السياسية:

عندما غادرت طائرة الرئيس الأمريكي جو بايدن في طريقها إلى أوروبا في زيارته الخارجية الأولى، كانت هناك 3 مهام كبرى يسعى لإنجازها من خلال مهامه المتعددة، وآخرها مع فلاديمير بوتين، فهل عاد إلى واشنطن محققاً أهدافه؟

استمرت زيارة بايدن 5 أيام تقريباً، حضر خلالها قمة مجموعة الدول السبع في بريطانيا، وقمة حلف الناتو في بروكسل، واختتمها بقمته مع نظيره الروسي، وكانت أكثر العبارات ترديداً على لسان الرئيس الأمريكي هي “أمريكا قد عادت”، فماذا أراد تحقيقه؟ وهل نجح أم فشل؟

صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً عبارة عن كشف حساب لتلك الزيارة، بعنوان “ما الذي حققه الرئيس الأمريكي بايدن من زيارته إلى أوروبا؟”، جاء فيه أنه كان على الرئيس الأمريكي إنجاز ثلاث مهام كبرى في أول رحلة خارجية له منذ توليه منصبه: إقناع الحلفاء بأن أمريكا قد عادت، وجمعهم على قضية مشتركة في مواجهة التهديد الصيني المتنامي، وإقرار بعض الخطوط الحمراء للرئيس الروسي.

المهمة الأولى: إقناع الحلفاء أن “أمريكا عادت”

أنجز بايدن المهمة الأولى إلى حد كبير، وذلك رغم أن عديداً من القادة الأوروبيين ما زالوا يتشككون فيما إذا كانت رئاسته قد تكون مجرد فجوة، محصورة بين عهد ترامب وانتخاب زعيم آخر ينتهج مسار “أمريكا أولاً” غير المهتمة بالتحالف الأطلسي العتيق البالغ من العمر 72 عاماً.

فقد كان هدف بايدن الأبرز من تلك الزيارة إعادة الولايات المتحدة إلى أوروبا، وقد افتتح كل محطة من محطات زيارته بنفس الكلمات الثلاث: “لقد عادت أمريكا”. ومن جانبهم، استقبله القادة الأوروبيون بالترحيب الحار، وهم الذين سبق أن تعرضوا لهجمات وانتقادات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي وصفهم بأنهم “ركاب مجانيون”، منقسمون على أنفسهم وغير معنيين إلا بمصالح دولهم.

أما بايدن، فإن ما لم يُقله كان بنفس أهمية ما أفصح عنه، إذ لم يسأل لماذا يجب أن تلتزم الولايات المتحدة بالدفاع عن دول لديها فوائض تجارية عليها، وهو موضوع لطالما تطرق إليه ترامب، لكن بدلاً من ذلك اختار بايدن الحديث عن الفوائد الاقتصادية لتطوير أنواع جديدة من الطاقة النظيفة أو المشروعات المشتركة في تصنيع أشباه الموصلات.

ومع ذلك، لم يتطرق بايدن مباشرة -على الأقل في تصريحاته العامة- إلى المصدر الأساسي لتداعيات الصدمة اللاحقة على عهد ترامب في أوروبا: وهي بالأساس الشكوك المتصاعدة حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية. إذ من الواضح أن بايدن لا يستطيع تقديم أي تنبؤات، فضلاً عن ضمانات، حول ما سيحدث عندما تنتهي فترة ولايته في يناير/كانون الثاني 2025، لذلك لم يحاول أن يفعل ذلك.

وقالت روزا بلفور، مديرة مؤسسة كارنيغي أوروبا، للصحيفة الأمريكية: “لا ينبغي التهوين من شأن سنوات ترامب وما شكَّلته من صدمة للاتحاد الأوروبي. والأدهى أن هناك احتمالاً بعودته إلى الحكم، وأن تعود العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إلى الفتور مرة أخرى، لذا فإن الاتحاد الأوروبي أكثر حذراً في تبني مطالب الولايات المتحدة”.

ومع ذلك، أوضح بايدن للأوروبيين أن أفضل ضمانة ضد أي رئيس آخر شبيه بالرئيس الأمريكي السابق ترامب هو العمل معه لبيانِ أن الديمقراطيات ما زالت قيد العمل والفاعلية، ولمواجهة التحدي الصيني.

تقوية الحلف الغربي لمواجهة الصين

وحقق بايدن بعض النجاحات في مهمته الثانية، على الأقل في بعض دول أوروبا، حيث كان هناك تردد كبير حيال التفكير في الصين والنظر إليها، أولاً من جهة كونها تهديداً من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وثانياً من جهة كونها شريكاً اقتصادياً.

في هذا السياق، جاء الحل أخيراً لمشكلة بارزة كانت قائمة، وأتى القرار بإلغاء تحصيل 11.5 مليار دولار من الرسوم الجمركية، ليعبِّر عن تصميم مشترك (من الولايات المتحدة وأوروبا) على تجنب الاعتماد على سلسلة التوريد الصينية في الحصول على منتجات صناعة الطيران، وإبطاء دخول الصين في مجال صناعة الطائرات التجارية. وكان النص الضمني للاتفاق هو البدء في إشراك أوروبا في “الانفصال” عن النفوذ الاقتصادي الصيني.

وعلى هذا النحو، جاءت تصريحات توماس باغر، وهو دبلوماسي ألماني يعمل مستشاراً لرئيس البلاد، بأنه إلى جانب الشعور الملموس بالارتياح لرسالة بايدن القائلة بعودة أمريكا إلى ساحة التعاون مع أوروبا، فقد لاحظ الأوروبيون أيضاً أن “مركز ثقل السياسة الأمريكية آخذٌ في التغير، وأن التأثير المركزي لصعود الصين على حساب المصالح الأمريكية ستكون له عواقب وخيمة على أوروبا، وعلى أي حكومة ألمانية جديدة”.

ومن جانب آخر، فإن كلاً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي لطالما كانت الصوت الأقوى في تأييد معاملة الصين كشريكٍ أولاً، قبل أن تكون منافساً، أعربا عن بعض القلق فيما يتعلق بفرض نوعٍ من التوازن مع الصين، التي تعد شريكاً تجارياً مهماً، وطرفاً لا غنى عنه فيما يتعلق بحل أزمة المناخ، كما أنها ليست قوة عسكرية في أوروبا [على غرار روسيا].

وقالت ميركل: “إذا التفتنا إلى التهديدات الإلكترونية وتهديدات الحروب الهجينة [التي تشمل الحروب التقليدية وغير النظامية والحروب السيبرانية]، وإذا نظرنا إلى مدى التعاون بين روسيا والصين، سيتبين أنك لا يمكنك ببساطة تجاهل الصين”، لكنها أشارت أيضاً إلى أن “المرء لا يجب أن يبالغ في تهويل الأمر أيضاً، ومن ثم فنحن بحاجة إلى إيجاد التوازن المناسب”.

كان السياق الكامن الآخر خلف كواليس زيارة بايدن هو عدم ارتياح بعض القادة الأوروبيين لتصريحات بايدن المتكررة بأن صراع العصر هو “الديمقراطية في مواجهة الاستبداد”. فقد قال عديد من المسؤولين الأوروبيين على هامش الاجتماعات إن الأمر لا يتعلق بأنهم مختلفون في ذلك، بل الخشية من أن تكون كلمات بايدن سبباً في مزيد من الانقسام وسبيلاً يؤدي إلى حرب باردة جديدة.

ويقول الأوروبيون إنهم يتفهمون قلق بايدن من كون استراتيجية الصين التكنولوجية تتمحور حول بناء أنظمة شبكات خلوية وكابلات بحرية ومحطات فضائية من شأنها أن تمنح الصين القدرة على قطع الاتصالات أو مراقبتها سراً.

وهم لا يعارضون جهود البيت الأبيض لوقف الاستثمار الأمريكي في الشركات الصينية التي تبيع برامج التعرف على الوجه، و”خوارزميات الرصيد الاجتماعي” التي تستخدمها بكين لمراقبة المعارضة وقمعها واضطهاد الأقلية المسلمة، لكنّ الأوروبيين حتى الآن لم يعلنوا انضمامهم إلى ما قاله وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عندما أشار إلى سياسات بكين ضد الإيغور والأقليات العرقية الأخرى ذات الغالبية المسلمة على أنها إبادة جماعية. لذلك قلَّص بايدن من حديثه عن الاستبداد في مواجهة الديمقراطية في هذه الرحلة. وقد آتى هذا أُكله.

مع ذلك، يقول جيمس إم ليندسي، مدير الدراسات في “مجلس العلاقات الخارجية، إن “بايدن تلقى كلمات موافقة من الأوروبيين، لكنه لم يحصل على أفعال. وفي حين أن تسوية بعض القضايا التجارية هي بداية جيدة للغاية، إلا أن الأمر لا يتعلق بالكيفية التي تبدأ بها، بل التي تُتِمّ بها، وكيف تُترجم المشاعر الواردة في البيانات إلى سياسات مشتركة، وهذا هو ما سيكون صعباً للغاية”.

التحدي الأبرز: ترويض الدب الروسي

أما فيما يتعلق بالمهمة الثالثة، فقد أعرب بايدن عن تفاؤل حذر بشأن إمكانية إيجاد طرق للتوصل إلى تسوية لائقة مع بوتين، لكن أياً من المبادرات المحدودة التي وصفها الرجلان يوم الأربعاء 16 يونيو/حزيران، بعد اجتماع مكثف استمر ثلاث ساعات على ضفاف بحيرة جنيف، لم تكشف على الإطلاق عن اتجاهها إلى تغيير جوهري في ديناميكية التحركات السلبية بين البلدين.

وقال أحد كبار مساعدي بايدن بعد انتهاء الاجتماع: “إن [بايدن] متفائل على الدوام” بأن بوتين، على الرغم من تاريخه الطويل في الجهود الرامية إلى تقويض التحالف الغربي، قد يرى ميزة في تغيير مساره.

وقد صمَّم بايدن مسار رحلته بعناية، بحيث تُبرز الإصلاحات التي أُجريت على التحالف قبل الذهاب للقاء الرئيس الروسي بوتين. وأوضح بايدن أنه يريد تقديمَ جبهة موحدة في مواجهة الزعيم الروسي، لإثبات أنه في حقبة ما بعد ترامب، عادت الولايات المتحدة وحلفاء الناتو ليكونوا على قلب رجل واحد.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – رويترز

وأتاحت تلك الخطوات للرئيس الأمريكي فرصةَ اتخاذ نبرةٍ أكثر ليونة عندما وصل إلى جنيف لحضور اجتماعه مع الرئيس الروسي، إذ سعى إلى تصوير بوتين على أنه زعيم منعزل تبدو عليه أمارات القلق بشأن مستقبل بلاده.

وقال بايدن إن اقتصاد بوتين “يعاني”، وأن بلاده تواجه حدوداً طويلة مع الصين في وقتٍ “انعقد فيه عزم” بكين على فرض هيمنتها. وأشار إلى أن بوتين: “لا يزال، على ما أعتقد، قلقاً بشأن خطط لـ(تطويق) بلاده. ولا يزال يشعر بالقلق من أننا، في حقيقة الأمر، نتطلع إلى القضاء عليه”، لكنه أضاف أنه لا يعتقد أن تلك المخاوف الأمنية “هي القوة الدافعة لنوع العلاقة التي يبحث عنها بوتين مع الولايات المتحدة”.

ولاختبارِ مدى استعداد الرئيس الروسي للتعامل معه ومع تهديداته بجدية، وضع بايدن العمل على كيفية تحسين “الاستقرار الاستراتيجي” كاختبار أول، وقال إن الهدف هو فرض مزيدٍ من القيود على إدخال “أسلحة جديدة وخطيرة ومتطورة أخذت تظهر على الساحة الآن، وتتقلص معها أوقات الاستجابة، ما يزيد من احتمالات نشوب حرب عرضية” في أي وقت.

كان التفاوض بشأن هذه المسائل قد أُهمل منذ فترة طويلة، وإذا نجح بايدن في مساعيه بتقييد إنتاج هذه الأسلحة، فإن هذا قد يوفر مئات المليارات من الدولارات التي كانت ستُنفق على مزيد من الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والأسلحة الفضائية، أو تطوير أنظمة جديدة لحمل الصواريخ النووية.

ومع ذلك، فليس من المرجح أن يردع أي من ذلك بوتين عن المضي قدماً في عالم الأسلحة السيبرانية، التي تعتبر رخيصة الثمن وتعطيه أدوات جديدة لفرض نفوذه كل يوم، ولذلك حذَّر بايدن في أثناء المؤتمر الصحفي من أن الولايات المتحدة “لديها قدرات إلكترونية كبيرة”، وقال إن بوتين “لا يعرف بالضبط مداها، لكن إذا انتهك الروس هذه المعايير الأساسية فإن الولايات المتحدة سترد على هذه الهجمات السيبرانية”.

امتلكت الولايات المتحدة هذه القدرات لسنوات، لكنها ترددت في استخدامها، خشية أن يتصاعد الصراع السيبراني مع روسيا إلى نطاق أوسع بكثير.

ومن جهة أخرى، يعتقد بايدن أن بوتين معنيٌّ بشدة بالحفاظ على نفسه ومنصبه، لدرجة أنه لن يسمح بوصول الصراع إلى حدٍّ يهدد ذلك. وهو ما أشار إليه قبل ركوب طائرة الرئاسة مباشرة للعودة إلى الولايات المتحدة: “عليك أن تعرف ما هي مصالح الطرف الآخر، مصالحهم هم، أما أنا، فلا أثق بأحد”.

عربي بوست