمحور الغربي- السعودي.
نحو تغيير المسار
أكثر من 3 عقود في إرساء آليات صلبة لتعميم الاهتراء والفساد في الاعتماد على سياسة الديون و”المجتمع الدولي”، لم تترك خرم إبرة في مؤسسات الدولة وإداراتها اسماً على مسمى. والأدهى أنَّها أدّت إلى خلق ثقافة “شعبية” فاسدة، أسيرة تطلّعات إلى الاستهلاك البذيء المستورد، وإلى الزبائنية، دلالة سطحيّة على مظاهر النفوذ ومكانة القطيع.
المراهنة على إصلاح ذات البين بين فرقاء الاحتراب السياسي، وفي عمل المؤسسات المتهالكة، هي أشبه بالهروب إلى “الكيّ على الجلال” على قول فلاحي بلادنا، وهو الكيّ نفسه في المراهنة على “حكومة إنقاذ” ومجلس نيابي جديد.
البلد الّذي يُحتضر نتيجة الإفلاس والتسيّب والعقم السياسي، والمهدّد بفوضى أمنيّة يمكن أن يستغلّها ما هبَّ ودبّ في الخارج والداخل، ليس قابلاً للمعالجة بجرعات مسكّنة منتهية الصلاحية، بل بمعالجة الأسس في إعادة التأسيس، عبر جمعية تأسيسية تحكم وتعيد البناء.
تجارب تغيير المسار وإعادة التأسيس في تاريخ نهوض الدول عديدة ومتنوّعة قبل وصفة النموذج الأميركي المسمّاة “مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية” في إلغاء دور الدولة لمصلحة حرية السوق والتبعية السياسية، مقابل تسعير التنافس والاحتراب على مغانم السلطة.
الجمعية التأسيسية الفرنسية في العام 1789، التي غيّرت النظام الملكي – الإقطاعي إلى نظام جمهوري، أدخلت إلى العمل السياسي لبناء الدولة وسياساتها “الطبقة الثالثة” (منها تسمية العالم الثالث)، فهي لم تقصِ النبلاء الذين انحازوا إلى تغيير المسار تحت ضغط صعود الطبقة الشعبية، ولم تقصِ رجال الدين الذين تخلّوا عن النظام الإقطاعي، لكنها مقابل 330 رجل دين و322 من النبلاء، ضمّت 663 من الشعب، فحكمت وغيّرت المسار والتاريخ.
لقد أرست في مسارها أسس دور الدولة الثابت؛ الدولة المحايدة عن تدخّل السلطة المتحوّلة في الانتخابات (هذا هو معنى الدولة المحايدة)، وهي ثلاثة: أ – سياسة خارجية وطنية. ب – سياسة دفاعية تقوم على الحرب من أجل الحصول على السلم (وليس احتكار خيار السلم لتبرير التحريض على المقاومة القادرة على الردع). ج – سياسة اقتصادية اجتماعية لمصلحة فئات الشغيلة والمزارعين والمنتجين.
لبنان المنكوب بنظام دولته وبطبقته السياسية غنيّ بثرواته البشرية وطاقات “الطبقة الثالثة” الهائلة. وقد لا ينقذه وينقذ المنطقة العربية سوى إمساك الثور من قرنيه.
* المصدر : الميادين نت
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع