أحمد الدرزي *

قبل ثلاثة أيام من رحيله، طلب أنيس النقاش ورقةً ليكتب وصيّته الخاصّة، وبدأها بأربع كلمات: “أنا انتهيت. الرواية ماتت”، فهل ماتت الرواية؟

بدأت روايتي معه في صيف العام 2007، عندما علمت أنّه سيلقي محاضرة في مدينة حماه بدعوة من القيادات السياسية والإدارية في المحافظة. توجّهت منفرداً لحضورها. وبعد انتهائها، توجّه وبعض الحضور إلى القاعة الخاصّة بالضيوف، فلحقت بهم، وأنا الذي لم أكن أنتمي إلى أي حزب، ولا أحوز أي منصب سياسي أو إداري.

ناديته: “يا حاج”، فالتفت إليَّ، وترك كلّ القيادات التي كانت تحيط به، ورجع إلى الوراء، وبادرني السلام. عرفته بنفسي، وقلت له: هل يمكننا أن نجلس لدقائق؟ فأجاب: بالطبع. انعزلنا عن كل القيادات التي كانت تنتظر الجلوس معه، وبعضها مقرب إليه، والتي كانت تنظر إلينا وتتساءل: من هذا الشخص المجهول الذي تركنا لمجالسته؟ كان الجميع ينتظرون انتهاء جلستنا التي لم تطل.

بادرته بالقول: أحتاجك في لقاء في المركز الثقافي في مصياف، لخصوصيتها السياسية وتنوعها وحيويتها، فأجابني بكل يسر: “أنا جاهز، ولكنني سأسافر إلى طهران بعد يومين. نتواصل ونتفق”، ثم بادر إلى إخراج ورقة، وسجَّل فيها بريده الإلكتروني الذي كان يحمل دلالة رمزية تدل على رؤية خاصة إلى المستقبل. وقد تواصلنا، وجاءني وزوجته في الأسبوع الأول من العام 2008 في يوم ضبابي أثناء حرب غزة، وفي قاعة مليئة بكل الأطياف السياسية.

مع بدء الحرب في سوريا وعليها، نقل جلّ إقامته وزوجته إلى دمشق، وأرسل لي سلاماً ليقول لي: إنني هنا. بدأت اللقاءات تتكرر ثنائية، وأحياناً ثلاثية. كان واضحاً انهماكه في الحرب السورية إعلامياً، لمواجهة الضخ الإعلامي الكبير الموجه من كبريات المحطات الفضائية ذات الإمكانيات العالية، إضافة إلى تقديم الاستشارات ووضع تصورات للعمل على الأرض. واللافت للنظر أن ذلك لم يتوقف عند الجانب النظري والفكري، فسرعان ما كان يتحول إلى مشاريع لها أسسها الميدانية.

خلال المرحلة التي سبقت الحرب على سوريا، أدّى منسوب العلاقات الودية السورية التركية دوراً هاماً في إعادة تشكيل رؤيتي السياسية والفكرية التي تأسست وفق مناهج دراسية نشأت بعد “سايكس بيكو”، فبادرت إلى القيام بعدد غير قليل من الرحلات إلى تركيا بسيارتي الخاصَّة مع عائلتي أو أصدقائي، لأكتشف أنَّ ما تم تدريسنا إياه لم يكن صحيحاً بشكل تام، بل هو نتاج نهايات القرن التاسع عشر وحصيلة القرن العشرين كله، وأن المشتركات الثقافية بين العرب والكرد والترك كثيرة، وعمقها الاجتماعي كبير.

وقد شهدت على أرض الواقع التداخل الكبير بين هذه الشعوب واستحالة إيجاد حدود فاصلة بينها، وهي تمثل نموذجاً للتفاعل الحضاري الذي تكلّم عنه الشهيد أنطون سعادة، ولكن في وعاء أوسع من الهلال الخصيب، ما ولَّد لديَّ فكرة مشروع إعادة المشرق إلى سياقه التاريخي الطبيعي، فوجدت صدى ذلك بعد اندلاع الحرب على سوريا لدى الشهيد ناهض حتر والراحل أنيس النقاش، رغم بعض التباين بينهما، فكانت البداية مع مشروع “المشرقية” الذي طرحه الشهيد ناهض في مؤتمر بيروت 2013، وكنت من جملة المؤسسين في العام 2015، إلى أن تم اغتياله في العام 2016.

كان لا بد للمشروع من أن يستمرّ، فتواصلت مع الراحل صديقي القديم أنيس النقاش. تواعدنا وتم اللقاء بعد أن دعوت صديقي د. عقيل محفوض والصديقة رولا الأحمد في شهر آذار/مارس 2018. وقد اتفقنا على ضرورة البدء بالعمل في إطار ثقافي عملي، وليس تنظيمياً.

وفي 27 نيسان/أبريل من العام نفسه، تم إطلاق مجموعة مجلس السلم والتعاون الإقليمي مع شخصيات ثقافية وإعلامية تؤمن بهذا المشروع وتعتبره الطريق الأسلم لخلاص شعوب المنطقة جميعاً من صراع الهويات الذي لن ينتهي إلا بإعادة التفكير خارج صندوق الهويات.

تتابعت اللقاءات بيني وبينه في مقاهي بيروت وفي بيته وفي دمشق، وتكثفت كثيراً في الأشهر الأخيرة. وفي كل مرة، كنت أكتشف شيئاً جديداً في شخصيته. وأحياناً، كان يؤكد لي جانباً كنت أشكّ في مدى صحة تخميني له.

وفي لقاء جمعنا في شهر أيلول/سبتمبر 2019، التقينا الصديق المكافح الصبور حسني محلي، القادم من تركيا، والقريب سابقاً إلى صناع القرار السياسي التركي، وإلى قادة المعارضة التركية الآن، لأكتشف عمق معرفته وإدراكه للواقع التركي الداخلي.

وفِي لقاء جمعنا الصيف الماضي في بيته وفي مكتبه الجديد في المزة، وبعد أن تكلمنا عن المصاعب التي نعانيها إثر انطلاق العمل، حدثني عن خسارته الكبرى لكتاب ألفه في العرفان خلال السجن في فرنسا، وأشار إلى أن إعادة استذكار الأفكار وتدوينها سيستغرقان مدة عام، وأنه سيعمل على ذلك، وخصوصاً أنه استعاد تجربته الروحية في السجن أثناء كتابة مذكراته التي لم ينشرها حتى العام 1992. وقد بقي ثلاثة أيام في بيته في دوحة الحص قرب بيروت في حالة روحية شبيهة بما عاشه في السجن، فتذكَّرت جلستنا الأولى في مصياف في العام 2008، والتي تحدث فيها عن مفهوم الإله والإيمان من جانب عرفاني، ما عزز الفكرة التي تشكّلت لدي حول الجانب العرفاني المخفي في شخصيته وحياته، وفسر لي سمة التواضع والهدوء والحياء والصمت الذي يعيشه في كثير من اللحظات في المواقف التي تقتضي عدم الحديث.

أخي الحبيب أنيس، أقول لك وقد أصبحت بين يدي الله إنك لم تنتهِ، وإن روايتك لم تمت بعد. وقد عاهدتك في يومك الأخير بأننا مستمرّون وممسكون بأيدي بعضنا البعض نحو مشرق جديد بوصلته الأساس هي القدس، والأمر لا يتعلَّق بنا فقط، فلا مخرج للجميع إلا بالانتقال إلى التعاون وتقزيم فعل الهويات بسياسات جديدة جامعة للجميع.

* المصدر : الميادين نت