السياسية:

كان عدد من قادة منطقة الشرق الأوسط يحظون بتدليل مفرط في عهد دونالد ترامب، اليوم بات هؤلاء القادة يتوقعون معاملة مغايرة تماماً من قبل الساكن الجديد بالبيت الأبيض، وقد بدأوا بالفعل يقدمون تنازلات للرئيس الأمريكي جو بايدن، حتى قبل أن يشرع في صياغة سياسته تجاه المنطقة.

تبدو سياسة بايدن في الشرق الأوسط حتى الآن خليطاً من الصمت والزجر، بينما تمثل إيران أولوية كبيرة لإدارته، فإن رسائله جاءت باردة وسلبية لباقي حلفاء أمريكا الآخرين الذين كان أغلبهم أصدقاء مفضلين لترامب، وتمتعوا في عهد الرئيس الجمهوري بحرية عمل غير مسبوقة حولت المنطقة لفوضى، حسبما ورد  في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.

نتنياهو كان واثقاً من مكانته في واشنطن حتى في عهد أوباما، ولكن لماذا يخشى بايدن الآن؟

كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحظى بتدليلٍ مُفرِط من جانب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي كادت سياساته في الشرق الأوسط أن تضع أمنيات اليمين الإسرائيلي محلَّ التطبيق. 

وحتى في عهد باراك أوباما، كان نتنياهو واثقاً للغاية من مكانته في واشنطن، إلى درجة أنه شعر بأنه قادرٌ على دعوة الكونغرس الأمريكي للتنصُّل من الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران، ذلك الاتفاق الذي يُعَدُّ إنجازاً دبلوماسياً مُمَيَّزاً لإدارة أوباما. قاوم الكونغرس، لكن ترامب فعل ذلك عام 2018- والآن يحاول بايدن استعادة الاتفاق. 

ينتظر نتنياهو إعادة انتخابه مرةً أخرى، وتأتي هذه المرة بينما يواجه تهماً بالفساد في المحكمة. ظهرت في حملته العام الماضي لافتاتٌ عملاقة له إلى جانب ترامب- وهي الصورة التي أُسقِطَت من حسابه على منصة تويتر الشهر الماضي فقط. 

وفي حين أن أوراق اعتماد بايدن لإسرائيل لا تشوبها شائبة، يبدو أنه يرسل رسالةً. كان الناخبون الإسرائيليون حسَّاسين في الماضي تجاه وقوف قادتهم إلى الجانب الخطأ في الولايات المتحدة- وهو عاملٌ في هزيمة نتنياهو عام 1999 بعد أول فترة من ولاياته الخمس القياسية. 

ومن الواضح إلى حد ما أن نهاية عهد ترامب قد تضر بمكانة نتنياهو السياسية، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.

فعلى مدار ثلاثة انتخابات تشريعية في الأشهر الثمانية عشر الماضية في إسرائيل، قدم نتنياهو صداقته الشخصية مع ترامب- وبدرجة أقل مع بوتين- كدليل على أنه زعيم ذو روابط دولية قوية، في تأكيد على ميزته على المنافسين المبتدئين مثل بيني جانتس أو يائير لابيد، الذين يفتقرون إلى خبراته الدولية الأكثر إثارة للإعجاب بالنسبة للناخب الإسرائيلي.

يتذكر نتنياهو بالتأكيد أنه في المرة الأولى التي ترشح فيها للكنيست عام 1992، خسر حزب الليكود برئاسة إسحاق شامير أمام إسحاق رابين، ويعتقد بشكل عام أن أحد أسباب تلك الهزيمة هو الخلاف بين إدارة جورج بوش الأب وشامير في ذلك الوقت.

كانت الولايات المتحدة قد طالبت رئيس الوزراء آنذاك إسحاق شامير بوقف البناء في المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة مقابل ضمانات قروض تصل إلى 10 مليارات دولار، وهو ما تحتاجه إسرائيل لاستيعاب الموجة الكبيرة من الهجرة من الاتحاد السوفييتي السابق. رفض شامير، وفضل الناخبون الإسرائيليون رابين الذي كانت علاقاته مع الإدارة الأمريكية أفضل بكثير.

ورغم  عدم تركيزه على الصراع العربي الإسرائيلي حتى الآن، ولكن سعي بايدن للعودة  إلى الاتفاق النووي الإيراني حتى لو بشكل معدل، وتلميحه إلى أن إدارته لا تعترف بالمستوطنات الإسرائيلية وقيامها بإعادة بعض التمويل الأمريكي للفلسطينيين لأغراض إنسانية وأمنية، يجعله كابوساً لنتنياهو بعد العهد الذهبي الذي عاشه مع ترامب، حسبما ورد في تقرير لموقع The Strategist.

في العلاقة مع نتنياهو ساد وقت طويل من الصمت من جانب بايدن، قبل أن يحادث الرئيس الأمريكي رئيس الوزراء الإسرائيلي هاتفياً، وما زال الصمت سائداً فيما يتعلق بدعوة نتنياهو لزيارة البيت الأبيض.

ستأتي الدعوة من بايدن لنتنياهو حتماً، لكن يبدو أن البيت الأبيض في ظلِّ إدارة بايدن يستخدم الصمت كجزءٍ من إعادة تقييم العلاقات مع بلدان الشرق الأوسط، والتي تستهدف بشكلٍ خاص الحلفاء الجامحين والمستبدين. وهذا الصمت هو أداةٌ غير تقليدية للدبلوماسية، ولكن قد تكون له بعض الاستخدامات، حسب وصف Financial Times.

لا اتصالات هاتفية مع  حكام الشرق الأوسط

باستثناء الاتصال المتأخر مع نتنياهو لم يتصل بايدن مع أي من حكام المنطقة منذ انتخابه، واكتفى حتى الآن باتصالات من قبل مسوؤليه مع نظرائهم بالمنطقة، فيما كانت مصر الدولة الوحيدة الكبيرة والحليفة لأمريكا التي لم تتلقّ أي اتصال رفيع المستوى من واشنطن حتى الآن، بعد أن كان رئيسها عبدالفتاح السيسي يوصف من قبل ترامب بـ”ديكتاتوري المفضل”.

يقول نقاد ترامب إن محادثاته غير المكتوبة والتعاملات الشخصية قادت إلى نتائج مقلقة وغير مُتوقَّعة. جاء الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من شمال سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وتوغُّل تركيا في المنطقة، عقب مكالمة هاتفية مع أردوغان. وبعد محادثات ترامب مع قادة السعودية والإمارات ومصر في قمة الرياض في مايو/أيَّار 2017، حاصرت الدول الثلاث قطر، وهي خطوةٌ دعمها ترامب في البداية، رغم أن الإمارة الخليجية تستضيف أكبر قاعدة جوية أمريكية في المنطقة. 

ويمكن القول إن تعامل بايدن الصامت، علاوة على الإجراءات الملموسة مثل تعليق صفقات السلاح مع السعودية والإمارات، هو مؤشر لتغييرات في سياسات أمريكا بالمنطقة.

السعودية ترفع الحصار، وتخفض إنتاج النفط، وتطلق سراح نشطاء

في الشهر الماضي، يناير/كانون الثاني، رُفِعَ الحصار عن قطر أخيراً، فيما بدا أنه عرضٌ مُعَدُّ بعناية من قبل دول الحصار مقدم لفريق بايدن. وخفَّضَ السعوديون إنتاج النفط، وهي خطوةٌ مفيدةٌ لشركات النفط الصخري الأمريكية. 

ولم يتصل بايدن بمحمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة، الحليفة للولايات المتحدة منذ 75 عاماً، حتى كتابة هذه السطور. 

وقال فريق بايدن إنه لن تكون هناك المزيد من “الشيكات على بياض” للحكَّام المستبدين، ووَعَدَ بايدن بمراجعة العلاقات مع المملكة السعودية، بالأخص على خلفية مقتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة في إسطنبول عام 2018. 

ومع ذلك تسود الشكوك في جميع أنحاء الشرق الأوسط حول المدى الذي قد تخاطر فيه الإدارة الأمريكية بتحالفاتها التقليدية في المنطقة. ولقد انحسر النفوذ الأمريكي، بدايةً من التداعيات الكارثية لحرب العراق واحتلاله في عهد جورج بوش الابن، إلى التشوُّش والتردُّد في سوريا في عهد أوباما، وكلُّ ذلك كان قبل سياسات ترامب المُتعمَّدة والضالة. 

وحتى قبل فوز ترامب بدأت التغييرات تظهر في منطقة الشرق الأوسط، وبدا واضحاً أن القادة بالمنطقة، يعلمون أن عصر اللعب بدون رقابة أمريكية قد انتهى، وسعوا إلى تصفية لو شكلية للملفات الأكثر إثارة للجدل والأقل تكلفة عليهم.

فبالتزامن مع رفع سريع للحصار على قطر، أفرجت السلطات المصرية بشكل غير متوقع عن صحفي يعمل بقناة الجزيرة.

كما مدَّت المملكة السعودية يدها بغصن سلامٍ لإدارة بايدن. ففي 10 فبراير/شباط، أفرجت المملكة عن لجين الهذلول بعد 1001 يوم في السجن، وهو اعتقالٌ ارتبط بمزاعم بتعرضها لاعتداءات جنسية وتعذيب، حسب وصف تقرير مجلة Foreign Policy الأمريكية، ولجين تعرَّضَت للسجن والانتهاكات بسبب حملتها من أجل حقِّ المرأة في قيادة السيارات.

وفي وقتٍ سابق من العام الجاري، أطلقت الرياض سراح سجناء سياسيين آخرين، كما أعلنت إصلاحاتٍ قضائية ومراجعات للمناهج المدرسية المعتمدة من الدولة، والتي تروِّج للاستشهاد في الجهاد ومعاداة السامية. 

لم يكُن بالإمكان إطلاق سراح محمود حسين والهذلول من دون تأثير بايدن، حسبما يرى موقع The Strategist.

قد تكون بداية لمزيد من ردود الفعل من المنطقة، ومع ذلك، فإن أي تطور مواتٍ آخر سيعتمد على ما إذا كان بايدن سيكون قادراً على الحفاظ بقوة على زخم نهجه الليبرالي والضغط عليه لإحداث فرق حقيقي في الشرق الأوسط.

وأعلن بايدن بالفعل عن عدد من المبادرات السياسية التي تشير إلى أن نهج سياسة الشرق الأوسط يختلف تماماً عن نهج سلفه الشعبوي الجديد دونالد ترامب. شدد على حقوق الإنسان كقضية رئيسية في السياسة الخارجية، وأوقف بيع الأسلحة الهجومية للسعودية والإمارات، وسحب دعم أمريكا للعملية العربية التي تقودها السعودية في اليمن، ودعا إلى إنهاء حرب اليمن التي أدت إلى حدوث دمار هائل بسكان البلاد. وأزال الحوثيين المدعومين من إيران من قائمة الإرهاب.

وعلى الرغم من الخطاب الناري لبايدن، هناك فرصةٌ لإعادة ضبط العلاقات الثنائية إذا لعب كلا الزعيمين بأوراقهما بشكلٍ صحيح. قد تتزعزع الرابطة بين الرياض وواشنطن، لكن مصالحهما الاستراتيجية المشتركة لا تزال قائمة، حيث التصدي للتوسُّع الإيراني، وتحقيق التوازن في أسواق الطاقة، ومواجهة الصين، وتحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال توسيع السلام العربي الإسرائيلي. ويمكن لواشنطن والرياض السعي وراء هذه الأهداف معاً، لكن فقط إذا كبحت المملكة السعودية انتهاكاتها لحقوق الإنسان. 

تغييرات في النظام القانوني السعودي

في أوائل فبراير/شباط، أُفرِجَ بكفالةٍ عن اثنين من الناشطين الأمريكيين السعوديين كانا قد احتُجِزا منذ إبريل/نيسان 2019، وهما صلاح الحيدر وبدر الإبراهيم. وقبل أيام فقط من تنصيب بايدن، خفَّفَت محكمة استئناف سعودية الحكم على مواطن آخر مزدوج الجنسية، وهو وليد الفتيحي، وعلَّقَت ما تبقى من الحكم حتى لا يضطر إلى قضاء أيِّ فترة سجن أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، حُكِمَ بالسجن لمدة عشر سنوات على ثلاثة شبان قاصرين كان قد حُكِمَ عليهم سابقاً بالإعدام لمشاركتهم في احتجاجاتٍ مناهضة للحكومة، من بينهم علي النمر، ابن شقيق رجل الدين الشيعي نمر النمر. 

وأعلنت المملكة السعودية إصلاحاتٍ قضائية مهمة من شأنها تقنين النظام القانوني لم يكن من الممكن توقُّعها منذ فترةٍ طويلة، إذ يتمتَّع القضاة تقليدياً بمجالٍ واسع للتفسير الفردي. وقد أدَّى هذا بشكلٍ طبيعي إلى أحكامٍ بدت متقلِّبة وغير معقولة. وتشمل الإصلاحات أربع لوائح جديدة للقانون الجنائي وقواعد الإثبات والمعاملات التجارية وقانون الأسرة. وسيؤثِّر قانون الأسرة بشكلٍ خاص على النساء، إذ يحكم قضايا مثل الزواج وحضانة الأطفال والطلاق، وفقاً لمجلة Foreign Policy الأمريكية. 

وفي تغييرٍ آخر جدير بالملاحظة، حذفت المملكة السعودية بعض المحتوى المسيء من مناهجها المدرسية، ذلك المحتوى الذي كان يخيف المسؤولين الأمريكيين منذ فترةٍ طويلة، على خلفية قلقهم من تفاقم التطرُّف. وقُلِّصَت الإشارات الإيجابية للجهاد والاستشهاد بشكلٍ كبير، ولم تعد المناهج المدرسية تدعم عقوبة الإعدام للمثلية الجنسية والردة والزنا، واختفت العديد من الإشارات المعادية للسامية.

كلُّ هذه التحرُّكات تهدف إلى تصوير حسن النية السعودية للإدارة التي لم تخفِ رغبتها في الضرب بمطرقةٍ ثقيلة على العلاقات الثنائية- مع وفاء بايدن بالفعل بوعوده الانتخابية من خلال إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية في اليمن. 

وقالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جان بساكي، يوم الثلاثاء 16 فبراير/شباط، للصحفيين إن “بايدن يخطِّط لتجاوز محمد بن سلمان والعمل مباشرةً مع الملك سلمان”.

ولكن هناك حدود للتغييرات التي تحقق جراء سياسة بايدن في الشرق الأوسط

ولكن كما هو الحال في كثيرٍ من الأحيان في المملكة السعودية، كان الأمر يمثِّل خطوتين للأمام وخطوة للخلف. على الرغم من إطلاق سراح الهذلول، ستخضع لحظر سفرٍ لمدة خمس سنوات، ويجب أن تقضي ثلاث سنوات من المراقبة، ويخضع الفتيحي لحظر سفرٍ لمدة 38 شهراً، ولم يُفرَج عن الحيدر والإبراهيم إلا مؤقتاً ولا يزالان يواجهان تهماً تتعلَّق بالإرهاب.

ثم هناك رائف بدوي، الذي يقبع في السجن لمدة ثماني سنوات بسبب إدارة مدونته. ولا يزال في زنزانته، على الرغم من أنه سيُعفَى بشكلٍ دائم من الـ950 جلدة المتبقية من الألف جلدة التي كانت جزءاً من عقوبته بعد أن ألغت المملكة عقوبة الجلد في إبريل/نيسان 2020. وتُحتَجَز سمر بدوي، شقيقة رائف، منذ عام 2018 دون إحراز تقدُّمٍ يُذكَر في قضيتها.

إذا كانت المملكة السعودية تريد حقاً تصحيح صورتها وإصلاح مكانتها مع الإدارة الأمريكية الحالية، فيجب عليها أن تسعى إلى إصلاحاتٍ دائمة تتجاوز الإيماءات المحسوبة. كلُّ هذه كانت مجرد خطوات لحفظ ماء وجه محمد بن سلمان، وهي خطواتٌ بعيدة جداً عمَّا هو مطلوب لبدء تصحيح المسار مع بايدن والديمقراطيين في الكونغرس وعدد متزايد من الجمهوريين المُحبَطين، بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية. 

ما هدف إدارة بايدن النهائي من الصمت الاستراتيجي؟

تشير الفترة الماضية إلى أن إدارة بايدن غير مهتمة بالتعامل مع المنطقة من خلال عدسة “العمل كالمعتاد”. يحمل تحول سياستها القدرة على ممارسة الضغط على الجهات الفاعلة الإقليمية للانخراط في الإصلاح وحل النزاعات، وبالتالي تفكيك بعض العقبات التي جعلت الشرق الأوسط مضطرباً للغاية والتي وصمت أمريكا كلاعب متناقض في المنطقة.

بالطبع الشرق الأوسط ليس ساحة يمكن فيها بسهولة إجبار الدول على الخضوع لتفضيلات السياسة الأمريكية. 

لقد نجح قادة المنطقة في الماضي في كثير من الأحيان في استخدام قدراتهم ونقاط قوتهم الجيوسياسية والجغرافية والاقتصادية لاختراق أو التغلب على الضغوط القادمة من الإدارات الأمريكية المختلفة. 

عربي بوست