جمال زقوت

وكأنها شعرت بإهانة التاريخ عندما جرى الإيحاء بتكريس خضوعها وارتهانها لإرادة المحتل، فقررت أن تنتصر لتاريخها المدون على كل حجر من جدران أزقتها وبيوت أهلها الشاهدة على عنفوان المدينة وتعايش حضارات البشرية العصية على الخضوع والتزييف في كنائسها ومآذنها ومخطوطات مكتباتها .

من الواضح تماماً، كما كانت معركة البوابات، و باب العامود، أن الأمر يتجاوز ما يجري في الشيخ جراح من محاولات عنصرية لاستكمال التطهير العرقي الذي يُظهر الصراع و يكثفه فعلياً بأنه يجري على كل حجر في قلب المدينة أو في أكناف حواضرها العتيقة والحديثة أو تلك الشاهدة على النكبة واللجوء.

فما يجري في الشيخ جراح يعيد تركيب ليچو عناصر القضية الفلسطينية الذي فككته سنوات وهم البحث عن تسوية، عندما دفعت للخلف مصير القدس ونكبة اللاجئين وحقهم في العودة، كما حق شعبنا في الحياة الحرة والسيدة على أرضه واستثمار ثرواته ومقدساته وموارده؛ باعتقاد تبيَّنت كارثيته فيما بعد إزاء إمكانية مقايضة الماضي بالحاضر كي نحظى بالمستقبل، ليتبين للمقدسيين أولاً و قبل غيرهم أن حكام تل أبيت وعصابات الاستيطان مستمرة في تزييف التاريخ والماضي لتسيطر على الحاضر وتصادر المستقبل. فالقدس تعلمت الدرس كشقيقتها غزة التي حاولوا أن “يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم، ولکنها لن تکرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم؛ وستستمر في الانفجار، لا هو موت ولا هو انتحار ولکنه أسلوب غزة في اعلان جدارتها بالحياة”.

فنهض أبناء المدينة المسكونين بمقدسهم الخاص المفعم بالكرامة رافضين أن تكون مدينتهم صفحة الفصل الأخير في دفتر الإذعان، وأعلنت مجدداً أسلوب جدارتها في الحياة دون انتظار صلاح الدين، فصلاحها ينهض من كل بيت وكل حجر، ومن صوت الفجر الذي يرسم خيوط ملامحه أبناء المدينة العصية على الهزيمة! فما يجري في القدس يؤكد مجدداً أن رمزية المدينة التي تكثف عبق التاريخ تؤشر لنهوض حالة مستقبلية تتولد في أحشاء حواريها و بيوتها المهددة بالهدم والمصادرة والتهويد، وملامح هذه الحالة يمكن قراءتها بوضوح في المشاهد التالية:

أولاً: تصاعد محاولات التطهير العرقي داخل المدينة و على عتباتها الأمر الذي يظهر مجدداً حقيقة الصراع الجاري بين المشروع الاستيطاني الاستعماري للحركة الصهيونية وحكومة الاستيطان مع أهل القدس الاصلانيين الفلسطينيين الذين يدافعون ليس فقط عن بيوتهم، بل عن حق شعبنا بأكمله في البقاء، و الذي ما يزال مستهدفاً بالتهجير منذ النكبة و حتى اليوم.

ثانياً: لأن القدس خارج لعبة الصراع على السلطة و لا تخضع إلا لمقدسات المكان، فهي تعرف كيف تنتصر لكرامة تاريخها العصي على التزييف، و تنهض مستلهمة بسالة المقاومة الشعبية المحررة من مقدس التنسيق وما يمنحه من حالة عازلة بين ارادة شعب يريد الخلاص من الاحتلال، وجيشه الذي لا وظيفة له سوى حماية ارهاب المستوطنين ومخططات حكومتهم في طول البلاد وعرضها و في قلبها مدينة القدس و عروبتها.

ثالثاً: نفضت المدينة أصفاد الانقسام وتمكنت من استعادة وحدة كل الشعب في الميدان دون فواصل أو خطوط وهمية ليس فقط بين غزة والضفة، بل و ما عُرِّفَت قسراً بـ”ال 48 أو 67″، وسُمِيَّ بعضها لاحقاً أ، ب، ج، بما يثبت مجدداً أن ركيزة استعادة الهوية الوطنية الجامعة والجغرافيا الواحدة عنوانها الاساس استعادة بوصلة مقاومة المشروع الاستيطاني والوحدة في ميدان هذه المقاومة.

رابعاً: أن خواء بُنى الحركة الوطنية المهيمنة على المشهد، وعجزها عن بلورة برنامج كفاحي شامل لمواجهة التحديات المصيرية يؤكد ضرورة وملحاحية ما سبقنا إليه أبناء القدس لجهة بلورة قيادة وطنية جامعة غير خاضعة للانقسام أو مصالح أطرافه الفئوية، تكون قادرة على استنهاض طاقات الشعب الفلسطيني من أجل انجاز حق العودة في مواجهة الاقتلاع و التهجير، والحق في تقرير المصير لكل مكونات و تجمعات شعبنا في كافة أماكن تواجده.

خامساً وأخيراً: عندما يختزل مصير شعب وقضية بحجم قضية فلسطين بعيداً عن الائتلاف الجبهوي العريض التي مثلته منظمة التحرير وتعجز القوى المستقطبة حول مصالحها ومصالح قياداتها عن صون الحقوق، فليس أمام الشعب سوى استعادة زمام المبادرة والنهوض للدفاع عن مستقبله وعن حقوقه وفي مقدمتها حقه في البقاء على أرض وطنه الذي لا وطن لنا سواه و على أرضه يتقرر مصير شعبنا ومستقبل أجياله للأبد.

هذه هي الدروس التي تقدمها لنا القدس وفي مقدمتها أن شرعية القيادة لا توفرها اتفاقات بائدة، بل تتأتي من معمعان النضال في الميدان، وأن الديمقراطية الحقة هي تلك التي تزدهر في بيدر الانحياز للشعب و الدفاع عن حقوقه و الانتصار لتاريخه و مستقبله ولكرامة أبنائه. و يظل السؤال هل استوعبنا هذه الدروس، و متى و كيف سنستعيد القدرة بالمضي في هذا الطريق ؟!

كاتب فلسطيني