إيهاب زكي*

قد يختلف الزمن وقد تتغير الوسائل، لكن الطبائع والأهداف لا تتغير، والطبيعة العدوانية لكيان العدو الصهيوني ثابتة، وأهدافه التوسعية الاستيطانية راسخة، لذلك فإنّ صراعنا معه هو صراع وجود، فالإلغاء قدر أحدنا. وبما أنّه طارئ على التاريخ، طارئ على الجغرافيا، طارئ على نسيج المنطقة، فإلغاؤه هو قدره، وهذا الإلغاء يجب أن يكون في رأس أولوياتنا جميعًا، أفرادًا ومؤسسات وتنظيمات ودولًا، فحين تربّي أولادك يجب أن يكون هدف التربية الوصول لغاية إلغاء وجود “إسرائيل”، وحين تقوم بعملك يجب أن تكون الغاية منه إزالة “إسرائيل”، حين تجلس على مقعدك المدرسي أو الجامعي، يجب أن تكون غاية جلوسك إزالة “إسرائيل”، حين تكتب أو تقرأ، حين تبني أو تزرع، حتى حين تنجب وحين تلهو مع أطفالك، يجب أن تكون الغاية إزالة “إسرائيل”، كما قال مظفر النواب، تداعب طفلك.. تسمع ضحكته الناعمة الوردية.. تضع إصبعك في فمه.. تبحث عن أول سنٍ تجرح من أجل قضية. وهذه الغاية لا يجب أن تغيب لحظة عن بال إنسانٍ يعيش في هذه البقعة من سطح المعمورة، لأنّ بقاء “إسرائيل” يعني أن لا مكان لنا تحت الشمس، ويعني أننا سنورّث أبناءنا بؤس الضياع وسوء المصير.

وفي هذه الأيام نعيش ذكرى حدثين ثابتين في أهداف العدو وطباعه، مع اختلاف الزمن وتغيير الوسائل، ففي الخامس عشر من آذار/مارس عام 1978، اجتاحت “إسرائيل” جنوب لبنان في عمليةٍ أسمتها “ربّ الحكمة”، وعُرفت إعلاميًا بـ”عملية الليطاني”، وكان الهدف المعلن هو إبعاد قوات الثورة الفلسطينية عن حدود فلسطين المحتلة، لحماية أمن المستوطنات الصهيونية، وكانت هناك أهداف خفية تجلّت في إنشاء ما يسمى بـ”جيش لبنان الجنوبي”، والذي يُعرف بـ”قوات لحد”، والتي أنشأها كيان العدو بقيادة المسمى الرائد سعد حداد، فقد ذكر موشيه شاريت في مذكراته، أنّ بن غوريون في مطلع الخمسينيات، “قدم مقترحات عدة لتدبير تحركاتٍ في لبنان تؤدي لتغيير هويته إلى هويةٍ مسيحيةٍ مارونية” وأردف شاريت” أنّ موشيه دايان رئيس أركان العدو، كان معجباً بفكرة بن غوريون وقال فلنجد ضابطًا لبنانيًا ولنكسب قلبه أو نشتريه بالمال، حتى يعلن نفسه مخلصًا للموارنة، هكذا نتمكن من دخول لبنان واحتلال الأراضي اللازمة، ونخلق نظامًا مسيحيًا يكون مواليًا لنا”، وفق زعمه، وكان منطلق الرؤية “الإسرائيلية” هو إقناع الموارنة بأنّهم أقلية محاطة بدولٍ عربية وإسلامية، مثل اليهود كأقليةٍ محاطة بدولٍ عربية وإسلامية، وهكذا يصبح لبنان ملحقًا بكيان العدو من خلال وحدة المصير، حسب ادعاءاتهم.

فالمسألة لم تكن مجرد احتلالٍ عسكري، بل كانت محاولةً لضرب مقومات ثقافة التآلف المشرقية، ومحاولة الطارئ الصهيوني خلق أشباهٍ له، حتى يصبح طبيعياً في نسيجٍ غريبٍ عنه، ولكن من سوء حظه، فإنّ رجالًا في لبنان قرروا وأد كل تلك الأهداف، وأن يجعلوا من جنوب لبنان مقبرةً جماعية لغايات”إسرائيل” ومحرقةً لكل أهدافها، وأن يبقى لبنان بتنوعه نسيجاً طبيعياً في المنطقة كما كان وكما سيظل، ينفر من ورمٍ خبيثٍ على حدوده الجنوبية، واستطاعوا في العام 2000 دحر “إسرائيل” وما افتعلت يداها من ميليشيا “جنوب لبنان”، فكان التحرير الأول، وكان الأول كذلك في كونه أول انسحاب “إسرائيلي” من أراضٍ عربية دون توقيع اتفاقياتٍ مذلّة تحت مسمى السلام، بل كان هزيمة نكراء تجرعتها “إسرائيل” كرهًا، فقد حوّل رجال الله الجنوب إلى مصيدةٍ من الرعب لجنود العدو وأفراد الميليشيا، وزرعوا لهم الموت تحت كل صخرة وعند كل زاوية، وكان الجندي الصهيوني الذي يلتحق بالجبهة اللبنانية، يودّع أهله الوداع الأخير، فالعودة ليست مضمونة بعد دخول الجحيم، ومنذ تاريخ الانسحاب من جنوب لبنان، لم تعرف “إسرائيل” طعمًا لأيّ انتصار، فقد دخلت عصر الهزائم، فحاولت في العام 2006 إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، لكنها اكتشفت أنّ التاريخ لا يدور إلى الخلف، وأنّ رجال الله في لبنان بدّلوا المقاعد، وأجلسوا “إسرائيل” في زمن الهزائم، وأجلسوا هم أمتهم في زمن الانتصارات، فأدركت “إسرائيل” أنّ التدخل العسكري المباشر أصبح من المستحيل أن ينشئ لها نصرًا، فذهبت إلى الحدث الثاني، الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011.

كانت سوريا كما قال السيد نصرالله “عمود خيمة المقاومة”، فهي شريكة الانتصارات، وهي العمق الإستراتيجي للمقاومة، بل والعمق القدري لبقاء فكرة المقاومة، بل وأكثر من ذلك، حيث إنّ الموقف السوري هو المصل الطبيعي الذي عاشت وتعيش عليه فكرة العداء لـ”إسرائيل”، ولولا الثبات السوري على موقف العداء لتخلخل أصل فكرة العداء من أساسه، وبما أنّ العمل العسكري لم يعد في متناول قدرة العدو، ذهب لامتطاء ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وكان الهدف ذاته والغايات ذاتها رغم اختلاف الزمن وتغيير الوسائل، فأطلقوا ما سموّها “الثورة” السورية، وكانت فيلقًا “إسرائيليًا” للتغطية على عجز الفيالق العسكرية “الإسرائيلية” المباشرة، فاجتمعت أمريكا وأوروبا و”إسرائيل” وأدواتهم العربية على سوريا، في محاولةٍ دمويةٍ قاسية، لتحطيم سوريا وبالتالي إدخال المنطقة العربية في عصر “الأسرلة”، فتصبح أصولنا عربية ولساننا عبريا، أصولنا عربية وعقولنا عبرية، ونعيش قرنًا “إسرائيليًا” بحتًا، نكون نحن “عضاريطه”، و”العضاريط” هم من يخدمون سُخرةً مقابل غذائهم، فتتسيدنا “إسرائيل” ونكون عبيدها مقابل طعامنا وبأموالنا، حسب رؤية شيمون بيريس وثالوثه المدنس، حيث العقول والتكنولوجيا “الإسرائيلية” والعمالة العربية والمال الخليجي، ولكن سوريا صمدت وانتصرت. ومن المفارقات التي تشبه اللعنات، فإنّ رجال الله الذين هربت منهم “إسرائيل” وتجنّبت لقاءهم في جنوب لبنان بعد 2006، وجدتهم أمامها في سوريا، وهذا بحد ذاته كافٍ لتعرف “إسرائيل” أنّها محاطة باللعنة كما هي محاطة بفوهات اللهب، والتي إن جاء زمان فتحها، ستلعن كل من فكر بإقامة كيانٍ لليهود بيننا، من هرتزل وحتى نتن ياهو.

* المصدر : موقع العهد الإخباري