السياسية:

استهداف العدو الإسرائيلي للمدنيين وهدم الأبراج والمباني السكنية في قطاع غزة يمثل جريمة حرب، بحسب تصنيف القانون الدولي والإنساني والأخلاقي.

وقبل الدخول في نصوص وبنود القانون الدولي المتعلقة بالمدنيين أثناء الصراعات المسلحة، من المهم التذكير بأن الحرب التي تشنها إسرائيل حالياً على قطاع غزة كانت قد بدأت بمحاولة تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، وهو ما يمثل أيضاً جريمة حرب، بحسب القانون الدولي.

فقد كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد ارتكبت مساء الإثنين 10 مايو/أيار ما وصفه فلسطينيون بعدوان وحشي بحق المصلين المعتكفين في المسجد الأقصى، حيث هاجمت تلك القوات مئات المصلين الفلسطينيين بالمسجد الأقصى وأمطرتهم بوابل من الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، ما أثار حالة من الهلع بين الفلسطينيين المرابطين في المسجد، وأحدث تدافعاً كبيراً على بوابات المسجد.

وفي هذا السياق، ينص ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية على أن أي “شخص يشن بشكل متعمد هجوماً على مبانٍ مخصصة لأهداف مثل العبادة أو التعليم أو الفن أو العلم أو العمل الخيري” يرتكب “جريمة حرب”.

استهداف المدنيين في قطاع غزة

والآن بعد أن دخلت الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة أسبوعها الثاني، بدأ الحديث يتصاعد حول إذا ما كانت ما تقوم به إسرائيل في القطاع يمثل جريمة حرب أخرى.

ونشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تقريراً لها حول الأسئلة المتعلقة بوقوع جرائم حرب، بدأته من واقعة الصاروخ الإسرائيلي الذي أصاب شقة فلسطينية يوم الجمعة، 14 مايو/أيار، في حصيلة ضحايا مروعة: قُتِل 8 أطفال وامرأتان أثناء احتفالهم بالعيد، في واحدة من أكثر حلقات الحرب دموية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.

وبحسب الصحيفة، قال والد الطفل، محمد الحديدي: “لم يكونوا يحملون أسلحة، ولا يطلقون صواريخ أو يؤذون أحداً”. وشوهد لاحقاً على التلفزيون وهو في المستشفى يمسك بيد ابنه الصغيرة.

وزعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أن الهجوم كان يستهدف قائداً كبيراً في حماس، لكن لقطات فيديو مصوَّرة أظهرت مسعفين فلسطينيين وهم يدوسون فوق الأنقاض التي تضمنت ألعاب أطفال ولعبة مونوبولي أثناء إخلاء الضحايا الغارقين في الدماء من المبنى المُدمَّر. وكان الناجي الوحيد رضيعاً، بينما لم يكن أي من قادة حماس في المنزل من الأساس.

وبينما لا يمكن الفصل القانوني في هذه الجرائم لا تزال المعركة تدور رحاها، تظل بعض الحقائق واضحة، فقد قتلت الغارات الجوية الإسرائيلية وقصف المدفعية على غزة، وهي منطقة فقيرة ومكتظة بمليوني شخص، ما لا يقل عن 197 فلسطينياً، من بينهم 92 امرأة وطفلاً، بين الإثنين 10 مايو/أيار ومساء الأحد 16 مايو/أيار؛ مما أسفر عن صورٍ صارخة للدمار تردد صداها في جميع أنحاء العالم، بحسب الصحيفة الأمريكية.

ماذا تقول دولة الكيان عن استهداف المدنيين؟

ومن المهم هنا التوقف عن مزاعم العدو الإسرائيلي بشأن قتل المدنيين واستهداف الأبراج السكنية في القطاع المحاصر، وتتركز تلك المزاعم على ادعاءات وجود أصول عسكرية لحماس في تلك الأبراج والمباني السكنية.

لكن هذه رواية العدو الإسرائيلي لا تبدو مقنعة لوكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية التي دعت الأحد 16 مايو/أيار إلى إجراء تحقيق مستقل في غارة جوية إسرائيلية استهدفت ودمرت برج الجلاء في غزة وكان يضم مكاتبها هي وقناة “الجزيرة” ووسائل إعلام أخرى.

وفقد قالت سالي بوزبي، رئيسة تحرير الوكالة في بيان، إن المطلوب هو تحقيق مستقل في حيثيات الغارة الجوية الإسرائيلية على برج “الجلاء” في القطاع، الذي يضم مكتب الوكالة، وأضافت: “الجمهور يستحق معرفة الحقائق.. الحكومة الإسرائيلية لم تقدم بعد أدلة واضحة تدعم هجومها الذي دمر البرج المكون من 12 طابقاً، وسوّته بالأرض”.

وقال المتحدث العسكري الإسرائيلي اللفتنانت كولونيل جوناثان كونريكوس إننا “نجمع أدلة لتقديمها إلى الولايات المتحدة”، وفق الوكالة، متابعاً: “نحن في خضم قتال.. هذا (الأمر) قيد المعالجة، وأنا متأكد من أنه سيتم تقديم المعلومات في الوقت المناسب”.

ويأتي هذا بعد أن كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد زعم السبت أن مبنى الجلاء “كان يستخدمه جهاز المخابرات العسكرية لحماس، وهو ليس بناية بريئة”، مدعياً أنه قدم بالفعل الدليل للرئيس الأمريكي جو بايدن.

وعلى الرغم من أن تقرير صحيفة نيويورك تايمز زعم أن إطلاق الصواريخ من قطاع غزة يثير أيضاً تساؤلات حول إذا ما كان ذلك يمثل أيضاً انتهاكاً للقانون الدولي، إلا أن بياناً صادراً عن المرصد “الأورومتوسطي” لحقوق الإنسان ومقره جنيف أدان تدمير القوات الإسرائيلية عشرات المباني بأحد الأحياء السكنية في قطاع غزة ليلة الأحد، ومطالباً المحكمة الجنائية الدولية بـ”مراقبة الانتهاكات الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة، وضمّها إلى التحقيقات التي تقرر إجراؤها في الانتهاكات السابقة، والعمل على محاسبة القادة والجنود الإسرائيليين وعدم السماح لهم بالإفلات من العقاب”.

ويأتي هنا زعم مسؤولين إسرائيليين أنهم مجبرون على قصف المنازل والمكاتب لأنَّ هذه هي الأماكن التي يعيش فيها مقاتلو حماس ويقاتلون، مستخدمين المدنيين دروعاً بشرية، وفي بيان حول الهجوم يوم الجمعة، 14 مايو/أيار، الذي أسفر عن مقتل 10 أفراد من عائلة واحدة، قال الجيش الإسرائيلي إنه “هاجم عدداً من كبار مسؤولي منظمة حماس الإرهابية، في شقة تُستخدَم كبنية تحتية إرهابية في منطقة مخيم الشاطئ للاجئين”. ومع ذلك، قال جيران العائلة إنه لم يكن هناك أي من مسؤولي حماس وقت الهجوم.

وتقول جماعات حقوق الإنسان إنَّ إسرائيل تتخطى باستمرار حدود ما يمكن اعتباره قوة عسكرية متناسبة، وكثيراً ما تخرق قوانين الحرب. قال عمر شاكر، مدير هيومن رايتس ووتش في إسرائيل: “كان هناك تجاهل تام لحياة المدنيين نابع من عقود من الإفلات من العقاب”.

وأضاف شاكر وآخرون أنَّ تحالف إسرائيل القوي مع الولايات المتحدة، الذي تحصل بموجبه على مساعدات عسكرية بقيمة 3.8 مليار دولار كل عام، إضافة إلى دعم دبلوماسي انعكاسي، يحمي أفعالها من الرقابة الدولية الجادة منذ عقود؛ وشجعها بالتالي على ارتكاب انتهاكات ضد الفلسطينيين.

وكان تقرير صادر عن منظمة “كسر الصمت”- وهي منظمة من قدامى المحاربين اليساريين- حول سلوك الجيش الإسرائيلي خلال حربه الكبرى الأخيرة ضد حماس في عام 2014، اتهم القوات الإسرائيلية بتنفيذ “سياسة إطلاق نار متساهلة” في غزة. وقال إنَّ القادة الإسرائيليين دعوا إلى أعمال “وحشية وغير أخلاقية” هناك وشجعوا الجنود على التصرف بعدوانية تجاه المدنيين الفلسطينيين.

وقال الرئيس التنفيذي للمنظمة أفنير غفارياهو: “يكشف هذا الكثير عن حقيقة أننا لا نبذل كل ما بوسعنا لمنع سقوط ضحايا من المدنيين”. 

ويرفض آخرون إصرار العدو الإسرائيلي على تحميل حماس مسؤولية الخسائر المدنية لأنها تعمل من مناطق سكنية، وهنا علَّق ناثان ثرال، مؤلف كتاب عن إسرائيل والفلسطينيين، قائلاً إنه في مكان مكتظ بالسكان مثل غزة “يكاد لا توجد وسيلة للقتال من دون تعريض المدنيين للخطر”، وأشار ثرال إلى أنَّ مقر الجيش الإسرائيلي كان في جزء سكني من تل أبيب بجوار مستشفى ومتحف فني.

وبالعودة إلى بيان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، نجده يفند مزاعم إسرائيل بأنها توجه إنذاراً للسكان بإخلاء المباني قبل هدمها: “أطلقت الطائرات الإسرائيلية دون إنذار مسبق عدداً كبيراً من الصواريخ تجاه حي سكني، بالتزامن مع قصف مكثف للشوارع والمفترقات في المنطقة لتسويها بالأرض، أدى إلى دمار هائل غير مسبوق”.

والإشارة هنا لما شهده قطاع غزة فجر الأحد، حيث دمرت طائرات حربية إسرائيلية عشرات الشقق السكنية على رؤوس ساكنيها، دون سابق إنذار، في شارع الوحدة بحي الرمال غربي مدينة غزة، ما أسقط 42 شهيداً، بينهم 10 أطفال و16 سيدة.

وأضاف المرصد في بيانه: “واجهت طواقم الإسعاف والدفاع المدني صعوبات بالغة في انتشال الضحايا والناجين من تحت الأنقاض، وسط حالة من الصدمة من حجم الدمار الذي حل بالمنطقة”، ودعا المرصد “لوقف الهجوم الإسرائيلي العنيف وغير المتناسب على قطاع غزة، وبذل الجهود كافة من أجل وضع حد للعمليات العسكرية التي تحصد في كل ساعة مزيداً من أرواح المدنيين”.

الخلاصة هنا أن محاولة بعض وسائل الإعلام الغربية وسياسييها الداعمين لإسرائيل المساواة- عند حديثهم عما تفعله إسرائيل في قطاع غزة- بين إطلاق الصواريخ من القطاع وبين الهجمات الصاروخية الإسرائيلية التي تهدم المنازل على رؤوس ساكنيها، ووصف الأمرين بأنهما جريمة حرب لم تعد مقنعة لغالبية الشعوب وهذا ما يعكسه حجم التعاطف مع الفلسطينيين الذي تشهده العواصم والمدن الغربية هذه المرة.

عربي بوست