علي فواز *

حمل العقد الأخير، وتحديداً منذ حراكات “الربيع العربي”، بشائر للكيان الإسرائيلي، عبّرت عنها تقارير صادرة عن مراكز أبحاثه وصحفه. نظرت تل أبيب إلى التحوّلات الجارية في البيئة الإقليمية المحيطة بها في البداية باعتبارها فرصاً. بعد سنوات، بدأت الأمور تتغيّر، وأخذت التقديرات تتغيّر معها. لا ينفصل اليمن من منظور “إسرائيل” عن الصراع الدائر في المنطقة ودورها المركزي في هذا الصراع. بالنسبة إليها، يقع اليمن ضمن قائمة التهديدات والفرص التي تواكبها عن كثب، إذ تجد نفسها معنية بالتدخل لترجيح كفّة الفرص، أملاً بتحقيق مكاسب استراتيجية.

أكثر من فرصة

أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، صرّح نائب وزير الإعلام في حكومة صنعاء فهمي اليوسفي عن “مفاجأة” بشأن التواجد الإسرائيلي في الساحة اليمنية. قبلها، ذكرت أكثر من وسيلة إعلامية صهيونية وغربية أن “الجيش الإسرائيلي سيستخدم قاعدة عسكرية سيتم إنشاؤها في جزيرة سقطرى”. علّق اليوسفي على ذلك، مؤكداً أن “سقطرى هي محل مطامع إسرائيل منذ الماضي”.

لم يمرّ أسبوع على تصريحات اليوسفي، حتى أعلن رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، المتحالف مع الإمارات، عن إمكانية المجلس التطبيع الكامل مع “إسرائيل” في حال استعادة “دولة جنوب اليمن”، مباركاً في الوقت نفسه التطبيع الإماراتي مع كيان الاحتلال. تصريح مُهّد له سياسياً وإعلامياً قبل ذلك بعامين، وتحديداً في شباط/فبراير 2019، عندما جلس وزير الخارجية اليمني في حكومة هادي خالد اليماني إلى جانب بنيامين نتنياهو خلال افتتاح “مؤتمر الشرق الأوسط” في العاصمة البولندية وارسو.

سبقت ذلك تلميحات صدرت عن قيادات في المجلس الانتقالي، منها ما جاء على لسان نائب رئيس المجلس الانتقالي، هاني بن بريك، في مناسبات عدة. إحداها كانت تغريدة في تشرين الأول/أكتوبر 2018 كتب فيها أنَّ “الالتقاء بالإسرائيليين وعقد الصلح معهم بما يخدم البشرية والسلام العالمي، ليس حراماً. وهناك مبادرة عربية قدمتها السعودية هي خارطة طريق”.

رغم أنَّ هذه التصريحات والتوجهات لاقت انتقادات من فصائل ومكونات عدة جنوب اليمن، فإنَّ “إسرائيل” تنظر إليها بارتياح يشوبه الحذر، فقد قوبل تصريح الزبيدي برفضٍ من أغلب القوى الجنوبية الفاعلة والمؤثرة، بما فيها المكوّنات المتفقة معه في مسألة الانفصال، أبرزها مجلس الحراك الثوري الجنوبي الذي يتزعمه حسن باعوم، إضافةً إلى المكونات غير الانفصالية، ما يدل على أن مسألة العداء لـ”إسرائيل” ما زالت متجذرة وتتخطى الانقسامات السياسية في معظم المناطق اليمنية وفي أوساط أغلبية المواطنين.

هذه الوقائع، رغم حقيقتها، لا تزعج تل أبيب التي تعتبر أن أي مكتسب، مهما كان حجمه، أفضل من لا شيء. على هذا الأساس، احتفت صحيفة “إسرائيل اليوم” القريبة من نتنياهو بـ”الصديق الجديد” في اليمن وعدّته إنجازاً.

في كل الأحوال، ليس هذا الأمر الوحيد الذي يراهن عليه الاحتلال في هذا البلد، إذ يثير ارتياح “إسرائيل” وضع الإمارات يدها على بعض مقدرات اليمن وجزره، إضافةً إلى سطوتها ونفوذها عبر المجلس الانتقالي الجنوبي. هذه الوقائع تمثل بالنسبة إليها تطورات إيجابية، بما يسمح لها أحياناً بالتواجد الميداني تحت غطاء شركات أجنبية أو خبراء أو بشكل سرّي.

على سبيل المثال، توالت الأخبار خلال السنوات الفائتة عن استئجار الإمارات ضباطاً إسرائيليين متقاعدين من شركات أمنية أجنبية، لتدريب قيادات من الأحزمة الأمنية في أبو ظبي. كما نفّذ إسرائيليون يعملون في شركات أجنبية، مثل شركة “سباير أوبريشن” الأمنية الأميركية، عشرات الاغتيالات التي استهدفت مناوئين للإمارات والمجلس الانتقالي في محافظة عدن، بحسب ما يؤكد موقع “بازفيد نيوز”.

تهديدات لم تكن محسوبة

في المقابل، توازي هذه التطورات والفرص، وتفوقها أحياناً، تهديدات لم تكتمل دائرتها بعد. أبرز هذه التهديدات هي التطورات الميدانية التي تتسارع في مأرب وانعكاساتها الاستراتيجية، سواء على السعودية أو على “إسرائيل” نفسها، التي تعلّمت من السنوات الماضية أن ما يلوح كفرص في البداية لا يعدو كونه وميضاً غير مضمون العواقب، وقد ينقلب إلى النقيض في منطقة تشهد تحوّلات لم تنتهِ فصولها بعد.

ربما من هذا المنطلق لم تحتفِ القيادات الإسرائيلية كثيراً بالتصريحات والمواقف التطبيعية الصادرة عن المجلس الانتقالي الجنوبي اليمن، ولقناعتها بأنَّ الوضع هناك ما زال هشاً ومؤقتاً، وبأن المجلس يبيعها مواقف لغايات وطموحات سياسية. أما تمثيله على الأرض، فيبقى محدوداً، وإن كان يسيطر على بعض المواقع الحيوية التي تغري “إسرائيل”، مثل جزيرة سقطرى ومدينة عدن، كذلك تواجده في جزيرة ميون وباب المندب من خلال قوات موالية له.

منذ بداية الحرب على اليمن، نُشرت مئات التقارير في صحافة العدو ومراكز الدراسات العاملة في مؤسساته حول التهديدات القادمة من اليمن، ولا سيّما مع انقلاب المشهد الميداني في ضوء الإنجازات والمعادلات التي قلبها الجيش اليمني و”أنصار الله” لمصلحتهم في السنوات الأخيرة، ومديات الصواريخ والمسيّرات اليمنية التي أصابت مواقع حساسة بدقّة على بعد مئات الكيلومترات. أبرز هذه التهديدات يمكن اختصارها في ثلاثة أبعاد أساسية.

بُعد العلاقة مع السعودية

تؤدي السعودية أكثر من غيرها دور رأس الحربة في الحرب على اليمن، وتعوّل عليها “إسرائيل” أكثر من غيرها في اتفاقيات التطبيع، نظراً إلى موقعها الجغرافي ودورها وحجمها وثرواتها. هي محط اهتمام إسرائيلي، لكونها دولة محورية في “مشاريع السلام” الاقتصادية والتشبيك الاقتصادي وما يتفرع عنه من خطوط إمداد ومواصلات بحرية وبرية. لذلك، تجد “إسرائيل” نفسها معنيّة باستقرار الحكم في الرياض وتجنيبه تداعيات الهزيمة العسكرية وارتداداتها المحتملة على الداخل السعودي، عدا عن أنّ أيّ انتكاسة وتراجع للنفوذ السعودي السياسي والاجتماعي والديني في اليمن، من شأنه أن ينعكس على المحور الجديد الآخذ في التبلور من تل أبيب مروراً بالرياض.

وقد أوردت صحيفة “GLOBES” الإسرائيلية في أيلول/سبتمبر 2020 أنَّ “إسرائيل تقترح إنشاء خط أنابيب نفط سعودي – إسرائيلي” سيوفر على المملكة الكثير من التكاليف الأمنية، ويقلّل التهديدات الأمنية والاقتصادية للنفط المعتمد على طرق الملاحة البحرية، ويضعف أهمية حاجتها إلى تأمين اليمن وضمان استقراره المرتبط بشكل مباشر مع أمنها واستقرارها، غير أن هذا المقترح لا يعد بديلاً ناجعاً عن باب المندب، إلا في ما يتعلّق بالصادرات النفطية والبتروكيماوية المعدة للتصدير إلى أوروبا وأميركا عبر البحر المتوسط.

تحت سؤال: لماذا يصرون على اليمن في “إسرائيل”؟ يذكر موقع “إسرائيل ديفنس” أنّه يمكن التقدير بأن إحدى الأطروحات هي مساعدة السعودية في إطار مفاوضات دبلوماسية. ويتابع أنَّهم في “إسرائيل” يريدون إنجاز اتفاق تطبيع مع السعودية، ويعلمون أن الطريق إلى الرياض تمرّ بصنعاء، وإذا أرادوا تقديم “هدية” لولي العهد محمد بن سلمان، ليس هناك هدية أفضل من المساعدة ضد “الحوثيين”.

أيضاً، يذكر موقع “غلوبس” الإسرائيلي أن على “إسرائيل” مساعدة السعودية ضد الهجمات الصاروخية، وأن لديها مصلحة في أن تكون يد السعودية هي العليا في الصراع مع إيران، ثم يمكنها قطف الثمار السياسية عاجلاً أو آجلاً، على أن يتم ذلك عبر قنوات سرية.

بُعد الموقع الاستراتيجي والبحر الأحمر

يبرز اليمن بموقعه الجيوسياسي في قلب معادلات الصراع في المنطقة، وهو يطل على أحد أبرز المضائق في العالم. ويعدّ باب المندب من هذا المنطلق البوابة البحرية الوحيدة للكيان الإسرائيلي نحو الشرق. لذلك، تجد المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها معنيَّة به وفق اعتبارات بالغة الأهمية.

الصّحف الإسرائيلية عبّرت مراراً من خلال تسريبات عن تخوّفها مستقبلاً من إمكانية استهداف قطعها البحرية في البحر الأحمر قبالة السواحل اليمنية. تعتمد “إسرائيل” على الشحن البحري في معظم تبادلاتها التجارية. ووفق “هآرتس”، تجري 90% من واردات وصادرات “إسرائيل” عبر البحر، و12% من هذه العمليّات تمرّ في مضيق باب المندب.

هذا الأمر برز مؤخراً من خلال التوترات البحريّة والاستهدافات المنسوبة إلى إيران، وآخرها ما ذكره الإعلام الإسرائيلي (الخميس 25 آذار/مارس)، إذ أشار إلى أنّ سفينة إسرائيلية أُصيبت بصاروخ إيراني في بحر العرب الذي يطلّ عليه اليمن. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد صرّح في آب/أغسطس 2018 بأنَّ “إسرائيل” ستشارك في العملية العسكرية لفكّ الحصار عن مضيق باب المندب، ما يدلّ على حساسية هذا الموضوع بالنسبة إليها.

وحين انتصرت ثورة 21 أيلول/سبتمبر اليمنية في العام 2014م، خرج نتنياهو ليُحذّر من خطورة وصول “الحوثيين” إلى باب المندب، وكان ذلك تعبيراً مُبكراً عن الهواجِس من صعود دولة عربية جديدة إلى خطّ الصراع الأول مع الصهيونية. وكانت “إسرائيل” ساعدت السلطات الإريترية على احتلال جزيرة حنيش الاستراتيجية. والآن، تمتلك البحرية الإسرائيلية قاعدة عسكرية في إريتريا.

أجهزة الأمن الإسرائيليّة عبّرت منذ مدّة طويلة، بحسب تقرير لصحيفة “هآرتس” نشر هذا الشهر، عن خشيتها من أن تختار إيران الساحة البحرية للاشتباك مع “إسرائيل”، وحذّرت من قابليّة هذه الساحة للاشتعال، مشيرةً إلى أنها تهدّد حريّة الملاحة في المسارات البحريّة، ما سيسبّب أضراراً كبيرة للاقتصاد الإسرائيلي.

وسيؤدي التصعيد في الساحة البحريّة، وخصوصاً في مضيقي باب المندب وهرمز، وفق ما يعتقد مسؤولون إسرائيليّون، إلى أن تختار شركات عدم الوصول إلى “إسرائيل”، بينما ستدفع الشركات التي ستوافق على الوصول إليها مبالغ كبيرة على التأمين، ما سيؤدي إلى رفع أسعار البضائع.

ويقدّر مسؤولون كبار في سلاح البحريّة الإسرائيليّة أنَّ إيران طوّرت قدرات متطوّرة تتيح لها تهديد السفن البحرية على مديات كبيرة من البرّ، كما يقدّر المسؤولون أن “حزب الله” اللبناني و”الحوثيين” في اليمن يملكون مثل هذه الصواريخ.

بُعد اليمن كساحة من محور المقاومة

في ذكرى “اليوم الوطني للصمود” الذي تزامن مع دخول العدوان على اليمن عامه السّابع، أعلن زعيم “أنصار الله” عبد الملك الحوثي عن وجود دور أميركي وإسرائيلي وبريطاني مشترك في التخطيط للعدوان على بلاده، موضحاً أن “هؤلاء اختاروا طرفاً لينفّذه وتحمّل تبعاته”، وهو يتمثل، بحسب تعبيره، بالسعودية والإمارات. ورأى الحوثي أنه كان هناك تحريض كبير عليه من قبل العدو الإسرائيلي قبل بدء العدوان.
لم يكن هذا التأكيد هو الأول من نوعه، فقد حذر محمد ناصر العاطفي، وزير دفاع في حكومة صنعاء، أواخر العام 2019، من أن قواته تمتلك بنك أهداف إسرائيلياً براً وبحراً. وكرَّر مسؤولون وقياديون يمنيون أكثر من مرة في صنعاء تهديدهم لـ”إسرائيل”.

في الأيام الأولى من العدوان على اليمن في العام 2015م، ومع اقتراب موعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، خرج نتنياهو بتصريحٍ لافت يقول فيه: إن “محور إيران – لوزان – اليمن هو محور خطير جداً للبشرية جمعاء، ويجب العمل على وقفه”. حينها، اعتبرت السلطات في صنعاء هذا التصريح إشارة إلى الدور الإسرائيلي في العدوان.

في الأساس، العداء اليمني لـ”إسرائيل” لا ينتظر عدواناً من “إسرائيل” حتى يكتمل، فالأخيرة تعلم أنَّ هذا العداء متجذّر في وجدان الشعب اليمني، ويقع في صلب عقيدة “أنصار الله”. وقد ذكر الحوثي سابقاً أن هذا الشعب لن يتردّد “في إعلان الجهاد ضد العدو الإسرائيلي وإنزال أقصى الضربات بالأهداف الحساسة للكيان”، مضيفاً أنَّ “موقفنا المعادي لإسرائيل هو مسألة مبدأ إنساني وأخلاقي وواجب ديني”.

تُرجم ذلك على امتداد السنوات الماضية في مسيرات جماهيرية حاشدة شهدتها صنعاء ومناطق يمنية أخرى، رفضاً للتطبيع ودعماً للقضية الفلسطينية. وتوّجت هذه الرسالة السياسية برسائل ميدانية عسكرية توقَّفت عندها الصحف الإسرائيلية بكثير من المتابعة والتحليل.

أبرز هذه الرسائل هي الضربة الناجحة والدقيقة التي استهدفت شركة أرامكو في بقيق في أيلول/سبتمبر 2019، ووصل صداها إلى فلسطين المحتلة، إضافةً إلى ضربة صاروخ “قدس 2” المجنّح الذي استهدف منشآت لشركة “أرامكو” قرب جدة، بالتزامن مع زيارة نتنياهو السرية إلى نيوم. ويعتبر هذا الصاروخ نقلة نوعية في القدرات الصاروخية اليمنية، ما جعله مثار اهتمام الأوساط العسكرية الإسرائيلية، وخصوصاً بعد صدور توضيح عن عضو المكتب السياسي لحركة “أنصار الله”، عبد الوهاب المحبشي، بأنَّ اليمن يعمل على تطوير الصاروخ ليصل إلى ميناء إيلات.

وفي مقال نشر في كانون الأول/ ديسمبر 2019، حذّر المركز المقدسي لشؤون الدولة والجمهور الإسرائيلي من وجود تقديرات استخباراتية للولايات المتحدة الأميركية عن قرار إيراني بشنّ هجوم ضد أهداف إسرائيلية، وأنَّ الاستعداد لذلك بدأ بالفعل. لذلك، على “إسرائيل”، بحسب المقال، أن تولي انتباهها لمنطقة اليمن، لأنَّها من الممكن أن تفتح ضدها جبهة جديدة، وليس من سوريا والعراق فقط.

ومن المؤشرات التي تدلّ على انضمام اليمن إلى جبهات التهديدات التي تواجه “إسرائيل”، ما جاء على لسان نتنياهو، إذ حذر في تشرين الأول/أكتوبر 2019 من أنَّ إيران بدأت بالفعل بإدخال أسلحة دقيقة لضرب أيِّ هدف في الشرق الأوسط، مضيفاً: “يهدفون إلى تطوير ذلك، وبدأوا بالفعل في إدخالها لليمن لضرب إسرائيل من هناك”.

* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع