لماذا تستمر “حرية السلاح” في أميركا بلا حل؟
السياسية – وكالات :
توفي أكثر من 19000 شخص بسبب جرائم القتل في أنحاء الولايات المتحدة عام 2020 بزيادة قدرها 26 في المئة عن العام السابق
طارق الشامي
لا يكاد يمر أسبوع في الولايات المتحدة إلا بتسجيل حادث قتل جماعي أو أكثر بسبب عوامل متباينة أبرزها توافر كثير من الأسلحة في أيدي الناس بعد ما فشلت محاولات متكررة لفرض قيود على امتلاك السلاح بهدف الحد من هذه الحوادث، وعلى الرغم من أن الدستور الأميركي يحمي، في التعديل الثاني منه، حق امتلاك الأسلحة، فإن مقتل آلاف الأميركيين كل عام جعل البعض يصف هذه الحرية بأنها “حرية قاتلة”، فلماذا عجزت الحكومات المتعاقبة عن مواجهة هذه المشكلة المستمرة، وما مبررات المدافعين عن امتلاك السلاح، وهل ينبئ وصف الرئيس جو بايدن الظاهرة بأنها وباء وإحراج دولي لأميركا، بتحرك جاد لمواجهتها؟
أرقام مفزعة
لم يكن حادث إطلاق النار الجماعي في كاليفورنيا، الأربعاء الماضي، 26 مايو (أيار)، الذي أسفر عن مقتل تسعة أشخاص، سوى أحدث عمليات إطلاق النار الجماعية التي أودت بحياة 230 شخصاً حتى الآن هذا العام، وفقاً لسجل أرشيف عنف السلاح في صحيفة “نيويورك تايمز”، الذي يعرف إطلاق النار الجماعي بأنه مقتل أو إصابة أربعة أشخاص على الأقل باستثناء الجاني، في وقت سجل الأرشيف أكثر من 600 عملية إطلاق نار جماعي عام 2020، مقارنة بعدد 417 عملية عام 2019.
لكن عمليات إطلاق النار الجماعية لم تشكل إلا جزءاً بسيطاً من إجمالي حوادث القتل التي استخدمت فيها أسلحة نارية، فقد توفي أكثر من 19000 شخص من جرائم القتل في كل أنحاء أميركا عام 2020 بزيادة قدرها 26 في المئة عن العام السابق، وهو ما يجعل 2020 عاماً قياسياً في عدد جرائم القتل بالأسلحة النارية في الولايات المتحدة بعد ما وصلت إلى معدل يماثل 16 ضعفاً مقارنة بدولة مثل ألمانيا.
ويعد السبب الرئيس للمشكلة أن هناك أكثر من 400 مليون سلاح ناري في الولايات المتحدة أي أكثر من 120 سلاحاً لكل 100 شخص، ويزداد الطلب باستمرار على شراء الأسلحة بأنواعها المختلفة، فقد اشترى الأميركيون مليوني قطعة سلاح خلال أبريل (نيسان) الماضي فقط، بحسب تحليل لصحيفة “واشنطن بوست”، استناداً إلى بيانات التحقق الفيدرالية من خلفية مشتري الأسلحة ومعظمهم كانوا يشترون السلاح للمرة الأولى.
لماذا يشتري الأميركيون السلاح؟
غالباً ما يكون لمبيعات الأسلحة دورات موسمية، إذ تزيد المبيعات في أشهر الشتاء، وفي سنوات الانتخابات الرئاسية، ولكن خلال عام 2020 أدت جائحة كورونا إلى ارتفاع قياسي في الطلب على الأسلحة النارية عندما بدأت أوامر الإغلاق، وبعد احتجاجات العدالة العرقية التي انتشرت على مستوى البلاد على إثر مقتل جورج فلويد، كما لاحظت الدراسات نمط ارتفاع مبيعات الأسلحة بعد عمليات إطلاق النار الجماعية بغض النظر عن الحزب السياسي الموجود في السلطة، وتدفع المخاوف من القيود المستقبلية بعض الناس إلى تملك السلاح أو زيادة تخزينه بالنسبة لمالكي الأسلحة الحاليين.
وتشير دراسات نفسية واجتماعية إلى أن الأميركيين يشعرون أن شراء سلاح هو وسيلة لتأكيد استقلالهم الذي تعرض للتهديد أثناء الوباء، بسبب تقييد بعض الحريات الفردية بما في ذلك حرية السفر أو إدارة بعض الأعمال أو التجمع في مجموعات كبيرة أو زيارة كبار السن، فضلاً عن شيوع الاعتقاد بأن امتلاك البنادق يساعد على ضمان حرية العيش كما يختار المرء، أما بالنسبة لمن يشترون السلاح للمرة الأولى، فإنهم يفعلون ذلك مدفوعين جزئياً بالحاجة إلى حماية أنفسهم في فترة من عدم اليقين والاضطرابات المدنية، فضلاً عن الدعوات لوقف تمويل الشرطة، وتزايد المشاعر بأن العالم خطير بشكل عام.
ومع ذلك، هناك أسباب أخرى اجتماعية، إذ توفر البنادق أساساً ملموساً للتواصل والترابط الاجتماعي كظاهرة راسخة في أبحاث المستهلك، ولهذا يسهل تجار التجزئة ذلك من خلال العمل كمركز اجتماعي وتقديم الخبرة وتمكين المستهلكين من الشعور بالارتباط الاجتماعي مع الآخرين المتشابهين معهم في التفكير.
أما الزيادة خلال الأشهر التالية لتولي الرئيس بايدن السلطة في البيت الأبيض، فقد نسبتها بعض الصحف مثل “فوربس” و”واشنطن إكزامينر” إلى زيادة الأموال التي تدفقت إلى جيوب الأميركيين عبر شيكات التحفيز الاقتصادي التي أقرها بايدن والديمقراطيون في الكونغرس ما أسهم في زيادة الإقبال على شراء السلاح.
ماذا فعل بايدن؟
وتعهد بايدن خلال حملته الرئاسية بالعمل مع الكونغرس في إرساء سياسات تقييدية للأسلحة الهجومية التي توقع عشرات القتلة في حوادث القتل الجماعي التي هزت الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، ومع وصوله إلى البيت الأبيض، أصدر عدداً من القرارات التنفيذية التي أسهمت في حدود سلطاته كرئيس في الحد من القوة النيرانية لبعض المسدسات، لكنه لم يتمكن من فعل أي شيء آخر يخص الأسلحة الهجومية لأنها خارج حدود صلاحياته كرئيس، غير أن مجلس النواب صادق على مشروعي قوانين لتقييد السلاح، إلا أن حظوظهما في الفوز بـ10 أصوات جمهورية إلى جانب أصوات كل الديمقراطيين الـ50 في مجلس الشيوخ تبدو مستحيلة ما سيعرقل التصديق على هذه القوانين.
وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي الآن تشير إلى أن 93 في المئة من الأميركيين و64 في المئة من الجمهوريين يؤيدون التحقق من المعلومات الخاصة بخلفيات مشتري السلاح، فإن مجلس الشيوخ يبدو عاجزاً عن تمرير إصلاحات ذات مغزى، بل إن التصديق في المجلس على تثبيت تعيين ديفيد تشيبمان مرشح بايدن لتولي منصب مدير مكتب الأسلحة النارية والمتفجرات التابع لوزارة العدل يواجه بعراقيل من الجمهوريين المتشككين في آراء تشيبمان التي يعتبرونها مناهضة لحق حيازة السلاح.
دور جمعية البندقية الوطنية
وظل مكتب الأسلحة النارية والمتفجرات من دون مدير على مدى 13 عاماً خلال الـ15 عاماً الماضية، والسبب وراء ذلك يعود إلى تمرير قانون عام 2006 دفع به المدافعون عن حقوق السلاح، يتطلب تثبيت المرشح لهذا المنصب بأغلبية 60 في المئة، وطوال هذه الفترة الزمنية لم يشغل هذا المنصب سوى شخص واحد في عهد أوباما، ويحاول الرئيس بايدن أن يصبح الرئيس الثاني منذ عام 2006 الذي ينجح في إقرار مرشحه لهذا المنصب بعد إلغاء آلية التعطيل في مجلس الشيوخ التي تقتضي موافقة 60 عضواً من إجمالي 100 عضو.
وخلال هذه السنوات، نجحت جمعية البندقية الوطنية المدافعة عن حق تملك السلاح وحلفاؤها الجمهوريون في تمرير عدد من التعديلات التي منعت الوكالة الفيدرالية من تتبع الأسلحة عن كثب وفرض قوانين مراقبة الأسلحة المحدودة، كما شنت الجمعية حملة إعلانية بقيمة مليوني دولار ضد ترشيح تشيبمان، وشجعت 20 من المدعين العامين الجمهوريين في الولايات لإرسال خطاب إلى اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ يعارضون فيها ترشيحه.
وبفضل الضغط الذي مارسته جمعية “البندقية الوطنية”، أقر الكونغرس عدداً من القوانين في السنوات الأخيرة ووُضعت قيود على القوانين المتعلقة بتتبع وتعقب الأسلحة النارية.
ولعل أكثر الدلائل وضوحاً على النفوذ الذي تتمتع به جمعية البندقية الوطنية هو منع مكتب الأسلحة النارية الفيدرالي من نقل بيانات سجلاته الورقية إلى نظام رقمي ديجيتال على ذاكرة أجهزة الكمبيوتر.
تحول السياسات الحزبية
وأصبحت سياسات تقييد السلاح خلال السنوات الأخيرة أكثر حزبية عما كانت عليه في الماضي، فقبل 20 عاماً، فضل نحو ثلاثة من كل خمسة ديمقراطيين جعل قوانين الأسلحة أكثر صرامة، بينما وافق ما يقرب من نصف الجمهوريين. ووفقاً لاستطلاع “غالوب”، أجري أخيراً، ارتفعت نسبة الديمقراطيين المؤيدين لقوانين الأسلحة الصارمة إلى 85 في المئة، بينما انخفض التأييد بين الجمهوريين إلى 22 في المئة فقط.
ومع انسداد آفاق التوصل إلى اتفاق يرضي الجمهوريين بهدف تقييد الأسلحة اقترح بايدن علاجاً يستهدف الوفيات المرتبطة بالأسلحة النارية في الأحياء الحضرية المحرومة بهدف القضاء على النزاعات التي قد تؤدي إلى مزيد من العنف، بتضمين تمويل قدره خمسة مليارات دولار داخل حزمة مشروع البنية التحتية، إذ يمكن أن يكون هذا هو المسار العملي للمضي قدماً على المدى القصير في جدول أعمال مكافحة العنف المسلح، غير أن موقف الجمهوريين لم يتضح بعد.
ما مبررات المدافعين عن حيازة السلاح؟
يرى المدافعون عن حيازة السلاح أن فكرة إصدار قوانين تقيد شراء الأسلحة هي الحل لمشكلة العنف في الولايات المتحدة ليست سوى فكرة واهية وغير مفيدة لأنها تتناقض مع قيم المجتمع الحر وممارسة حق حمل السلاح الذي يحميه الدستور بموجب التعديل الثاني، لذلك فالأمر يخضع لتحديات قانونية ملزمة ويرفضه العديد من الأميركيين رفضاً قاطعاً.
ومن الناحية العملية، يعتقد هؤلاء أن هناك حقائق غير قابلة للتغيير في الحياة الأميركية خصوصاً بالنسبة للأشخاص المستعدين لخرق القوانين، إذ لا يجب إغفال 400 مليون بندقية متداولة بالفعل، إضافة إلى السهولة المتزايدة في التصنيع الذاتي للأسلحة النارية بغض النظر عن القوانين التي تُمرر في الكونغرس.
الانتحار والعنف العائلي
وعلاوة على ذلك، يشير مؤيدو حيازة السلاح إلى عوامل أخرى يرونها مركزية في قضية انتشار العنف المرتبط بالسلاح، فهم يقولون على سبيل المثال إن هناك حقيقة يغفلها الإعلام عادة والقوى المناهضة للسلاح، وهي أن نصف من يموتون في حوادث بالأسلحة النارية على الأقل هي حالات انتحار وفقاً لتقرير نشرته مجلة “هارفارد” السياسية أشار إلى أن حالات الانتحار شكلت ما يقرب من ثلثي الوفيات الناجمة عن استخدام الأسلحة النارية عام 2019، ومن ثم فإن معالجة العنف باستخدام الأسلحة النارية يجب أن تكون من خلال برامج الصحة العقلية والوقاية من الانتحار، وليس بتقييد الحصول على الأسلحة، لأن المنتحر سيجد وسيلة أخرى للانتحار إذا لم يتوافر له السلاح.
وبينما يعترف أنصار حمل السلاح بوجود ظاهرة الشخصيات المختلة التي تطلق النار بشكل جماعي في مدرسة أو دار عبادة أو محل تجاري، ويقتل الأبرياء من دون تمييز بدافع التعصب أو الكراهية، إلا أن هذه الحوادث لا تمثل سوى 2.5 في المئة فقط من جرائم القتل باستخدام بندقية، كما أن نسبة كبيرة من جرائم القتل تعود إلى حوادث عنف عائلية، وتشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من ثلثي الضحايا الأطفال قتلوا على أيدي آبائهم، ونصف الضحايا من الإناث قتلن على يد شركائهن في الحياة، وبالتالي فإن سياسات حظر الأسلحة الهجومية لن يكون لها تأثير كبير على العنف العائلي.
ويشدد هؤلاء على ضرورة النظر إلى الدوافع الاجتماعية الأساسية للعنف التي تتجاوز البنادق وتستدعي انتباهنا، لأن الفقر واليأس مرتبطان بالعنف، وهو ما تشير إليه خرائط التوزيع الجغرافي للعنف في البلاد، وهو ما يتسق مع ما التقطته مجلة “نيويوركر” حول الانقسام الثنائي الذي يعيشه المجتمع الأميركي حينما أشارت إلى أن وباء كورونا أدى إلى ارتفاع أرباح “وول ستريت” مع تزايد الفقر حتى أصبح المصطلح التراثي حقيقة وهو أن الأغنياء يزدادون ثراءً، والفقراء يزدادون فقراً.
المصدر : ذي اندبندنت