السياسية:

كشف خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن أمام الكونغرس بمناسبة مرور 100 يوم دخوله البيت الأبيض عما يمكن وصفه بالتحول الواضح في السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وكذلك فيما يخص روسيا والصين.

وجرى العرف في الولايات المتحدة الأمريكية على أن يلقي الرئيس خطاباً شاملاً أمام جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس) بمناسبة المحطة الرمزية الأولى في رئاسته وهي مرور 100 يوم على توليه المنصب، وهذا ما فعله بايدن مساء الأربعاء 28 أبريل/نيسان، مركزاً بشكل واضح على الشؤون الداخلية للبلاد.

وقال بايدن: “بعد مئة يوم، يمكنني أن أقولها للبلاد: أمريكا تمضي قدماً مرة جديدة”، مضيفاً: “أمريكا مستعدّة للانطلاق. نحن نعمل مرّةً جديدة، نحلم مرّة جديدة، نكتشف مرّة جديدة، نقود العالم مرّة جديدة. لقد أظهرنا لبعضنا البعض وللعالم (أنّه) لا يوجد استسلام في أمريكا”، بحسب تقرير لموقع فرانس 24 حول الخطاب.

أفغانستان وحرب اليمن

جرت العادة أن يضع المرشح للرئاسة -ضمن برنامجه الانتخابي- أهدافاً محددة يعد بتحقيقها خلال المئة يوم الأولى من رئاسته، وهذا ما فعله بايدن بالفعل وأعاد التأكيد عليه بعد ظهور تقدمه في الانتخابات على خصمه الرئيس السابق دونالد ترامب، ونتذكر هنا أبرز تلك الوعود فيما يخص السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام، وما يتعلق منها بالشرق الأوسط بشكل خاص.

كان بايدن قد وعد بإنهاء حروب أمريكا الأبدية في أفغانستان والشرق الأوسط ووقف مشاركة واشنطن في حرب اليمن، وبعد مرور 100 يوم من رئاسته يمكن القول إنه فيما يتعلق بأفغانستان اتخذ الرئيس قراره بالفعل بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي هناك بحلول 11 سبتمبر/أيلول المقبل الذي يصادف الذكرى العشرين للهجمات الدامية التي تعرضت لها أمريكا وتبناها تنظيم القاعدة.

ومن المهم هنا ذكر اتفاق السلام الذي كانت إدارة ترامب قد وقَّعته مع حركة طالبان في أفغانستان العام الماضي في العاصمة القطرية الدوحة ونص على انحساب كامل القوات الأمريكية والدولية (قوات الناتو) من أفغانستان بحلول الأول من مايو/أيار المقبل، وهو ما يعني أن بايدن -الذي أعلن أن انسحاب قواته سيبدأ بداية مايو/أيار وينتهي قبل 11 سبتمبر/أيلول- قد أخَّر بالفعل نهاية تلك الحرب الأبدية عما كان ترامب قد قرره، لكن في نهاية المطاف يرى كثير من المحللين أن بايدن على طريق تنفيذ وعده بالفعل في هذه النقطة.

وفيما يتعلق بحرب اليمن، حقق بايدن وعده بإنهاء الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في تلك الحرب التي اندلعت في مارس/آذار 2015 بعد انقلاب الحوثيين واستيلائهم على الحكم في اليمن، في محاولة لإعادة الحكومة الشرعية في البلاد وإنهاء الانقلاب الحوثي، لكن الحرب لا تزال مستمرة حتى اليوم، وتحولت اليمن إلى أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب التقارير الأممية.

القرارات التي اتخذها بايدن بشأن الحرب في اليمن لم تؤدِّ إلى وضع الحرب أوزارها -كما أعلن أن هذا هدفه- حيث صعد الحوثيون من هجماتهم داخل اليمن للاستيلاء على مأرب وخارجها باستهداف مكثف لأهداف مدنية داخل السعودية من خلال الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، ولا يزال سيناريو إنهاء الحرب في اليمن بعيداً عن الواقع رغم قرارات بايدن.

حقوق الإنسان وسياسة بايدن

وعد بايدن أن يجعل ملف حقوق الإنسان حول العالم في القلب من السياسة الخارجية الأمريكية تحت رئاسته، في تغيير جذري عن سياسة ترامب الذي لم يُعر هذه القضية أي اهتمام طوال فترة رئاسته، فماذا حقق بايدن في هذه القضية خلال المئة يوم الأولى من رئاسته؟

ناقش بايدن بشكل مباشر انتقاداته للصين في ملف حقوق الإنسان مع نظيره الصيني شي جين بينغ، وركز على قضية الديمقراطية في هونغ كونغ وانتهاكات حقوق الإنسان بحق الإيغور المسلمين في إقليم شينغيانغ، إضافة إلى تصرفات بكين العدائية تجاه تايوان.

كما صدرت عن بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن وغيرهما من كبار المسؤولين في الإدارة انتقادات متكررة بشأن ما يتعرض له المعارض الروسي الأبرز أليكسي نافالني، وأصدرت واشنطن عقوبات بحق مسؤولين روس، بل ووصف بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بـ”القاتل”، وردت موسكو باستدعاء سفيرها في واشنطن، ولا تزال العلاقات في أدنى مستوياتها منذ سنوات، بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.

وعلى الرغم من أن إدارة بايدن قامت بنشر تقرير استخباراتي سري بشأن مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018 يحمل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المسؤولية المباشرة عن تلك الجريمة، إلا أن بايدن رفض اتخاذ أي إجراءات بحق ولي العهد وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات داخل أروقة السياسة الأمريكية وخارجها، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.

التسامح مع الديكتاتورية والقمع

وفي سياق ملف حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية حول العالم، كان بايدن أيضاً قد وعد بعدم التسامح مع من وصفهم بالزعماء الديكتاتوريين من أمثال بوتين ورئيس كوريا الشمالية كيم يونغ أون، وهو ما قالت الإندبندنت إنه تحقق “إلى حد ما”، فقد أصدرت إدارة بايدن بالفعل حزمتي عقوبات بحق المسؤولين الروس، وقررت واشنطن ألا ترهن علاقتها مع موسكو بالعلاقة المباشرة مع بوتين والتركيز أكثر على إيجاد أرضية مشتركة بين البلدين، وفيما يخص الزعيم الكوري، اعترف فريق بايدن بأنهم سعوا للتواصل مع بيونغ يانغ لكن الجانب الكوري الشمالي رفض.

وفيما يتعلق بالشرق الأوسط في هذه النقطة، كان بايدن قد انتقد -أثناء حملته الانتخابية- ما وصفه باعتقال وتعذيب معارضين مصريين، واعداً بعدم تقديم “مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل”، في إشارة إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

هذا الوعد الذي قدمه بايدن من خلال تغريدة له في يوليو/تموز 2020 تناقضه قرارات إدارته بشأن القاهرة خلال الأيام المئة الأولى من رئاسته، وأبرز تلك القرارات الموافقة على صفقة سلاح قيمتها نحو 200 مليون دولار لمصر والتدخل لمنع محاكمة رئيس وزراء مصر الأسبق حازم الببلاوي أمام القضاء الأمريكي بتهمة التعذيب.

Mohamed Amashah is finally home after 486 days in Egyptian prison for holding a protest sign. Arresting, torturing, and exiling activists like Sarah Hegazy and Mohamed Soltan or threatening their families is unacceptable. No more blank checks for Trump’s “favorite dictator.” https://t.co/RtZkbGh6ik

— Joe Biden (@JoeBiden) July 12, 2020

فقد اتخذت إدارة بايدن الشهر الجاري خطوة وصفها تقرير لموقع Responsible Statecraft  بأنها “استثنائية”، حيث طالبت الإدارة بتوفير الحصانة لحازم الببلاوي، أحد المسؤولين المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان، من دعوى قضائية فيدرالية تطالب بتعويضات ضده باعتباره رئيس الوزراء المصري السابق لدوره في التعذيب والاحتجاز التعسفي والانتهاكات المروعة ضد مواطن أمريكي.

ووصف التقرير الخطوة من جانب بايدن بأنها تعكس تنحية حديث إدارته عن “إعادة حقوق الإنسان إلى مركز السياسة الخارجية الأمريكية”، للحفاظ على علاقتها مع الرئيس المصري، على غرار ما كان ترامب يفعله.

وفي تقرير لمجلة Politico الأمريكية حول أداء بايدن خلال الأيام المئة الأولى من رئاسته، نقلت المجلة عن أشخاص عملوا مع الرئيس الأمريكي في فترات مختلفة من مشواره السياسي الممتد لما يقرب من نصف قرن قضى معظمها عضواً في مجلس الشيوخ، قولهم إن بايدن دائماً ما يزن أي قرار يتخذه بميزان سياسي، وإن ذلك لم يتغير بعد أن أصبح رئيساً.

والمقصود هنا أن جميع القرارات التي اتخذها، أو لم يتخذها، حتى الآن تعكس بشكل جزئي إدراكه لكيفية تأثير القرار من الجانب السياسي أولاً ثم يأتي أي اعتبار آخر في المرتبة التالية من حيث الأهمية.

ماذا عن الاتفاق النووي مع إيران وملف الهجرة؟

وعد بايدن بإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني الذي كان ترامب قد انسحب منه عام 2018، ويمكن القول إن الرئيس قد التزم بتنفيذ وعده من خلال المشاركة في مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق بالفعل في فيينا بمشاركة الإيرانيين وباقي أطراف الاتفاق (روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، لكن مدى نجاح تلك المفاوضات في إعادة إحياء الاتفاق أو إعلان وفاته نهائياً يظل أمراً مفتوحاً على كل الاحتمالات حتى الآن.

ويرى كثير من المحللين أن ترامب قد جعل من عودة بايدن للاتفاق النووي مع إيران مهمة شبه مستحيلة، ليس فقط عبر الانسحاب الأحادي منه وفرض عقوبات خانقة على طهران، بل أيضاً من خلال تشجيع إسرائيل على تكثيف أعمالها التخريبية، كاغتيال العالم النووي محسن فخري زاده لجرّ طهران إلى الحرب ومؤخراً الهجوم الذي استهدف منشأة نطنز النووية، لكن يبدو أن سياسة النفس الطويل التي تتبعها إدارة بايدن في هذا الملف تسير في الاتجاه الصحيح حتى الآن، وأبرز دليل على ذلك هو قبول إيران المشاركة في مفاوضات فيينا بعد أن كانت ترفض تماماً التفاوض قبل رفع العقوبات الأمريكية أولاً.

وفيما يخص ملف الهجرة والمهاجرين في الولايات المتحدة، كان بايدن قد وعد بإلغاء جميع ما اتخذه ترامب من قرارات وسياسات معادية للمهاجرين، ونتوقف هنا عند أبرز الوعود التي قطعها على نفسه لتنفيذها خلال المئة يوم الأولى من رئاسته، وما تحقق منها وما لم يتحقق، بحسب تقرير الإندبندنت البريطانية.

وعد بايدن برفع سقف عدد المهاجرين المقبولين إلى الولايات المتحدة من 15 ألفاً سنوياً -كما حددها ترامب- إلى 125 ألفاً سنوياً، لكن هذا الوعد لم يتحقق منه الكثير، ففي البداية وبعد تنصيب بايدن أعلن البيت الأبيض أن الإدارة ستلتزم بسقف ترامب (15 ألفاً سنوياً فقط)، لكن بعد انتقادات عنيفة من الديمقراطيين (حزب بايدن)، قال البيت الأبيض إن الإدارة ستراجع الأرقام وستسعى لرفعها إلى 62 ألفاً سنوياً (أقل من نصف ما وعد به الرئيس سابقاً)، ورغم ذلك من المتوقع ألا تزيد أعداد المهاجرين المقبولين هذا العام على 15 ألفاً إذا لم تقلّ، بحسب البيانات المتاحة حتى اليوم، كما قالت الصحيفة البريطانية.

لكن بايدن حقق أكثر من وعد في هذا الملف بالتحديد، فقد وعد برفع الحظر عن السفر إلى الولايات المتحدة من بلاد ذات أغلبية مسلمة كان ترامب قد فرضه، وحقق بايدن ما وعد به ورفع الحظر بالفعل، ووعد بايدن بوقف تمويل بناء الجدار العازل على الحدود الجنوبية مع المكسيك ونفذ هذا بالفعل، كما وعد بإلغاء قرار ترامب منع المهاجرين من الاستفادة من الخدمات العامة في البلاد ونفذ ذلك بالفعل.

روسيا والصين والشرق الأوسط

النقطة التي تستحق التوقف عندها في خطاب بايدن بمناسبة مرور 100 يوم على رئاسته، هي التركيز الواضح للرئيس الأمريكي على الملفات الداخلية مقارنة بملفات السياسة الخارجية بشكل عام، فقد استفاض بايدن في الحديث عن خطته الاقتصادية وحزم المساعدات للمتضررين من وباء كورونا وحملة التطعيم في البلاد وملف الانقسام الداخلي وقانون إصلاح الشرطة (قانون جورج فلويد – المواطن الأمريكي من أصل إفريقي الذي أدى مقتله على يد شرطي أبيض لإطلاق مظاهرات واحتجاجات ضخمة ضد العنصرية في أنحاء أمريكا والعالم الغربي)، بينما جاء حديثه عن الصين وروسيا والشرق الأوسط مقتضباً دون تفاصيل.

فقد أكد بايدن أن إدارته لا تسعى إلى “نزاع مع الصين”، لكنه عبّر عن “الاستعداد للدّفاع عن المصالح الأمريكيّة في المجالات كافّة”، وقال: “خلال مناقشاتي مع الرئيس شي (جين بينغ)، أخبرته بأنّنا نؤيّد المنافسة”، ولكن في المقابل “سنحارب الممارسات التجاريّة غير العادلة” و”سنحافظ على وجود عسكريّ قوي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ” و”لن نتخلّى عن الدفاع عن حقوق الإنسان”.

وفيما يخص روسيا، شدد بايدن أيضاً على أنه لا يسعى إلى تصعيد التوتّرات مع نظيره الروسي بوتين بعد أن فرض عقوباتٍ على موسكو بسبب مجموعة من المخاوف، وقال أمام الكونغرس: “أوضحتُ لبوتين أننا لا نسعى إلى التصعيد، لكن أفعالهم لها عواقب”.

الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما كان نائباً للرئيس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين/رويترز

ولم يتطرق بايدن أيضاً للشرق الأوسط وقضاياه بشكل لافت، بل جاء ذكر المنطقة فقط في سياق حديثه عما وصفه بـ”الإرهاب”، وإشارة أخرى إلى الملفات النووية، فقال الرئيس إن تنظيمَي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام أو ما يُعرف بـ”داعش” موجودة في كل من اليمن وسوريا والصومال، بالإضافة إلى مناطق أخرى بإفريقيا والشرق الأوسط، بحسب تقرير لشبكة CNN.

بايدن قال في هذه النقطة: “لا تُخطئوا، خطر الإرهاب تطور إلى ما بعد أفغانستان منذ عام 2001 وسنبقى يقظين من أي تهديدات على الولايات المتحدة الأمريكية”، مضيفاً: “ونحن لن نتجاهل ما حددته وكالات استخباراتنا – التهديد الإرهابي الأكثر فتكاً لبلدنا اليوم يأتي من الإرهاب العنصري الأبيض، علينا يا رفاقي الأمريكيين أن نجتمع معاً لشفاء روح هذه الأمة”.

ولم يذكر بايدن الاتفاق النووي مع إيران ولا المفاوضات الهادفة إلى إعادة إحيائه، بل تطرق في خطابه لملفات البرامج النووية، حيث قال: “بالنسبة للبرنامج النووي بإيران وكوريا الشمالية فهذا يفرض تهديداً حقيقياً على الأمن القومي الأمريكي والأمن العالمي، سنعمل على مقربة من حلفائنا للتعامل مع التهديدات التي تشكلها الدولتان عبر الدبلوماسية والردع الصارم”.

الخلاصة هنا هي أن خطاب بايدن الخاص بالمئة يوم الأولى من رئاسته يكشف بشكل واضح تركيز الإدارة على ملفات الداخل بصورة واضحة في مقابل تراجع التركيز على ملفات السياسة الخارجية وبصفة خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تمثل تاريخياً منطقة نفوذ أمريكي رئيسية، واختلف ذلك بشكل واضح في ظل سياسة ترامب التي وصفت بالانعزالية وشعارها “أمريكا أولاً”، لكن يبدو أن انشغال بايدن داخلياً سيكون السيناريو الأكثر احتمالاً لرئاسته رغم قوله بمجرد تنصيبه إن “أمريكا قد عادت” لقيادة العالم.

عربي بوست