السياسية:

عندما وقع انقلاب عسكري في مالي صيف العام الماضي، انتظر الرئيس الفرنسي قبل إعلان موقفه، لكن ماكرون كان سريعاً في إدانته للانقلاب على الانقلاب في المستعمرة الفرنسية السابقة، فماذا يحدث في مالي؟

فقد وقع الانقلاب الأول في مالي في أغسطس/آب 2020، إذ أطاح العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة العام المقبل 2022، وفي ذلك الوقت تريث ماكرون قبل أن يعبر عن موقف باريس من الانقلاب.

والإثنين الماضي، قام الكولونيل آسيمي غويتا- يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي- باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان وتم احتجازهما في قاعدة عسكرية. لكن ماكرون لم يتأخر دقيقة واحدة وأعلن على الفور إدانته “وبأكبر قدر من الحزم” ما وصفه بأنه “انقلاب داخل الانقلاب”، وطالب بالإفراج الفوري عن نداو ومختار وان و”باستئناف المسار الطبيعي للعملية الانتقالية فوراً”.

القصة من بدايتها

كان هناك زخم شعبي صاحب انقلاب عام 2020 بسبب الحنق على نظام الرئيس كيتا، لكن سرعان ما تلاشى ذلك الزخم سريعاً، حين بدا أن المجلس العسكري، الذي جسَّد التغيير المنشود في البداية، سيكون مجرد تكرارٍ للنظام الذي أطاح به، فلم يتعرّض أي من رجال النظام القديم للاستجواب، حتى مَن وُجِّهَت لهم اتهامات قوية.

وفي الـ14 من مايو/أيار، تقدّم رئيس الوزراء مختار وان باستقالته من الحكومة الجديدة إلى الرئيس باه نداو، الذي أعاد تعيين رئيس الوزراء في منصبه على الفور وطلب منه بدء المحادثات مع الطبقة السياسية من أجل تشكيل الحكومة المقبلة. ولاقت الخطوة ترحاباً لأنّها أعادت تأسيس الحوار بين السلطات الجديدة وبين الطبقة السياسية، التي انهارت في الأشهر التي أعقبت انقلاب عام 2020. لكن الأمور سارت على نحوٍ سيئ.

لكن التعديل الوزاري في ذلك اليوم جاء وسط أجواءٍ شديدة التوتر، حيث كانت حركة 5 يونيو/حزيران الاحتجاجية قد أعلنت عن مظاهرةٍ منتظرة في الرابع من يونيو/حزيران- وهي حركةٌ تُعارض الحكومة الانتقالية وتدعو إلى حل المجلس الانتقالي الوطني.

وفي الوقت ذاته، كان الاتحاد الوطني لعمال مالي قد دخل أسبوعه الثاني من الإضراب الذي كان سيستمر حتى الـ28 من مايو/أيار. وبالنظر إلى الوضع السياسي، وعدم وجود جهة للتفاوض معها في ظل غياب الحكومة؛ قرّر الاتحاد تعليق إضرابه ودعوة أعضائه إلى العودة لأعمالهم يوم 26 من مايو/أيار في انتظار عودة الأمور إلى طبيعتها.

وجرى إعلام جنرالات “اللجنة الوطنية للإنقاذ الشعبي” السابقين بأمر الحكومة الجديدة في نفس الوقت مثلهم مثل الشعب المالي- وذلك من خلال وسائل الإعلام حين نُشِرَت قائمة الوزراء الجُدد في 24 مايو/أيار، وفوجئوا بعدم اختيار اثنين من أعضائهم في الحكومة: وزير الدفاع ساديو كامارا ووزير الأمن والحماية المدنية موديبو كونيه.

انقلاب فوري على الرئيس ورئيس الوزراء

لكن رد فعل الجنرالات لم يتأخر كثيراً، فبعد نحو الساعة من نشر التشكيل الوزاري الجديد، جرى القبض على وان ونداو واصطحابهما إلى المعسكر العسكري في كاتي.

وكان الكولونيل أسيمي غويتا، نائب رئيس الحكومة الانتقالية وقائد المجلس العسكري، واضحاً تماماً في بيانه الذي قُرِئ عبر التلفزيون الرسمي في الـ25 من مايو/أيار. وفيه أدان رئيس الوزراء ورئيس البلاد لتشكيلهما حكومةً جديدة “بدون التشاور مع نائب الرئيس”.

كما أكّد غويتا التزامه بالميثاق الانتقالي، لكن هذا الميثاق ينص صراحةً على أنّه ليس له الحق في استبدال الرئيس الانتقالي، ولم يكُن لمنصب نائب الرئيس وجود قبل الانقلاب، بل جرى استحداثه خصوصاً ليشغله عضوٌ من المجلس العسكري- لهذا يُنظر إلى المنصب على أنّه طريقةٌ يستغلها المجلس العسكري من أجل التخطيط لاحتمالية قيادة العملية الانتقالية.

ولهذا السبب، ربطت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) رفع العقوبات عن مالي بإضافة مادةٍ واضحة إلى الميثاق الانتقالي تنص على أنّ نائب الرئيس لا يمكنه أن يحل محل رئيس الحكومة الانتقالية بنفسه.

الرئيس ورئيس الحكومة في مالي كانا يجسدان الوجه المدني للانتقال الذي يفترض أن يؤدي إلى انتخابات في بداية 2022، في مواجهة الكولونيل غويتا نائب الرئيس ورئيس المجلس العسكري الذي يقف وراء الانقلاب الذي جرى في أغسطس/آب الماضي.

وفي هذا السياق، أشار أندرو ليبوفيتش، الخبير في شؤون منطقة الساحل في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، إلى أن “رد فعل فرنسا يرجع جزئياً إلى العلاقة الجيدة التي أقامتها مع الرئيس نداو الذي كان قد عاد للتو من قمة حول الاقتصاد الإفريقي في باريس”. وتابع لوكالة فرانس برس أن “الحكومة الفرنسية تريد على الأرجح تفادي اضطرابات قد تنجم عن انقلاب عسكري جديد”.

موقف معقد لفرنسا في مستعمراتها الإفريقية

ورأى السفير الفرنسي السابق في مالي نيكولا نورمان أنه “يجب تبني موقف حازم جداً حيال غويتا وهذه مسألة مبدأ”، لكن قد يصعب تمرير الرسالة بعد السابقة التشادية.

وصرح الدبلوماسي الذي يعمل حالياً باحثاً مستقلاً، لفرانس برس: “واجهنا انتقادات كبيرة أصلاً بسبب بعض التساهل في تشاد. قيل كثيراً إن هذا التساهل شجع غويتا. على كل حال اعتبر (وضع فرنسا) سيئاً في مالي”. 

فبعدما فوجئت بمقتل الرئيس إدريس ديبي إتنو حليفها القديم في المنطقة في أبريل/نيسان الماضي، دعمت باريس الانتقال العسكري في تشاد مع الجنرال محمد إدريس ديبي، نجل رئيس الدولة الراحل. ومن جانبها، تشدد الحكومة الفرنسية على الفارق بين البلدين، مشيرة إلى “ظروف استثنائية” بعد مقتل ديبي مقابل “انقلاب جديد على السلطات المدنية” في مالي.

ويوم 25 مايو/أيار، أرسلت إيكواس مبعوثها الانتقالي والرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان إلى مالي، وكان موقف إيكواس والمجتمع الدولي عموماً- متمثلاً في فرنسا والولايات المتحدة والأمم المتحدة- حاسماً في الإفراج عن الرئيس نداو ورئيس الحكومة وان، لكن الواضح أن ذلك لم يغير شيئاً في الموقف.

فقد أطلق الجيش المالي الخميس سراحهما، لكن أكد الجيش أن نداو ووان قد تقدما باستقالتيهما، بحسب ما نقلته فرانس برس عن مسؤول عسكري طلب عدم الكشف عن هويته. وقال المسؤول: “أفرج عن رئيس الوزراء والرئيس الانتقاليين هذه الليلة قرابة الساعة 01:30 (بالتوقيتين المحلي وت غ). لقد احترمنا تعهدنا”.

وأكد أفراد في عائلتي الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان نبأ الإفراج عنهما، وقالت أوساطهما لفرانس برس إنهما عادا إلى منزليهما في باماكو من دون أن تتضح شروط الإفراج عنهما.

والواضح أن المخططين للانقلاب يعون جيداً ضرورة السعي الآن إلى الحصول على دعم الشعب والأطراف السياسية- خاصةً حركة 5 يونيو/حزيران الاحتجاجية التي سهلت انقلاب عام 2020، وفي الوقت نفسه تخفيف الضغوط الدولية التي طالبت بإطلاق سراح الرئيس ورئيس الحكومة.

ورغم أنّ حركة 5 يونيو/حزيران كانت المحرك الأساسي للانقلاب الأول، لكن جرى استبعادها خلال العملية الانتقالية بالكامل – باستثناء قلةٍ من أعضائها. لكن الأوضاع قد تختلف هذه المرة لأنّ المجلس العسكري دعا زعماء الحركة إلى كاتي بعد ساعات من اعتقال الرئيس ورئيس الوزراء. وربما كانت هذه هي طريقة الجيش في عرض مناصب حكومية جديدة على قادة الحركة من أجل كسب دعمهم.

فرنسا ضد روسيا في مالي

منذ اعتقال الرئيس ورئيس وزرائه، تشكّل رأيٌ بعينه بين أنصار المجلس العسكري الذين يرون أنّ الوضع الراهن يرجع إلى المواجهة بين نسختين متباينتين من وجهات النظر، بحسب تقرير لموقع The Conversation الأسترالي.

الأولى يُمثِّلها المسؤولون التنفيذيون الذين تم اعتقالهم والإفراج عنهم بعد استقالتهم، ويرى الكثيرون أنّها مرتبطةٌ بمصالح فرنسا- إذ جاء إعلان الحكومة الجديدة بعد 48 ساعة فقط على عودة نداو من زيارته إلى باريس، والثانية يُمثّلها المجلس العسكري، وهي تعارض نفوذ مستعمر مالي السابق وتُروّج إلى التقارب مع روسيا بدلاً منه.

وتحمل وجهة النظر الثانية ثقلاً كبيراً بين أولئك الذين ينظرون نظرةً سلبية إلى وجود الجيش الفرنسي في مالي، والذين يحتجون بانتظام على العمليات العسكرية الفرنسية داخل البلاد.

والتحليل الفوري لصراع السلطة هذا يُظهِر أنّ أعضاء المجلس العسكري شعروا بالقلق لعدم إشراكهم بالشكل الكافي في تشكيل الحكومة الجديدة، خاصةً بعد إقالة اثنين من أعضائه.

وبعيداً عن خسارة المناصب الوزارية، فمن المحتمل أيضاً أن يكون المجلس العسكري قد رأى في إعلان الحكومة الجديدة بدايةً لعملية إبعاده عن الشؤون السياسية داخل مالي، مما قد يعني بدء مشكلات قانونية للمتورطين، بالنظر إلى أنّ الدستور المالي يعتبر الانقلاب جريمةً لا تسقط بالتقادم.

فما الذي سيحدث لاحقاً؟ من المحتمل أن تحصل الحكومة الانتقالية على دعم إيكواس وشركاء مالي الدوليين، وأهمهم وأولهم فرنسا، والأمر متروكٌ لتلك الأطراف لبحث طريقة التدخل، إذ إنّها هي الوحيدة القادرة على حل هذا الوضع سريع التطور.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع