السياسية:

البعض يرى تصريحات وزير الاستخبارات الإيراني بشأن نظرية “القط المحاصر” على أنها تأتي في سياق الضغط على إدارة جو بايدن لرفع العقوبات وإعادة إحياء الاتفاق النووي، بينما يراها البعض الآخر دليلاً على تحول الرأي العام نحو الرغبة في حيازة سلاح نووي.

ففي مقابلة مع التلفزيون الرسمي في إيران، الشهر الماضي، أصدر وزير الاستخبارات محمود علوي تهديداً مُبطَّناً بشأن سعي بلاده لامتلاك سلاح نووي: “قال المرشد الأعلى علي خامنئي صراحةً في فتواه إنَّ الأسلحة النووية مخالفة للشريعة، وتعتبرها الجمهورية الإسلامية حراماً شرعاً ولا تسعى لامتلاكها. لكنَّ القط المحاصر في الزاوية ربما يتصرف بشكل مختلف عما لو كان حراً. إن دفعت القوى الغربية إيران في هذا الاتجاه فلن يكون ذلك خطأ إيران بعد الآن”.

ونشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً أعده ميسم بهرافيش، الباحث المساعد في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية، رصد التغير اللافت في توجهات الرأي العام داخل إيران فيما يتعلق بالسعي نحو امتلاك القنبلة النووية.

إذ استحوذ التهديد العلني غير المسبوق من جانب وزير الاستخبارات على اهتمام واسع من وسائل الإعلام، فانتقد المتشددون في الداخل الوزير بحكومة الرئيس حسن روحاني، لإضراره بالمصالح الإيرانية من خلال تقويض فتوى خامنئي ضد أسلحة الدمار الشامل، بينما ركَّز مراقبو شؤون الشرق الأوسط بالخارج على عامل الفتوى كذلك، في الغالب لإظهار عدم جدارة القادة الإيرانيين بالثقة. وفسَّر آخرون تصريحات علوي باعتبارها تكتيكات “ضغط” لدفع إدارة بايدن إلى إعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 أو رفع العقوبات.

الاخفاقات الأمنية الإيرانية

لكن هذه التفسيرات تسيء فهم المغزى الحقيقي من تهديد علوي، فلطالما كان كامل النقاش بشأن فتوى خامنئي التي تحظر الأسلحة النووية ضجيجاً كثيراً حول لا شيء، فلم تكن قط ذات أهمية حقاً بالنسبة لأي الطرفين. والأمر الأكثر أهمية بكثير هو ما يعكسه التصريح بشأن التغير المستمر في التفكير الإيراني بشأن القنبلة النووية. إذ تبدو شرائح واسعة من المجتمع الإيراني، في أوساط الجمهور وصانعي السياسة على حدٍّ سواء، تنظر أكثر فأكثر إلى السلاح النووي ليس باعتباره رادعاً نهائياً وحسب، بل أيضاً باعتباره دواءً شافياً للمشكلات والتحديات الأمنية الإيرانية المزمنة التي تواجهها سيادتها من جانب القوى الأجنبية.

والمقصود هنا أن طهران منذ بدأت في تطوير برنامجها النووي قبل عقود تعلن أن هذا البرنامج أغراضه سلمية بحتة، بينما تتهمها الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بالسعي لامتلاك سلاح نووي من خلال وجود جانب سري من البرنامج النووي، واستمر ذلك السجال حتى توقيع الاتفاق النووي عام 2015 وموافقة طهران على فتح جميع منشآتها النووية للتفتيش من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة مع أمير حاتمي وزير الدفاع الإيراني/ويكيبديا

لكن تصريح علوي جاء على خلفية إهانات وطنية متكررة في صورة سلسلة من الاختراقات الأمنية والإخفاقات المحرجة في مجال مكافحة التجسس، حيث فقدت إيران في السنوات الماضية قاسم سليماني، كبير مهندسي استراتيجيتها الإقليمية، وشهدت استهداف بعض من أهم منشآتها العسكرية ومنشآت البنية التحتية في سلسلة من الانفجارات وعمليات التخريب الغامضة. وصل الأمر إلى ذروته نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين اغتيل مهندس الاستراتيجية النووية الإيرانية، محسن فخري زادة، قرب طهران.

وبعد فترة وجيزة من اغتيال الولايات المتحدة لسليماني في يناير/كانون الثاني 2020، نشرت شبكة “تابناك” -وهي وسيلة إعلامية محافظة رائجة في طهران ولها ميول قومية- مقالاً نادراً تسأل فيه قرَّاءها عن الردع النووي والسبل التي يمكن أن يعزز بها مصالح إيران الأمنية الوطنية. وأكَّد موضوع مماثل في موقع “ألف” -وهو مصدر إخباري آخر محافظ- أنَّ “سياسات واشنطن المدمرة” ضد إيران و”التقاعس الأوروبي” مستمران في دفع طهران إلى حافة اتخاذ “القرار الكبير”. وتساءل تحليل آخر نشرته النسخة الفارسية من وكالة سبوتنيك الروسية عقب اغتيال سليماني باستخدام طائرة بدون طيار: “لِمَ ينبغي على إيران الالتزام بالقواعد الدولية المُنظِّمة وتمتنع عن صنع أسلحة نووية، بينما أعداؤها مُجهَّزون بتلك الأسلحة ويهددون بتدمير إيران يومياً؟”.

كيف يدور النقاش العام داخل إيران؟

كانت هذه التساؤلات والمخاوف حاضرة، وإن كانت تمثل جزءاً هامشياً إلى حدٍّ كبير في النقاش العام، في إيران منذ استهداف علمائها النوويين للمرة الأولى خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد (2005- 2013)، لكن لم يحظَ التعاطف الشعبي تجاه الضعف الجيوسياسي لإيران والدعم للأسلحة النووية باعتبارها حلاً مستداماً لذلك، على زخم واسع بين الجمهور والنخبة الحاكمة على حدٍّ سواء إلا بعد اغتيال إسرائيل لفخري زادة.

فقال فريدون عباسي، رئيس لجنة الطاقة بالبرلمان الإيراني، في مقابة أُجريَت في ديسمبر/كانون الأول الماضي: “يبدو أنَّ ردنا المنطقي على هذا الاغتيال يجب أن يكون رداً علمياً”، في إشارة إلى نزعة سياسية متزايدة لاتخاذ إجراءات حاسمة بشأن القدرات النووية في أوساط صانعي القرار الإيرانيين. وأضاف: “لذا سنتخذ خطوات باتجاه تعميق معرفتنا العلمية والفنية” بالطاقة النووية. ومن اللافت أنَّ عباسي نفسه قد نجا من محاولة اغيتال في عام 2010، حين كان يقود وكالة الطاقة الذرية في إيران.

وحثَّ موضوع آخر في موقع “راهبرد معاصر”، وهو وسيلة إخبارية استراتيجية تابعة للدولة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، على انسحاب طهران من معاهدة حظر الانتشار النووي حتى يمكنها تحقيق “الردع المستدام” ضد الخصوم الأقوياء، وذهب مراقبون آخرون إلى حد الدفاع عن القنبلة باعتبارها شرطاً مسبقاً لتحقيق التنمية الاقتصادية في إيران، محاججين بأنَّ الردع النووي هو “الخيار الوحيد” الذي يمكنه حل “معضلة الأمن” المزمنة لدى طهران مرة واحدة وإلى الأبد، ويمكِّنها من التركيز على الازدهار الوطني. كان تهديد “القط المُحاصَر” الذي أطلقه وزير الاستخبارات في الواقع تعبيراً أكثر صراحة عن هذه النزعات والميول الهامشية والمُبطَّنة.

أستاذ العلوم السياسية جاك هيمانز في عمله الرائد الصادر عام 2006 يبحث في “سيكولوجية الانتشار النووي: الهوية والعواطف والسياسة الخارجية”، من خلال أربعة تصورات مختلفة للهوية الوطنية التي يحملها القادة السياسيون، وتحدد في نهاية المطاف خياراتهم وقراراتهم النووية، من الامتناع، إلى ضبط النفس، إلى عتبة التسلح النووي، وصولاً إلى الحيازة الكاملة. ويلفت الانتباه بشكل خاص إلى “القومية المُعارِضة”، وهو تصور معين للهوية الوطنية يُحرِّكه الخوف والفخر، ويمثل “مزيجاً نفسياً متفجراً” في عملية صنع السياسة النووية.

ما مقومات السعي لامتلاك سلاح نووي؟

ويشرح هيمانز بالتفصيل أنَّ قادة الوطنية المعارضة “ينظرون إلى أمتهم باعتبارها على خلاف طبيعي مع عدو خارجي، ومساوية له تلقائياً إن لم تكن متفوقة عليه”، ويستنتج أنَّ هؤلاء القادة تتطور لديهم رغبة للحصول على أسلحة نووية، رغبة تتجاوز الحسابات، رغبة تعبِّر عن ذاتهم. وبهذا المعنى، يجب أن يكون خامنئي مثالاً جيداً على الوطني المعارض الذي يتطلع، في مواجهة المعارضة الدولية الهائلة، إلى الارتقاء ببلده ليكون قوة رئيسية في الشرق الأوسط. 

لكن لماذا لم تصبح إيران نووية بعد؟ تتمثل إحدى المشكلات الأساسية في نموذج هيمانز في أنَّه يُركِّز على القادة، وبالتالي فإنَّه اختزالي. ويتجاهل هيمانز في الحقيقة الحضور الممكن لمثل هذه النزعات القوية على المستوى الجمعي. ويوفر تاريخ إيران الحديث رؤى تساعد في هذا الصدد. إذ يعزو معظم محللي السياسة الخارجية قرار القيادة الإيرانية في عام 2013 -بالشروع في مفاوضات نووية متعددة الأطراف بعد فترة طويلة من الرفض في عهد أحمدي نجاد- إلى الضغط الدولي القوي على حكومة خامنئي، وتنازل إدارة أوباما في نهاية المطاف بشأن مطالب تخصيب اليورانيوم في إيران، أو مزيج بين كليهما.

وفي حين أنَّ كلتا الحجتين مضبوطة إلى حدٍّ معين، فإنَّهما تتغاضيان عن الدوافع الداخلية المجتمعية القوية للتغيير في سياسة إيران النووية في هذا المنعطف التاريخي. بعبارة أخرى، دفعت القوة الهائلة للرأي العام وسردياته السائدة المُفضِّلة للدبلوماسية النووية، القيادة العليا الإيرانية لمنح الدبلوماسية فرصة ملائمة.

إنَّ الفكرة المنتشرة على نطاق واسع بأنَّ خامنئي كان يريد إجراء مباحثات طوال الوقت خاطئة بشكل جوهري. فكما تجلى من خلال معالجته التكتيكية للاتفاق النووي والمعارضة العلنية لمقترحات إدارة روحاني بشأن الاتفاق النووي الداخلية والإقليمية، فإنَّ خامنئي في الحقيقة كان يُفضِّل بديلاً مؤقتاً لحل طويل الأمد للأزمة. إذ كان خامنئي وحلفاؤه في الحرس الثوري يخشون الانخراط الإيراني العلني مع العالم الخارجي بسبب تأثيره على قبضة مؤسسته على السلطة.

الآن وبعد ما يقرب من ثماني سنوات، وتحت العبء الثقيل والمذل للضغوط القصوى الأمريكية، فإنَّ نفس القوى التي دفعت إيران للانفتاح على تسوية نووية تدفعها في الاتجاه المعاكس، بسبب معاودة ظهور القومية الإقليمية في جنبات المجتمع. إنَّ الجنّي النووي الإيراني الذي نام طويلاً يستيقظ الآن ويشق طريقه للخروج من قمقمه، متراقصاً على الأنغام القومية.

وتُظهِر دراسة جديدة أعدها مركز الدراسات الأمنية والدولية بجامعة ميريلاند الأمريكية بالاشتراك مع مركز IranPoll لاستطلاعات الرأي المتعلقة بإيران ومقره كندا، أنَّ الآراء والمشاعر المناهضة للتسوية تعززت كثيراً على مدى السنوات الماضية. ومن اللافت للانتباه أنَّ الدعم العام للاتفاق النووي تراجع من 76% في أغسطس/آب 2015 إلى 51% في فبراير/شباط 2021، ويؤيد 73% من المستطلعة آراؤهم “خطة العمل الاستراتيجية” التي أقرَّها البرلمان الإيراني الذي يسيطر عليه المتشددون، العام الماضي، من أجل تخفيض الالتزامات الواردة في الاتفاق النووي بصورة ممنهجة ما لم تُرفَع العقوبات الأمريكية. وقال 69% أيضاً إنَّ “إيران لا يجب أن تجري أي محادثات مع الولايات المتحدة إلى حين عودتها أولاً إلى الاتفاق النووي والوفاء بكامل التزاماتها”. ويريد أكثر من 88% من المستطلعة آراؤهم أن “تفي إيران بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي بعد عودة الولايات المتحدة للامتثال الكامل”.

إنَّ التحول التدريجي في الرأي العام الإيراني بشأن البرنامج النووي للبلاد مهم لكونه غير مسبوق، وهو سبب رئيسي يجعل تصريحات مثل تصريح “القط المُحاصَر” الذي أطلقه علوي تحمل وزناً استراتيجياً كبيراً. وهذا التحول الناسف في التوجه الوطني الإيراني نحو الأسلحة النووية هو نتيجة مباشرة لحملة الضغوط القصوى الأمريكية. لقد أدَّى قرار واشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي إلى إزالة واحدة من أكبر العقبات السياسية الإيرانية في سبيل حيازة القنبلة النووية.

وإذا ما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون عازمين حقاً على منع طهران من حيازة أسلحة نووية، فعليهم التحرك بما يتجاوز الاعتماد التقليدي على القوة العقابية، والتفكير في النتائج الاستراتيجية غير المقصودة للضغوط القصوى.

عربي بوست