سياسة “عض الأصابع” بين إيران وأمريكا بشأن النووي.. من يتراجع عن طلباته أولاً؟
السياسية:
“من يتراجع أولاً”.. هذه هي النقطة التي تقف عندها قضية العودة للاتفاق النووي الإيراني حالياً، والسؤال: من يحقق أهدافه من خلال سياسة عض الأصابع بين إيران وأمريكا؟
إعادة إحياء الاتفاق النووي الذي انسحبت منه أمريكا تحت رئاسة دونالد ترامب في مايو/أيار 2018 رغبة معلنة لطهران ولإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وباقي أطراف الاتفاق، لكن العقدة الآن تتعلق بطلب إيران أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب أولاً قبل أن تعود إيران للالتزام ببنود الاتفاق الموقع عام 2015، بينما تصر إدارة بايدن على العكس، أي أن تعود طهران للالتزام أولاً قبل أن ترفع العقوبات.
الكرة في ملعب إيران
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين أعاد التأكيد مساء أمس الأربعاء 10 مارس/آذار على موقف بلاده، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لن تقدم أي تنازلات قبل أن تعود إيران إلى شروط الاتفاق النووي، مضيفاً: “كرة المفاوضات النووية الآن في ملعب إيران”.
تصريحات بلينكين جاءت خلال إفادة له أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، تحدث فيها عن أولويات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جو بايدن. ولفت الوزير إلى أن الرئيس بايدن أظهر من قبل وبوضوح موقفه الأساسي من الاتفاق النووي مع إيران، مشدداً على أنهم لن يخطوا خطوة إلى الأمام حتى تعود طهران لشروط الاتفاق، وتثبت أنها جادة في ذلك.
بلينكين رصد الخطوات التي اتخذتها طهران لرفع القيود التي كانت مفروضة على برنامجها النووي، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، متابعاً أن أفضل طريقة للتعامل مع إيران هي اعتماد الدبلوماسية الصارمة، مشيراً إلى أن واشنطن لديها مصلحة بإعادة إيران الى الاتفاق.
الاتفاق النووي هو الصيغة الإعلامية لخطة العمل الشاملة المشتركة التي تم توقيعها عام 2015 بين الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين وإيران (اتفاق 6+1) بهدف مراقبة برنامج إيران النووي بشكل صارم وفرض قيود على عمليات تخصيب اليورانيوم (لا تزيد نسبة التخصيب عن 3.7%) ووضع بروتوكول خاص لعمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية يسمح بوضع كاميرات مراقبة على مدار الساعة والقيام بعمليات تفتيش مفاجئة في أي وقت وأي مكان.
الرئيس الأمريكي السابق ترامب انسحب من الاتفاق عام 2018 وأعاد فرض العقوبات الأمريكية على إيران وزادها بصورة خانقة للاقتصاد الإيراني فيما عرف باسم سياسة الضغط الأقصى بهدف إجبار طهران على التفاوض بشأن اتفاق جديد لا يكون مقصوراً على برنامجها النووي بل يشمل أيضاً تفكيك برنامجها للصواريخ الباليستية ووقف دعمها لأذرعها المسلحة في العراق واليمن ولبنان وسوريا وباقي دول المنطقة.
رفضت إيران الرضوخ وبدأت منذ مايو/أيار 2019 في التخلي تدريجياً عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، فرفعت نسبة تخصيب اليورانيوم إلى ما يقرب من 20% وهددت مؤخراً برفعها إلى 60% كما أنتجت في فبراير/شباط الماضي معدن اليورانيوم المخصب، وهددت بوقف عمليات التفتيش التي تقوم بها وكالة الطاقة الذرية وطرد مفتشي الوكالة لكنها تراجعت ووافقت على تمديد عمليات التفتيش ثلاثة أشهر أخرى.
وبالتزامن مع التخلي التدريجي عن التزماتها النووية، قامت إيران من خلال وكلائها بعمليات تخريب للسفن وناقلات النفط في الخليج ومضيق هرمز، وصعدت من هجماتها ضد السعودية وصولاً إلى ضرب منشآت أرامكو النفطية بالصواريخ والطائرات المسيرة في سبتمبر/أيلول 2019، معتمدة على سياسة نفي تورطها في تلك الهجمات، فيما يراه مراقبون ممارسة الضغوط على الولايات المتحدة من أجل العودة للاتفاق النووي.
إدارة بايدن تواصل سياسة فرض العقوبات
وكانت إيران على ما يبدو تنتظر مغادرة ترامب البيت الأبيض وتولي جو بايدن حتى يتم إحياء الاتفاق النووي، كما أعلن بايدن نفسه أثناء الحملة الانتخابية، لكن منذ اليوم الأول لبايدن في البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني اتضح أن الرغبة في إحياء الاتفاق تصطدم بعقبات متعددة أبرزها “من يتراجع أولاً”.
وفي هذا السياق جاءت الهجمات الصاروخية التي شنتها ميليشيات عراقية تأتمر بأمر إيران ضد قواعد عسكرية أمريكية في العراق، وكان آخرها هجوم قاعدة عين الأسد في أربيل والذي قتل فيه متعاقد مدني أمريكي وأصيب عدد من الجنود، والتصعيد الحوثي ضد السعودية والذي كانت أحدث حلقاته استهداف إحدى ساحات تخزين النفط في ميناء رأس تنورة بمسيرة من ناحية البحر قبل أيام، وهي الأحداث التي يربطها مراقبون بعض الأصابع بين واشنطن وطهران بشأن العودة للاتفاق النووي.
والمقصود هنا هو أن إيران تمارس ضغوطها على إدارة بايدن لجعل التأخير في رفع العقوبات المفروضة عليها مسألة مكلفة، وفي هذا السياق جاءت الضربة الأمريكية التي أمر بها بايدن في سوريا لاستهداف الميليشيات العراقية المسؤولة عن الهجمات الصاروخية في أربيل، كرسالة لطهران مفادها أن التصعيد العسكري وارد أيضاً، بحسب مراقبين.
مفاعل بوشهر النووي في إيران
كما فرضت إدارة بايدن من خلال وزارة الخارجية أمس الأربعاء أول عقوبات على إيران، إذ أدرجت الخارجية الأمريكية اثنين من المحققين التابعين للحرس الثوري الإيراني على قائمتها السوداء، موجهة لهما اتهامات بالضلوع في عمليات تعذيب وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان، وهو أول إجراء من نوعه في عهد بايدن.
صحيح أن الإجراء يعتبر رمزياً لأنه يطال عنصرين في الحرس الثوري الإيراني، وهما علي همتيان ومسعود صافداري، وتمنعهما إلى جانب جميع أفراد عائلتيهما من دخول الولايات المتحدة، إلا أنه يمثل رسالة أيضاً في نفس الاتجاه وهو أن إدارة بايدن لن تقف مكتوفة اليد أمام التصعيد الإيراني.
واتهم بلينكين في بيان المحققين الاثنين بارتكاب “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بما في ذلك “التعذيب أو المعاملة القاسية واللاإنسانية أو المهينة أو عقاب السجناء السياسيين وغيرهم ممن احتجزوا خلال احتجاجات في إيران عامي 2019 و2020”. وعقب على الإجراء بالقول: “اليوم أعربنا بكل وضوح في مجلس حقوق الإنسان في جنيف عن قلقنا إزاء الانتهاكات التي تواصل الحكومة الإيرانية ارتكابها بحق مواطنيها، خصوصاً الاعتقال الجائر للكثير من الأشخاص في ظروف مزرية”.
من يتراجع أولاً؟
الموقف الآن يبدو متجمداً ويراه البعض استمراراً لما كانت عليه الأوضاع منذ انسحاب ترامب من الاتفاق، بينما يرى فريق من المحللين أن إدارة بايدن أكثر نجاحاً في التعامل مع إيران، وهو ما عبر عنه إليوت أبرامز، المبعوث الخاص لترامب لإيران، بقوله لرويترز إن عدم استعداد بايدن لتخفيف العقوبات على طهران قبل أي محادثات بين الجانبين لاستئناف الامتثال للاتفاق النووي لعام 2015 “منطقي”، مضيفاً: “التفاوض هو دائماً أخذ وعطاء، لكن ينبغي ألا ندفع لهم فقط مقابل التمتع بصحبتهم على طاولة المفاوضات”.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن إشراك بايدن لباقي الحلفاء وخصوصاً الأوروبيين في مسعاه لإقناع إيران العودة إلى مائدة المفاوضات لتعديل بنود الاتفاق الأصلي يمثل خطوة هامة على طريق رفع الضغوط عن واشنطن، والمقصود هنا هو أن سياسة ترامب الانعزالية وانسحابه المفاجئ والأحادي من الاتفاق جعل طهران في موقف أفضل وحشر باقي أطراف الاتفاق في الزاوية.
أما اليوم فحتى روسيا رحبت بموقف إدارة بايدن الساعي لإحياء الاتفاق وتطالب طهران بضبط النفس وعدم التصعيد، واقترح وزير خارجية موسكو سيرجي لافروف “العودة المتزامنة” للاتفاق، وهو ما كرره لاحقاً وزير خارجية طهران محمد جواد ظريف، بمعنى أن ترفع إدارة بايدن جزءاً من العقوبات تزامناً مع عودة إيران الالتزام ببنود الاتفاق التي تخلت عنها، وهو ما يرجح كثير من المراقبين أن يكون المخرج الأقرب من حالة الجمود الحالية.
والواضح أن واشنطن، من جانبها، تسير أيضاً باتجاه مواصلة الضغوط في ملفات أخرى وعلى رأسها ملف حقوق الإنسان، إذ قال بلينكين: “سنواصل بحث كافة الأدوات المناسبة لجعل أولئك المسؤولين عن انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان في إيران يدفعون الثمن”.
وكانت إيران قد أعلنت على لسان المتحدث باسم خارجيتها سعيد خطيب زادة الأحد 28 فبراير/شباط أنّ الوقت غير مناسب لعقد “اجتماع غير رسمي للاتفاق النووي” اقترحه الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، لكن مصدرين أمريكيين ذكرا لرويترز الخميس 4 مارس/آذار الجاري أن إيران أرسلت إشارات مشجعة في الأيام الأخيرة بشأن المحادثات، بعد أن ألغت القوى الأوروبية خططاً لانتقاد طهران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة.
هذه المعطيات تشير إلى أن حالة الجمود الحالية على الأرجح لن تستمر طويلاً، ويظل السؤال قائماً بشأن من يتراجع أولاً عن موقفه؟ هل ستعود إيران للالتزام أولاً أم ترضخ إدارة بايدن وترفع العقوبات أولاً؟
عربي بوست