السياسية:

لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تفادي الفخاخ التي تنتشر عبر الشرق الأوسط، ما أدى إلى تقلص نفوذها، وفي الوقت نفسه تسعى الصين إلى أن ترث أمريكا في هذه المنطقة المضطربة، فلماذا تعتقد بكين أن بوسعها أن تنجح حيث فشلت واشنطن؟

ففي الوقت الذي يشهد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط تراجعاً ملحوظاً نتجت عنه رغبة واشنطن في الانسحاب من المنطقة لأسباب متنوعة في مقابل تراجع حاجتها للسلعة الرئيسية وهي النفط، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة من أكبر منتجي الخام في العالم، تزحف الصين ببطء إلى المنطقة معتمدة على استراتيجية مختلفة تماماً عن الاستراتيجية الأمريكية.

فبعد أن أصبحت مبادرة الحزام والطريق رمزاً لقوة الصين وبزوغها كنجم ساطع في سماء القيادة العالمية التي كانت تنفرد بها الولايات المتحدة منذ أكثر من ثلاثة عقود، تولي بكين أهمية خاصة للشرق الأوسط، فالمبادرة التي تبناها الزعيم الصيني شي جين بينغ عام 2013 وكان يشار إليها في البداية باسم طريق الحرير هي أيقونة الاستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية، والهدف منها إنشاء وتطوير مشاريع ضخمة للبنية التحتية في نحو 70 دولة حول العالم عبارة عن موانئ وسكك حديدية ومطارات لربط قارات العالم بشكل محوري انطلاقاً من الصين.

ويقوم هذا النهج التنموي الذي تتبناه الصين على إحياء مشروع طريق الحرير القديم، من أجل تعزيز الترابط والاعتماد المتبادل نتيجة التغيرات الهائلة في الاقتصاد والتوازنات الجيوسياسية في العالم، وتستهدف الصين من تنفيذ هذا المشروع الوصول إلى أسواق جديدة، وتأمين سلاسل التوريد العالمية التي ستساعد في المقابل في توليد فرص مستمرة لنمو الاقتصاد الصيني، ومن ثم المساهمة في الاستقرار الاجتماعي في الداخل.

الصين تتبنى استراتيجية خاصة بالشرق الأوسط

ويسعى قادة الصين إلى إعادة اختراع طريقة أخرى غير تلك التي لطالما عملت بها القوى العظمى في منطقة الشرق الأوسط، وهكذا جعلوا أكبر همهم خلال السنوات الأخيرة توقيعَ اتفاقيات تجارية واتفاقيات تعاون مع قوى إقليمية هي في معظم الأحيان قوى متنافسة أو معادية لبعضها.

فتقول الصين إنها تتمتع بعلاقات دافئة مع إسرائيل وفلسطين في آنٍ واحد، ودعت كلاهما لإرسال مبعوثين إلى بكين لإجراء محادثات سلام، وفي الشرق الأوسط، المنطقة التي يندر الاجتماع على الثقة بأحدٍ فيها، باتت الصين تحظى بالإشادة بوصفها مورداً موثوقاً للقاحات كورونا وتقنيات المراقبة من جانب أنظمة الحكم العربية وغير العربية جميعها، بحسب تقرير لصحيفة The Economist البريطانية.

ولكونها أكبر مستورد للنفط في العالم تعدُّ الصين شريكاً تجارياً لا يمكن الاستغناء عنه، سواء من إيران أو من السعودية، وبلغ الأمر أن أجرت السفن الحربية الصينية، أكثر من مرة، مناورات منفصلة مع البحرية الإيرانية ونظيرتها السعودية، بفاصل بضعة أسابيع بينهما فحسب.

الرئيس الصيني وولي عهد أبوظبي

يبدو القادة الصينيون على يقين بأن النهج المختلف لبلادهم تجاه الجغرافيا السياسية -وهو نهج يتمحور حول المصالح وعدم الاكتراث بالقيم، ويفترض أن معظم الأطراف الأجنبية يمكن شراؤها مقابل سعرٍ ما- سيكفل لهم تجنب المستنقعات التي غالباً ما يتعثر في وحلِها الغرباء عن الشرق الأوسط، من أمريكا إلى القوى الاستعمارية في أوروبا القديمة قبلها.

زيارة صينية ذات مغزى

وفي أثناء الزيارة التي شملت ست دول شرق أوسطية في أواخر مارس/آذار، أعرب وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، عن أسفه “للعواقب الوخيمة التي لحقت بالمنطقة بسبب التدخلات الخارجية”، ويأتي ذلك في وقتٍ وقّع فيه وانغ اتفاقيةً تعاون مع إيران مدتها 25 عاماً، ولا تزال تفاصيل الاتفاقية غامضة، لكن يُعتقد أن الصفقة تشمل بيع النفط الإيراني بأسعار رخيصة مقابل المساعدة الصينية في بناء شبكات اتصالات ومستشفيات وخطوط سكك حديدية تحت الأرض، ويُشاع الاتفاق أيضاً على إقامة موانئ تطل على بعض أكثر الممرات المائية أهميةً استراتيجية في العالم.

يعتمد القادة الصينيون على استغلال هذا التركيز المعلن لسياساتهم على التجارة، ففي الكلمة التي ألقاها شي جين بينغ أمام جامعة الدول العربية في عام 2016، قال إن الصين لا تسعى إلى حيازة مناطق نفوذ أو وكلاء جيوسياسيين تابعين لها في المنطقة، وبدلاً من ذلك، انهمك شي في وصف رؤية للتقدم مبنيةً على النمو الاقتصادي، معلناً عن رأيه بأن “الاضطرابات في الشرق الأوسط تنبع بالأساس من الافتقار إلى التنمية”.

وعلى هذا النحو، تقدم الصين، حتى أعقد المشاكل، مثل عداء إيران لأمريكا وإسرائيل، على أنها ألغاز يستطيع الرخاء أن يحلها، غير أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن الصين تصر على أن استثماراتها الموعودة في إيران ستُسهم في دعم لا إعاقة الجهود الرامية إلى إعادة النظام الإيراني إلى حظيرة الامتثال إلى الاتفاق النووي الإيراني الذي انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منه.

ووضح يين غانغ، وهو باحث مخضرم في شؤون الشرق الأوسط في “الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية”، الأسباب التي يجب أن تدفع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الثقة بأن الصين، على خلاف ما قد يبدو، تعارض طموحات إيران النووية، حتى في الوقت الذي تسعى فيه إلى توسيع نطاق التجارة الصينية الإيرانية.

الصين أيضاً لا تريد إيران نووية

وفي هذا السياق، يشير غانغ، بحسب تقرير الإيكونوميست، إلى أن الصين لديها أسبابها الخاصة للتخوف من قنبلة نووية إيرانية، بدءاً من مخاطر اندلاع سباق تسلحٍ إقليمي على إثر ذلك، “فإذا كانت هناك قنبلة نووية فارسية، فلا بد أنه سيتبعها وجود قنبلة نووية عربية، وأخرى تركية”، وعلى الرغم من أن هذا قد لا ينطوي على تهديد مباشر للصين، فإنها لن تخاطر “باندلاع صراع نووي في المنطقة، إذ كيف يمكن للصين وقتها الحفاظ على تجارتها واستثماراتها في ظل ذلك؟”.

ويقول غانغ إن الصين تؤمن بأن حتى أشد العقوبات الاقتصادية صرامةً لا تمنع البلدان من تطوير رؤوس حربية نووية، وهو يستدل بكوريا الشمالية مثالاً رئيسياً على ذلك، ومنطق الصين أن إيران سيكون لديها مزيد من الأسباب لتهذيب سلوكها إذا رفعت أمريكا عنها العقوبات وسمحت للشركات الصينية والأوروبية وغيرها باستئناف التجارة القانونية مع الشركاء الإيرانيين.

لهذا السبب، تدعو الصين أمريكا لرفع العقوبات، وتدعو إيران لاستئناف الامتثال للقيود النووية، والواقع أن صراحة الصين الفجة في أن هدفها من ذلك هو مصلحتها الذاتية، لهي سببٌ أدعى إلى الاعتقاد بأنها صادقة في سعيها، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية، ويبدو أن إدارة بايدن بدأت تميل بالفعل إلى ذلك في الوقت الحالي.

ففي أعقاب الاجتماع رفيع المستوى الذي عقد في مارس/آذار في ألاسكا بين مجموعة من كبار الدبلوماسيين الأمريكيين والصينيين، بدا البرنامج النووي الإيراني أحد البنود القليلة التي اجتمع الطرفان على إمكانية التعاون فيها. ورداً على سؤال حول الخطط الصينية لتوسيع التجارة مع إيران، وصف متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية معارضةَ امتلاك إيران لأسلحة نووية بأنها إحدى “القضايا القليلة التي يهيمن عليها الاصطفاف التكتيكي” بين بلاده والصين.

هل تنجح الصين في كسب جميع الأطراف؟

وعلى الجانب الآخر، يشير الدبلوماسيون الأجانب في بكين إلى أن الصين تسعى في واقع الأمر إلى تحقيق أهداف سياسية ترمي إليها في الشرق الأوسط، مثل الضغط على إيران والدول العربية لإبداء التأييد لحملتها القمعية على الأقلية الإيغورية المسلمة في إقليم شينجيانغ.

ورغم ذلك، يقر غانغ بأن عديداً من الباحثين الصينيين قلقون بشأن المحاولات التي تبذلها بلادهم للاستفادة من جميع الأطراف، ويقول إن الشرق الأوسط منطقة مليئة بالفرص، لكنها أيضاً “فخ ومستنقع”، إذ على الصين أن تنظر إلى ما فعلته التدخلات الأمريكية، وتعتبر من ذلك.

وفي السياق، يتحدث بعض الخبراء الصينيين عن أن الولايات المتحدة قد تركت فراغاً يجب ملؤه في الشرق الأوسط، ويتفق داني راسل، المساعد السابق لوزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا، على أن الصين تشعر بالفعل بطلبٍ على الحضور الصيني في الشرق الأوسط، لاسيما مع تنامي عدم الموثوقية بالولايات المتحدة.

ويشير راسل إلى أن الحكومة الصينية أخبرت الشركات في بلادها بالخروج وبيع التقنيات المتقدمة التي ستحمل قيم بلادهم والترويج لإمكانيات بلادهم التقنية في جميع أنحاء العالم، لاسيما عبر مبادرة الحزام والطريق. لكن راسل يلفت إلى أن الصفقات الطموحة تأتي معها مخاطر سياسية، إذ “كلما تضاعف تأثيرك، وزادت قيمة استثماراتك، أصبح وضعك أكثر هشاشة” وتأثراً بتغير الأوضاع واضطرابها.

وحتى مع انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط، فإن وجودها يحوم فوق الحسابات الصينية هناك، فشركاء الصين التجاريون الذين تحصد من ورائهم أكبر المكاسب، هم أنفسهم دول الخليج العربية التي لا يمكنها ببساطة التخلي عن دعم أمريكا، الضامن التقليدي لأمنهم. وفي وقت ما، قد تطلب أمريكا من تلك الدول حسم انحيازها إلى جانب ما، على سبيل المثال، إذا أرادت الصين بناء موانئ ذات استخدامات تجارية وعسكرية مزدوجة، أو التعاون بشأن تقنيات حساسة من الناحية العسكرية.

والخلاصة أن منهج التجارة غير المكترثة بالتزام القيم الأخلاقية داخلياً قد جنب الصين عديداً من المزالق في المنطقة حتى الآن، لكن هذا لا يمنع أن سفن طموحاتها قد تصطدم بالرمال في أي وقت.

عربي بوست