السياسية:

منح نمو شبكات كابلات الألياف الضوئية في الشرق الأوسط استخبارات الإشارة الغربية إمكانية وصول غير مسبوقة لحركة البيانات والاتصالات في المنطقة. ويقول دانكان كامبل، وهو صحفي استقصائي متخصص في عمليات المراقبة منذ 1975، لموقع Middle East Eye البريطاني: “لا شك أنَّ المنطقة من بورسعيد إلى عُمان  واحدة من أكبر مناطق حركة الاتصالات وبالتالي المراقبة. كل شيء يتعلق بالشرق الأوسط يمر عبر هذه المنطقة، باستثناء الرابط الوحيد الذي يمر بتركيا”.

كيف تتنصت الاستخبارات الأمريكية والبريطانية على دول الشرق الأوسط؟

يقول الموقع البريطاني MEE، إن “العيون الخمس”، وهي تحالف لاستخبارات الإشارة لدول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، تراقب الشرق الأوسط منذ تشكيل التحالف خلال الحرب العالمية الثانية. ويُعَد اللاعبان البارزان هما وكالة الأمن القومي الأمريكي، ومقر مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية، اللذان يستخدمان منشآت معروفة وسرية في المنطقة لجمع البيانات.

ويُعَد الشرق الأوسط بؤرة للمراقبة لأسباب واضحة: أهميته السياسية-الاقتصادية الاستراتيجية، والصراع العربي الإسرائيلي، والانقسامات السياسية بين حلفاء “العيون الخمس” وخصومهم من المجموعات المسلحة وصولاً إلى بلدان مثل سوريا وإيران.

وفي حين تُجرى كافة أشكال المراقبة التقليدية، من مراقبة المجال الجوي إلى التنصت على خطوط الهاتف، تُعَد المنطقة مجالاً استراتيجياً للمراقبة الجماعية بسبب المسارات الحالية لكابلات الألياف الضوئية.

يقول آلان ماولدين، مدير البحث بشركة أبحاث الاتصالات TeleGeography في واشنطن: “لا تزال أهمية الكابلات غائبة إلى حدٍّ كبير عن الفرد العادي. فهو يظن أنَّ الهواتف الذكية بلا أسلاك وتنتقل إشاراتها عبر الهواء، لكنَّه لا يدرك أنَّ ذلك يتم عبر الكابلات”.

كيف تعترض وكالات الاستخبارات هذه الكميات الهائلة من البيانات؟

استغلت وكالات الاستخبارات كابلات الألياف الضوئية لاعتراض كميات هائلة من البيانات، بدءاً من المكالمات الهاتفية إلى محتوى رسائل البريد الإلكتروني، وصولاً إلى تاريخ التصفح والبيانات الوصفية. وتمر البيانات المالية والعسكرية والحكومية أيضاً عبر الكابلات.

يُمحِّص محللون تلك البيانات التي يجري اعتراضها، في حين تستخرج المرشحات (الفلاتر) المواد بناءً على 40 ألف كلمة بحث –موضوعات وأرقام هواتف وعناوين بريد إلكتروني- لدى وكالة الأمن القومي الأمريكي ومقر مكاتب الاتصالات الحكومية البريطاني لفحصها عن كثب.

تقول أثينا كاراتزوغياني، وهي أكاديمية تبحث في أهمية وقواعد تنظيم الكابلات البحرية: “يرتبط هذا النظام المادي من كابلات الألياف الضوئية بالدول الكبرى في العالم وينقل أكثر من 95% من حركة البيانات والأصوات في العالم. وبالنظر لأهمية الكابلات البحرية، فهي غير محمية جيداً بموجب القانون الدولي”. وأضافت: “إنَّها تمثل ربما المثال الأكثر تطرفاً لخصخصة الدول للبنية التحتية الحيوية مع الإخفاق في توفير الحماية”.

كابلات “جيواستراتيجية” تلتقي في مصر والبحر الأحمر

لا توجد كابلات ألياف أرضية بين البحر الأحمر وإيران تمر عبر شبه الجزيرة العربية. وكل حركة الإنترنت المتجهة من أوروبا إلى آسيا إما تعبر منطقة القوقاز وإيران، أو عبر مسارات مصر والبحر الأحمر الأكثر ازدحاماً بكثير.

وتُعَد مصر نقطة التقاء رئيسية، حيث تنقل الحركة من أوروبا إلى الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا والعكس. وينقل الـ15 كابلاً التي تعبر مصر بين البحرين الأحمر والمتوسط ما بين 17 إلى 30% من إجمالي حركة الإنترنت في العالم، أو بيانات 1.3 إلى 2.3 مليار شخص.

وأدَّت الجغرافيا والسياسة إلى هذا التكوين الخاص. فيقول غاي زيبي، مؤسس شركة أبحاث السوق الجنوب إفريقية Xalam Analytics: “لا يمكنك إنشاء رابط عبر سوريا أو إيران بسبب الصراع والوضع السياسي، والحرب في اليمن تؤدي إلى استبعاد خيار أرضي آخر، لذا تسلك الكابلات مساراً آخر”. وأضاف: “لا يوجد سوى مناطق قليلة عالمياً ذات أهمية استراتيجية عالية، البحر الأحمر أحدها، وفي سياق إفريقيا، هناك جيبوتي”.

تمر معظم الكابلات تحت سطح البحر، ما يجعل العبور الأرضي في مصر استثناءً أكثر منه قاعدة. وتُفضَّل الكابلات البحرية لأنَّها تُعتَبَر أكثر أماناً. وتواجه الكابلات التي تعبر مصر وعبر قناة السويس مخاطر لوجستية، مثل إتلافها بفعل المراسي في مياه السويس الضحلة أو نتيجة تدخل عامل بشري.

وقالت كاراتزوغياني: “قطع ثلاثة غواصين الكابل الرئيسي الرابط بين مصر وأوروبا عام 2013 بأدوات يدوية، ما قلَّص حيز النطاق الترددي لمصر بمقدار 60%”.

لكن مصر لا تعتبر “شريكاً جديراً بالثقة” بالنسبة لوكالات الاستخبارات هذه

لكنَّ مصر لا تملك  مطلق الحرية لاعتراض بيانات الكابلات التي تمر عبر الدولة المصرية نيابةً عن العيون الخمس، على الرغم من الأهمية التي يوليها الرئيس عبدالفتاح السيسي للمراقبة الجماعية للمواطنين المصريين.

قال كامبل: “المصريون في وضعٍ ممتاز يُخوِّلهم الوصول إلى البيانات التي تمر عبر الكابلات، لكنَّهم لا يُعتَبَرون شريكاً جديراً بالثقة أو مستقراً. إنَّه ليس المكان الذي ترغب في وضع معدات الرقابة المتطورة الباهظة فيه”.

ولا تُعَد مصر، رغم أهميتها الاستراتيجية، طرفاً في أي شبكة استخبارات إشارة أوسع. إذ يملك تحالف العيون الخمس اتفاقات قائمة لتشارك المعلومات مع بعض البلدان الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية، لاعتراض البيانات من روسيا والصين.

على العكس من ذلك، للولايات المتحدة علاقات أقل رسمية لتشارك المعلومات مع عدد من البلدان في الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر وإسرائيل والأردن والسعودية وتركيا والإمارات.

قال هيو مايلز، مؤسس منصة Arab Digest، في القاهرة: “لدى المصريين اتفاق لتشارك المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة، لكنَّهم على الأرجح سلبيون جداً في العلاقة، لأنَّهم يسعون وراء المال من مشغلي الكابلات وبعض التشارك للمعلومات الاستخباراتية، غالباً يكون من الجانب الأمريكي”.

تنصّت سري على دول الشرق الأوسط

مع ذلك، ربما تتنصت العيون الخمس على الكابلات في مصر أو مياهها الإقليمية. إذ تشير وثائق سرَّبها إدوارد سنودن في 2013 إلى وجود قاعدة سرية لوكالة الأمن القومي في الشرق الأوسط تُدعى “Dancing Oasis” (واحة الرقص).

قال كامبل: “إنَّها سرية للغاية. وأُسِّسَت إلى حد كبير دون علم الحكومة المضيفة. ومكان وجودها هو مجرد عملية تخمينية بحتة. والأماكن المرشحة هي أولاً الأردن، ثم السعودية، وثالثاً مصر. ومن الناحية الجغرافية، قد يكون المكان الآخر هو عُمان، حيث تغطي بريطانيا الخليج من هناك”.

تمر الكابلات التي تربط أوروبا وإفريقيا وآسيا عبر مصر، ثم تعبر البحر الأحمر إلى مضيق باب المندب بين اليمن وجيبوتي. ثُمَّ تتجه الكابلات شرقاً لتنحرف نحو عُمان. ويقع موقع المراقبة التابع لمكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية إلى الغرب من العاصمة مسقط، ويحمل الاسم الكودي “Circuit” (الدائرة أو الدائرة الكهربائية).

وللتنصت على حركة الإنترنت المتجهة من عُمان إلى أوروبا، قال كامبل إنَّ “الخيار الأمثل سيكون استخدام أجهزة تنصت بالغة السرية في البحر”.

وكشفت تسريبات سنودن أنَّ عمليات التنصت تحت سطح البحر تتم عبر غواصة جُهِّزَت خصيصاً لذلك، هي غواصة USS Jimmy Carter يو إس إس جيمي كارتر.

كابل جديد للمنطقة يعتمد على التطبيع مع إسرائيل

وفقاً لكامبل، فإنَّ إسرائيل تمثل دولة أخرى لديها القدرة التقنية للتنصت على الكابلات البحرية في المنطقة، ولو أنَّها حالياً غير متصلة بالشبكات الشرق أوسطية. فلا توجد كابلات أخرى تتجاوز نقطتي الوصول الساحليتين في تل أبيب وحيفا، وهما متصلتان بقبرص وأوروبا القارية.

لكنَّ هذا قد يتغير إذا ما تحققت خطط جوجل المعلنة بخصوص كابل “Blue-Raman” (بلو رامان أو رامان الأزرق) الذي يمتد من أوروبا إلى الهند عبر إسرائيل والأردن والسعودية وعُمان.

قال كامبل: “لأنَّه كابل تابع لجوجل، فإنَّهم يعرفون كيف يؤمِّنون كل شيء تماماً بين الطرفين. ولا بد أنَّهم سيُضمِّنون في خطتهم محطة وصول عند تل أبيب أو قريباً منها، وسيضعون في اعتبارهم أنَّ الإسرائيليين سينسخون كل البيانات عند نقطة الوصول، وسيستخدمون التشفير لمنعهم”.

وليس واضحاً إن كان كابل “رامان الأزرق” سيمضي قدماً أم لا، اعتماداً على ما يبدو على اتفاق التطبيع بين السعودية وإسرائيل. وقالت كاراتزوغياني: “إن وافقت السعودية على الاتفاق مع الإسرائيليين فستكون تلك لحظة مهمة في الجغرافيا السياسية، حيث ستصبح البنية التحتية التكنولوجية –كابل الألياف الضوئية- عاملاً مُسهِّلاً للتعاون الاستراتيجي بين الأعداء الإقليميين التاريخيين”.

عربي بوست