السياسية:

ما نراه اليوم من قيام بكين بتعزيز سيطرتها على الشركات الكبرى جزء من صراع خفي نشب بين الشركات الصينية وبين حكومتها على البيانات، صراع بدا فيه أن مسؤولي النظام قلقون من أن الأمور قد تخرج عن سيطرتهم لصالح الشركات الكبرى.

فبعد مدة وجيزة من وصوله إلى السلطة في 2012، خرج الرئيس الصيني شي جين بينغ في أول زيارة يخوضها إلى إحدى الشركات بوصفه قائد الحزب الشيوعي الصيني، وكانت هذه الشركة هي Tencent Holdings المتخصصة في التكنولوجيا وخدمات الإنترنت. أثار الرئيس الصيني خلال زيارته موضوعاً صار يشكل فرصة وتحدياً كذلك خلال حكمه: وهو الكم الهائل من البيانات التي جمعتها شركات التقنية في البلاد.

أثنى الرئيس شي على مؤسس شركة Tencent، بوني ما، وأطرى على الطريقة التي تجمع بها الشركة معلومات خاصة بملايين من المستخدمين، وعلى تسخير هذه البيانات لقيادة الإبداع. وأشار كذلك إلى أن تلك البيانات يمكن أن تكون مفيدة لبكين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.

وبحسب روايات وسائل الإعلام الرسمية، خاطب الرئيس الصيني رجل الأعمال بوني ما قائلاً: “لديك البيانات الأكثر كفاية، تستطيع إذاً إجراء التحليل الأدق والأكثر موضوعية. المقترحات المقدمة إلى الحكومة في هذا الشأن تعد قيّمةً للغاية”.

وبعد أكثر من 8 أعوام، تتحول هذه المقترحات إلى مطالب. تطلب الحكومة الآن من كبرى شركات التقنية التي على شاكلة شركة Tencent، وشركة Alibaba Group Holding Ltd عملاقة البيع عبر الإنترنت، وكذلك شركة  ByteDance Ltd التي تملك تطبيق تيك توك، أن تتيح لها الاطلاع على البيانات التي تجمعها هذه الشركات من منصات التواصل الاجتماعي ومنصات التجارة الإلكترونية والأعمال التجارية الأخرى، وذلك وفقاً لوثائق رسمية ومقابلات مع شخصيات تشارك في صنع السياسات.

ويبدو أن الشبكة الجديدة المعقدة من القوانين والتشريعات المحيطة بمشاركة السجلات الرقمية، يقودها النمو الهائل للبيانات التي يحوزها عمالقة التقنية الصينيون، ويقودها كذلك اعتقاد من جانب الحكومة الصينية بأنها يجب أن تكون قادرة على الوصول إلى هذه البيانات. كذلك تمثل هذه الجهود جزءاً من مساعي الرئيس شي لكبح جماح قطاع التقنية متزايد القوة، إذ إن القانون الأحدث، الذي مُرر يوم الخميس 10 يونيو/حزيران، سوف يصعِّب على الشركات مقاومة طلبات الحكومة.

الشركات الصينية أصبحت مصدر قلق للمسؤولين

ينتاب القلق الزعماء الصينيين من أن عمالقة التقنية في البلاد قد يستخدمون السجلات الرقمية الشاسعة لأفراد الحكومة وشركاتها من أجل بناء مراكز قوة بديلة في دولة الحزب الواحد. دفع ذلك القلق الرئيس الصيني إلى وقف طرح عام أولي خططت لعقده في العام الماضي شركة Ant Group Co، عملاقة التكنولوجيا المالية المملوكة لرجل الأعمال الصيني جاك ما.

وخلال فترة ولايته، وسَّع الرئيس شي نفوذ الحزب الشيوعي الصيني على الشركات المملوكة للدولة والخاصة على حدٍّ سواء. 

ووجد تحليل أجرته مجلة The Economist البريطانية لعقود تأسيس شركات صينية أنَّ أكثر من 40 منها تتضمن “بناء الحزب” ضمن مهام الشركة.

جهود بكين لا تقتصر على الشركات الصينية، بل تكثف كذلك الضغط على الشركات الأجنبية التي تعمل في الصين كي تُبقي على السجلات التي جمعتها من المستخدمين المحليين داخل البلاد، ومن ثم يكون للحكومة مزيد من السلطة على هذه السجلات. وطالما اشتكت الشركات الغربية من أن مثل هذه المتطلبات “لتوطين البيانات” يمكن أن تخنق الإبداع في عملياتها العالمية، أو تمكّن السلطات الصينية من سرقة معلومات الملكية الخاصة بها.

في أواخر مايو/أيار، تعهدت شركة تسلا للسيارات الكهربائية بأن تشيد مزيداً من مراكز البيانات في الصين وأنها ستبقي المعلومات التي تنتجها السيارات التي تبيعها هناك، داخل حدود الصين. وفي بيان نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي الصينية، قالت تسلا إنها “تشرفت” بالمشاركة في إحدى مناقشات الصناعة حول المسألة.

ما الذي تخشاه الصين من شركاتها؟ 

تخوض العديد من البلاد الآن معركة حول كيفية تنظيم السجلات الرقمية. تؤكد بعض الأنظمة الاقتصادية، ومن بينها الدول الأوروبية، على الحاجة إلى خصوصية البيانات، بينما تركز أنظمة أخرى، مثل الصين وروسيا، على السيطرة الحكومية. لا تملك الولايات المتحدة الآن قانوناً فيدرالياً واحداً يتعلق بحماية البيانات أو تأمينها، وبدلاً من ذلك تُخول سُلطة فضفاضة إلى لجنة التجارة الفيدرالية من أجل حماية المستهلكين من ممارسات البيانات الخادعة أو غير العادلة.

يكمن خلف تحركات الصين شعور متنامٍ بين القادة بأن البيانات التي تُجمع عن طريق الشركات الصينية لاسيما المملوكة للقطاع الخاص، يجب في الأساس أن يُنظر إليها على أنها من الأصول الوطنية، التي يمكن استغلالها أو تقييدها حسب احتياجات الدولة، وذلك وفقاً لأشخاص مشاركين في صنع السياسات. 

تتضمن هذه الاحتياجات إدارة المخاطر المالية، أو تعقب حالات تفشي الفيروس، أو دعم الأولويات الاقتصادية للدولة، أو إجراء رقابة على المجرمين والمعارضين السياسيين، حسب The Wall Street Journal.

كذلك يخشى المسؤولون الصينيون من أن تشارك الشركات البيانات مع شركاء تجاريين أجانب، ما يقوض الأمن القومي. 

ثمة قانونان يشكلان عنصراً أساسياً لجهود بكين في السيطرة على الشركات الصينية، وقد مرر أحدهما يوم الخميس أما الآخر فهو مقترح جرى تحديثه في أبريل/نيسان عن طريق السلطة التشريعية في الصين. وسوف يُخضعان معاً تقريباً جميع الأنشطة المرتبطة بالبيانات لإشراف الحكومة، بما في ذلك جمعها وتخزينها واستخدامها ونقلها. ويعتمد التشريع على قانون الأمن السيبراني لعام 2017، الذي بدأ في تشديد الرقابة على تدفقات البيانات.

سوف يسري قانون أمن البيانات الجديد بدءاً من 1 سبتمبر/أيلول، ويتضمن هدف تصنيف بيانات القطاع الخاص استناداً إلى أهميتها لمصالح الدولة. يقول المحللون والخبراء القانونيون إن الفقرة المصاغة صياغة غامضة تعطي السلطات مزيداً من الحرية للسيطرة على البيانات التي تعد ضرورية للدولة، وفي الوقت ذاته تُصعِّب على الشركات، الصينية والأجنبية، أن تعترض على الأمر.

على غرار أوروبا ولكن مع فارق واحد ضخم

يسعى قانون حماية المعلومات الشخصية المُقتَّرَح، وهو على غرار النظام الأوروبي العام لحماية البيانات، لتقييد نوعية البيانات التي يستطيع القطاع الخاص جمعها. ولكن على عكس قواعد الاتحاد الأوروبي، تفتقر النسخة الصينية إلى القيود المفروضة على الهيئات الحكومية، عندما يتعلق الأمر بجمع المعلومات حول سجلات المكالمات، وقائمة جهات الاتصال، والموقع، والبيانات الأخرى.

يقول المحلل ريان فيداسيوك، الباحث لدى مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بجامعة جورجتاون: “تقليل اجتياح جمع البيانات من جانب القطاع الخاص يعد شيئاً جيداً في كل مكان. لكن جهود الصين حول خصوصية البيانات تدهشني لأن هناك خطوة أخرى لتعزيز دور الحكومة والحزب بدلاً من شركات التقنية”.

وتتخذ السلطات الصينية إجراءات حتى قبل بدء سريان القانون، وذلك في إطار قمع الشركات الصينية وغير الصينية العاملة في مجال التقنية.

آبل تخضع للضغوط

تمارس بكين ضغوطاً على الشركات الأجنبية كي تسير على الخط الذي صيغ بوجود قانون الأمن السيبراني لعام 2017، الذي تضمن بنداً يطلب من الشركات تخزين بياناتها في الأراضي الصينية. اقتُصر ذلك الشرط المطلوب، على الأقل في بداية الأمر، على الشركات التي تعد من “مقدمي البنية التحتية الحيوية”، وهو تصنيف معرف تعريفاً فضفاضاً، وكان يتضمن شركات تقنية ومصارف أجنبية.

وفي اجتماع سري مع شركات أمريكية، رفض المسؤولون الصينيون المخاوف التي تشير إلى أن القاعدة قد تسمح للصين بحيازة معلومات الملكية، أثناء تخزين البيانات التي يُطلب تخزينها في الصين لأغراض أمنية وتنظيمية، وذلك حسبما أفاد أشخاص مطلعون على هذه المناقشات. 

من أجل الامتثال لقواعد الأمن السيبراني الصينية، تعهدت شركة أبل في 2017 بتخزين كافة البيانات السحابية الخاصة بمستخدميها هناك مع شركة حكومية صينية. وشيدت مركز بيانات في الصين من أجل مستخدمي خدمة آي كلاود التي تقدمها، التي تتيح تخزين بيانات تتضمن الصور والوثائق والرسائل والتطبيقات والفيديوهات التي يرفعها مستخدمو أبل في أنحاء أراضي الصين. وقد رفضت أبل التعليق على الأمر.

الشركات سبقت أن اعترضت ورئيس الوزراء كان مؤيداً لمنحها الحرية

في الماضي، كانت الحكومة تطلب البيانات من الشركات الصينية الخاصة، وكانت تفرض رغباتها في بعض الأحيان، لا سيما من أجل تعقب المشتبه بهم جنائياً وإسكات المعارضة. تصدت الشركات الصينية لمقترحات سابقة ترمي إلى الكشف عن إحصاءاتها وجعلها مركزية، وهي إحصاءات على شاكلة عادات اقتراض العملاء وتواريخ الدفع.

على مدى سنوات، دعا مسؤولون بارزون، على رأسهم رئيس مجلس الدولة الصيني (مجلس الوزراء) لي كه تشيانغ، إلى منح الشركات الصينية الخاصة مزيداً من الاستقلالية على صعيد جمع بيانات المستخدمين ومعالجتها، وهو ما أفاد به أشخاص مطلعون على المداولات الداخلية في بكين. كانت الفكرة مرتبطة بتشجيع الشركات على مواصلة الإبداع واستيعاب نموها، بما في ذلك نموها خارج البلاد.

وعلى الجانب الآخر، كان هناك مسؤولون من جهاز الأمن الصيني والهيئات التنظيمية المالية، اعتقدوا أن شركات التقنية تصير كبيرة للغاية ولا تقدم الدعم الكافي لأهداف الدولة. وفي إطار رفضها طلبات مشاركة مزيد من البيانات، أشارت كبرى شركات التقنية الصينية إلى عدم وجود تشريعات ذات صلة.

ولكن الرئيس حسم الأمر

حبّذ الرئيس الصيني بدرجة متزايدة الأصوات التي تدافع عن مزيد من السيطرة الرقمية. ويصف الآن البيانات الضخمة بأنها عنصر ضروري آخر للاقتصاد الصيني، وعلى قدم المساواة مع الأرض والعمل ورأس المال.

بحسب أشخاص مطلعين على النقاشات الداخلية، قال الرئيس في اجتماع خاص: “من يسيطر على البيانات سوف يكون لديه زمام المبادرة”.

صارت الحكومة أكثر عدائية بعد خطاب الملياردير جاك ما في أكتوبر/تشرين الأول، الذي صار الآن سيئ السمعة، والذي أغضب المشرعين عن طريق انتقادهم لأنهم يخنقون الإبداع. وبعد وقت قصير، أوقف الرئيس شي الطرح العام الأولي لشركة Ant Group، التي يسيطر ما على غالبية أسهمها.

الشركات كانت تحاول الاستفادة من البيانات والتهرب من المسؤولية

ويعتقد المشرعون الصينيون أن شركة Ant Group وشركات التكنولوجيا المالية الأخرى، ومن بينها Tencent، احتكرت بيانات المستخدمين لتحظى لنفسها على مميزات غير عادلة أمام المؤسسات المصرفية، وفي الوقت ذاته تُصعّب على الدولة مراقبة المخاطر الائتمانية.

شيدت شركة Ant Group نظام المخاطر الائتمانية الخاص بها مع توسعها في مجال إقراض المستهلكين، ويعزى جزء من هذا إلى استخدام بيانات الإنفاق ودفع الفواتير الخاصة بمستخدمي تطبيق Alipay، الذي يستخدمه أكثر من مليار مستخدم. صارت شركة Ant Group في وضع متقدم بالقطاع المالي الصيني، الذي تهيمن عليه عادةً المصارف الحكومية الصينية. إذ تعمل مع المصارف لتمويل القروض، لكنها لا تتحمل بالضرورة كثيراً من مخاطر التخلف عن السداد.

التشريعات الجديدة المقترحة أواخر العام الماضي من البنك المركزي وأكبر منظم مصرفي في الصين، تطلب من شركات مثل Tencent و Ant Group أن تنقل إحصاءات الائتمان إما إلى نظام مركزي يديره البنك المركزي أو وكالة تصنيف ائتماني تسيطر عليها الحكومة.

قال لي ليهوي، الرئيس السابق لبنك الصين الحكومي، وهو الآن عضو المجلس التشريعي في الصين: “من وجهة نظر الدولة، يجب تعزيز مكافحة احتكار البيانات”. وأضاف أنه يتوقع أن الصين سوف تنشئ “قاعدة بيانات عامة موحدة ومركزية” لتعزيز اقتصادها الرقمي.

رفضت شركة  Tencent و Ant Group التعليق. وخلال استدعاء أرباح شركة Tencent في مارس/آذار، قال رئيس الشركة، مارتن لاو: “سوف نكون متوافقين تماماً مع أي تشريعات سوف تسري”.

مدن صينية تراقب مواطنيها

ثمة مبادرة أخرى قيد التنفيذ وتتضمن تجربة بعض المدن الصينية ما تسمى مراكز البيانات الموحدة، كي تشارك فيها شركات القطاع الخاص البيانات مع السلطات.

وتخطط مدينة شنجن، التي تتخذ منها شركة Tencent مقراً لها، لبناء أحد هذه المراكز، الذي من شأنه أن يساعد في تمركز تخزين ومشاركة والإشراف على البيانات التي جمعتها الهيئات الحكومية وكذلك شركات التمويل والتعليم والاتصالات والمجالات الأخرى.

قدمت المدينة معلومات مفصّلة حول خطتها لاستخدام المعلومات، التي تعرّفها تعريفاً فضفاضاً بأنها “البيانات العامة”. وأكد مسؤول في مدينة شنجن على المبادرة، لكنه رفض التعليق بأكثر من ذلك.

وقد جاء في مشروع لائحة تنظيمية نُشرت عن طريق حكومة شنجن في العام الماضي: “البيانات العامة هي نوع جديد من الأصول المملوكة للدولة، وحقوق بياناتها هي ملك للدولة”.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع