السياسية:

إذا كان هناك سلاح قد لعب الدور الأكبر في تغيير التاريخ في القرن العشرين فسيكون في الأغلب القاذفات، فلولا بعض أفضل القاذفات في التاريخ لكنا رأينا قوى عظمى مختلفة تقود العالم اليوم.

فهناك قاذفات بعينها شكلت نقاطاً فارقة في تاريخ الطيران، وغيرت شكل المعارك بطريقة أحياناً لم يتوقعها صانعوها، في المقابل فإن بعض القاذفات الباهظة والتي بدت واعدة كانت مخيبة للآمال.

وتُعَد القاذفات جوهر القوة الجوية الاستراتيجية، وفي حين أنَّ المقاتلات مهمة لسلاح الجو في كثير من الأحيان كان الالتزام بالقاذفات الثقيلة هو ما أكسب سلاح الجو الأمريكي وسلاح الجو الملكي البريطاني الفاعلية، وجعل البلدين ينتصران في العديد من حروبهما.

وتعاملت أسلحة الجو في كلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفييتي وإيطاليا، في فترات زمنية مختلفة، مع تصميم وبناء القاذفات على أنَّه هاجس يستهلك كل شيء تقريباً، وأدى إلى تهميش المقاتلات والطيران الهجومي، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.

قاذفات تخيّب الأمل وأخرى تفاجئنا

يفترض أن القاذفات مثل السفن الحربية تصنع لمدى زمني طويل نسبياً، لكن حتى أفضل القاذفات تكون فعَّالة خلال فترات زمنية محددة فقط. وواجهت القاذفات الأحدث غير المحظوظة في ثلاثينيات القرن الماضي كارثة حين دخلت الخدمة ضد طائرات المطاردة التي ظهرت في أواخر الثلاثينيات. 

فقد تحولت قاذفات B-29 التي سيطرت على الأجواء فوق اليابان عام 1945 إلى حطام فوق كوريا الشمالية عام 1950. وغادرت قاذفة B-36 Peacemaker الخدمة في غضون عقد واحد فقط. وكانت معظم القاذفات في بداية الحرب الباردة حالات فشل باهظة التكلفة، وحلت محلها في النهاية الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تُطلَق من الغواصات.

في المقابل فإن القاذفة الأمريكية بي 52 دخلت الخدمة عام 1955، أي منذ 66 عاماً وسلاح الجوي الأمريكي واثق من أن طائرات B-52 ستظل صالحة للطيران حتى عام 2025، وربما لفترة أطول حتى 2040، أو للعقد الخامس من القرن الحادي والعشرين أي قد تستمر في التحليق والقصف لـ100عام أو قرن ينقص أو يزيد قليلاً.

وفيما يلي أفضل 5 قاذفات على مر التاريخ وفقاً لتقرير The National Interest، علماً أن مفهوم أفضل قاذفة مرتبط بأدائها ودورها في زمانها.

هاندلي بيج تايب أو 400: وضعت مفهوم القاذفات الحديث

شنَّت مناطيد “زبلين– Zeppelin” الألمانية أولى غارات القصف الاستراتيجي في الحرب العالمية الأولى، وهي أخف كثيراً من الطائرات، وكان يمكنها أن تحلّق على ارتفاعات أعلى كثيراً من طائرات الاعتراض في يومنا هذا، وإفراغ حمولتها على لندن والأهداف الأخرى، لكن بمرور الوقت تنامت قدرات طائرات الاعتراض والمدفعية المضادة للطائرات، ما أدى إلى توجيه المناطيد لمهمات أخرى. 

وبدأت ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة العمل على قاذفات قادرة على نقل حمولات ثقيلة من الذخيرة لمسافات بعيدة، وهو درب أشعلته قاذفة “سيكورسكي إيليا موروميتس– Sikorsky Ilya Muromets” الروسية خلال الحرب العالمية الأولى.

وحتى القدرات المتواضعة التي تمتعت بها القاذفات الأولى قد أثارت حماس مُنظِّري القوة الجوية في ذلك الوقت، والذين كانوا يتخيَّلون فكرة وجود أساطيل من القاذفات تضرب مدن وصناعة العدو. 

فطوَّر الإيطاليون عائلة قاذفات “كابروني- Caproni”، التي دخلت الخدمة لدى معظم دول الحلفاء في فترة أو في أخرى. وستثير قاذفات “غوتا- Gotha” الألمانية في نهاية المطاف الرعب في لندن مجدداً، ما حفَّز صدور “تقرير سموتس” وإنشاء أول سلاح جو في العالم (سلاح الجو الملكي البريطاني).

كانت قاذفة تايب أو 400 البريطانية أسرع وأكثر قدرة على حمل المزيد من القنابل من قاذفات غوتا IV أو كابروني Ca.3.

 كانت القاذفة تايب أو 400، بسرعتها القصوى البالغة 97 ميلاً في الساعة (156 كيلومتراً تقريباً في الساعة) وحمولتها التي تصل إلى حوالي 907 كيلوغرامات، هي الدعامة الأساسية لسلاح الجو المستقل بقيادة الضابط البريطاني هيو ترينشارد قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي وحدها ضربت المطارات الألمانية والمراكز اللوجستية عميقاً خلف الخطوط الألمانية. وساهمت تلك الغارات في وضع الأساس لنظرية القوة الجوية في فترة ما بين الحربين العالميتين، وهي النظرية التي كانت تقول (لاسيما في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الأقل) إن القاذفات ذاتية الحماية تهاجم أهداف العدو بصورة جماعية.

أُنتِجَت قرابة 600 قاذفة من “تايب أو” خلال الحرب العالمية الأولى، تقاعدت آخرها في عام 1922. وخدم عدد صغير منها في القوات المسلحة الصينية والأسترالية والأمريكية.

يونكرز يو 88: قاتلة الدبابات التي فشلت أمام لندن

كانت قاذفة يونكرز يو 88 واحدة من أكثر الطائرات تنوعاً في القدرات خلال الحرب العالمية الثانية. فعلى الرغم من أنَّها أمضت معظم مسيرتها بصفتها قاذفة متوسطة، فإنَّها استُخدِمَت أيضاً كطائرة هجوم قريب، وطائرة هجوم بحري، وطائرة استطلاع، ومقاتلة ليلية. استخدم سلاح الجو الألماني قاذفة يو 88، الفعالة والرخيصة نسبياً، بفاعلية جيدة في معظم مسارح الحرب، لكن على وجه الخصوص على الجبهة الشرقية وفي البحر المتوسط.

صُمِّمَت قاذفة يو 88 بقدرات “القاذفة الانقضاضية”، واستُخدِمَت بأعداد صغيرة نسبياً في غزو بولندا وغزو النرويج ومعركة فرنسا. 

ولم تكن يو 88 ملائمة كثيراً لدور القاذفة الاستراتيجية الذي فُرِضَ عليها خلال معركة بريطانيا، فكانت تفتقر إلى التسليح اللازم للدفاع عن نفسها وحمولة الذخيرة اللازمة للتسبب بدمار كبير للصناعة والبنية التحتية البريطانية. لكنَّ فاعليتها في أي مهمة معينة كانت تتجاوز معيار القاذفة الممتازة بكثير. إذ كانت قاذفات يو 88 مدمرة خلال “عملية بربروسا”، فمزقت تشكيلات الدبابات السوفييتية ودمرت معظم سلاح الجو السوفييتي على الأرض. وجرى تصنيع الطرازات اللاحقة لتكون مقاتلات ليلية، فهاجمت تشكيلات قاذفات سلاح الجو الملكي البريطاني التي كانت في طريقها نحو أهدافها.

ورغم قصف الحلفاء المكثف لصناعة الطيران الألمانية، صنعت ألمانيا أكثر من 15 ألف قاذفة من طراز يو 88 بين عامي 1939 و1945. وخدمت القاذفة في أسلحة جو العديد من دول المحور.

دي هافيلاند موسكيتو: البعوضة التي أرقت هتلر

كان لهذه الطائرة سمة غريبة بالنسبة لنا اليوم، كانت مصنوعة من الخشب، ولكن “دي هافيلاند موسكيتو” طائرة صغيرة رائعة قادرة على القيام بمجموعة متنوعة من المهمات. 

وكما هو الحال مع يونكرز يو 88، استُخدِمَت موسكيتو (أي البعوضة بالإنجليزية) في أدوار القاذفة والمقاتلة والمقاتلة الليلية والهجوم والاستطلاع. 

وكان سلاح الجو الملكي البريطاني في موضع أفضل من سلاح الجو الألماني للاستفادة من الخصائص المميزة للطائرة وتجنُّب إجبارها على القيام بمهمات لم يكن بمقدورها أداؤها.

كانت قاذفة موسكيتو، المسلحة تسليحاً خفيفاً نسبياً ومُصنَّعة كليةً من الخشب، وهو ما كان يمثل ميزة كبرى للطائرة في ظل ندرة الموارد الطبيعية في ظل الحرب.

وكانت مختلفة تماماً عن باقي أسطول قاذفات سلاح الجو الملكي، إذ تُعتَبَر سهلة التحليق، والأهم من كل ذلك كانت سريعة. وكان بإمكان موسكيتو بمحركاتها المتطورة من طراز ميرلين التفوق على طائرة Bf109 الألمانية، ومعظم المقاتلات الأخرى لدى دول المحور.

ورغم أنَّ حمولة موسكيتو من القنابل كانت محدودة فإنَّ سرعتها الكبيرة جنباً إلى جنب مع أجهزتها المتطورة سمحت لها بإلقاء الذخائر بدقة أكبر من معظم القاذفات الأخرى. استخدم سلاح الجو الملكي البريطاني قاذفات موسكيتو خلال الحرب في هجمات دقيقة مختلفة ضد أهداف عالية القيمة، بما في ذلك منشآت الحكومة الألمانية ومواقع إطلاق “سلاح V”. واستُخدِمَت قاذفات موسكيتو أيضاً في إلهاء المقاتلات الليلية الألمانية.

أنتجت شركة دي هافيلاند أكثر من 7000 قاذفة موسكيتو لصالح سلاح الجو الملكي البريطاني وأسلحة الجو الأخرى بدول الحلفاء. واستمرت نماذج من القاذفة في الخدمة في مرحلة ما بعد الحرب لدى بلدان مختلفة مثل إسرائيل وتايوان ويوغسلافيا.

أفرو لانكاستر: قلب الهجوم البريطاني الذي دمر ألمانيا

اضطلع العمود الفقري لسلاح الجو الملكي البريطاني في الحرب العالمية الثانية، قاذفة لانكاستر، بالنصيب الأكبر من الجزء البريطاني في “هجوم القاذفات المشترك”.

دخلت قاذفة لانكاستر الخدمة عام 1942، وكان بإمكان لانكاستر حمل حمولة قنابل أثقل بكثير من قاذفتي B-17 أو B-24، في حين أنَّها تحلق بسرعات مشابهة ولمدى أطول قليلاً. وسترتكز المشاركة البريطانية في هجوم القاذفات المشترك في الفترة من 1942 حتى 1945 على قاذفات لانكاستر، ما سيسفر في نهاية المطاف عن تدمير معظم ألمانيا الحضرية ومصرع بضع مئات الآلاف من المدنيين الألمان.

وكانت هناك عيوب في قاذفات لانكاستر، فهجوم القاذفات المشترك كان بمثابة طريق استراتيجي مسدود، إذ يُقدِّم القاذفات رباعية المحركات باهظة الثمن وليمةً للمقاتلات الألمانية الأصغر والأرخص، وكانت المعارك تُخاض في ظروف مواتية للألمان.

القاذفة البريطانية أفرو لانكاستر/ويكيبديا

إذ كان بإمكان الطائرات الألمانية المتضررة الهبوط، وإنقاذ الطيارين الألمان الذين أُسقِطَت طائراتهم وإعادتهم إلى الخدمة.

ويرى تقرير المجلة الأمريكية أنه ربما كان الاستثمار الغربي الضخم في عمليات القصف الاستراتيجي واحداً من أكبر حالات سوء التقدير الاستراتيجي الكبرى في الحرب العالمية الثانية. مع ذلك، تحتاج هذه القائمة إلى قاذفة من أقوى القاذفات الهجومية التي يمكن التعرف عليها في التاريخ، وكانت قاذفة لانكاستر الأفضل ضمن تلك الفئة.

أُنتِجت أكثر من 7000 قاذفة لانكاستر، تقاعدت آخرها في مطلع الستينيات بعد خدمتها لدى كندا كطائرة استطلاع وطائرة دورية بحرية.

بوينغ بي-52: قد تحلق لمئة عام أو يزيد

أظهرت التجربة الكارثية لقاذفات B-29 Superfortress فوق كوريا الشمالية أنَّ الولايات المتحدة ستحتاج إلى قاذفة استراتيجية جديدة، وخلال وقتٍ قريب. لسوء الحظ كان أول جيلين من القاذفات يختارهما سلاح الجو الأمريكي فاشلين بنفس الصورة تقريباً، مثل قاذفة B-36 الميؤوس منها وB-47 قاصرة المدى، وB-58 الخطرة على طياريها، وXB-70 التي عفى عليها الزمن قبل أن تحلق. وسرعان ما تحول السواد الأعظم من هذه القاذفات من إهدار لأموال دافعي الضرائب إلى إهدار للمساحة في مقبرة الطائرات، ولم تُلقِ أيٌّ من القاذفات الـ2500 التي تعود لمطلع الحرب الباردة قنبلة واحدة في معركة حقيقية.

كان الاستثناء هو قاذفة B-52. كان الهدف الأصلي من القاذفة هو القصف الاختراقي عالي الارتفاع داخل الاتحاد السوفييتي. وقد حلت محل قاذفتيّ B-36 وB-47، فالأولى كانت أبطأ وأضعف من أن تستمر في مهمة الضرب النووي، والأخيرة كانت أقصر مدى من أن تبلغ الاتحاد السوفييتي، انطلاقاً من القواعد الأمريكية. كان من المقرر استبدال قاذفة B-52 بقاذفتي B-58 وB-70، لكنَّها بقيت لأنَّها متعددة المهام بما يكفي للتحول إلى الاختراق منخفض الارتفاع، بعدما حوَّلت صواريخ سام (أرض جو) السوفييتية المتطورة على نحو متزايد مهمة الارتفاعات العالية مهمة انتحارية.

وكان تنوع المهام هذا هو القصة الحقيقية لقاذفة B-52. إذ كُلِّفَت B-52 في البداية بمهام الضرب التقليدية في خدمة “عملية ضوء القوس” خلال حرب فيتنام. وخلال “عملية لاينبيكر 2” (عملية الظهير الخطي 2)، اتضح ضعف B-52 أمام الدفاعات الجوية حين فُقِدَت 9 قاذفات في الأيام الأولى من الحملة، لكنَّ B-52 استمرت. وفي حرب الخليج اضطلعت قاذفات B-52 بحملات قصف بساطي ضد المواقع الأمامية للجيش العراقي، لإضعاف وإحباط معنويات العراقيين من أجل الحملة البرية النهائية. وفي الحرب على الإرهاب عملت قاذفة B-52 في دور الدعم الجوي القريب، فألقت ذخائر دقيقة التوجيه ضد تجمعات صغيرة من المتمردين العراقيين ومن حركة طالبان.

وفي الآونة الأخيرة، أظهرت قاذفات B-52 قدراتها الدبلوماسية حين أُرسِلَت اثنتان منها لانتهاك “منطقة الدفاع الجوي” الصينية المُعلَنة حديثاً، وكانت هذه القاذفات مثالية لهذه المهمة، فما كان بإمكان الصينيين التظاهر بأنَّهم لم يلاحظوا قاذفتين ضخمتين تحلقان بسرعة بطيئة عبر منطقة الدفاع الجوي.

جرى تسليم 745 قاذفة من طراز B-52 بين عامي 1954 و1963. ولا يزال 78 منها في الخدمة، وخضعت للعديد من الترقيات على مدار عقود وتبشر بمد أعمارها وصولاً إلى ثلاثينيات القرن الحالي، أو ربما بعد ذلك، وضمن عائلة من الطائرات قصيرة العمر، أظهرت B-52 تحملاً وطول عمر رائعين.

وتم تصميم وبناء الطائرة B-52 بواسطة شركة Boeing، التي استمرت في تقديم الدعم والتحديثات لها وهي قادرة على حمل ما يصل إلى 70000 رطل (32 طناً) من الأسلحة، ولديها نطاق قتالي نموذجي يبلغ أكثر من 8800 ميل (14080 كم) بدون التزود بالوقود الجوي.

تم تطوير القاذفة الثقيلة B-52 في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت الدعامة الأساسية للقوات الجوية الأمريكية لمدة 64 عاماً. 

والقاذفة الأمريكية بي 52 خدمت في فيتنام وعاصفة الصحراء والحرب على الإرهاب في كل من أفغانستان والعراق وسوريا، وكانت حجر الزاوية في الردع النووي الأمريكي خلال الحرب الباردة لعقود.

وبينما صُممت القاذفة في الأصل لحمل الأسلحة النووية (قنابل نووية) وتنفيذ عملية القصف الواسع المسمى (السجادة النيرانية)، فلقد بلغت درجة عمليتها وتكيفها إلى حد أنها تستخدم اليوم لقصف مخابئ طالبان وداعش بأسلحة ذكية وذخائر صغيرة تحاول تجنب المدنيين الذين يسكنون الأماكن المجاورة.

ويرجع الفضل في ذلك إلى التصميم القوي والمحافظ للطائرة B-52، والذي سمح بقدر أكبر من تحمل الإجهاد مقارنة بالطائرات ذات الأداء العالي. 

أيضاً لأن القوات الجوية الأمريكية استثمرت مليارات الدولارات في الحفاظ على صلاحية الطائرة B-52 للطيران وتحديثها، ويعتقد أن عمرها قد يطول ليصبح قرناً أو أكثر أو أقل قليلاً.

عربي بوست