توافق أم فوضى.. الخلاف بين قيس سعيّد والمشيشي إلى أين سيقود تونس؟
السياسية:
“السيد مدير التشريفات برئاسة الجمهورية، سَلِّمْ هذا الكتاب، الساعة، إلى صاحب البريد، ليسلمه بدوره إلى المرسل إليه، ولا يَعُودنَّ إلى القصر الرئاسي إلا بعد أن يأتي معه ما يفيد التَسَلُّمَ بعد التَّسليمِ”. للوهلة الأولى يذهب في خاطر القارئ أن هذه الأسطر مقتطفة من أحد كتب تاريخ الخلافة الإسلامية أو من شريط سينمائي يحكي رواية قديمة، لولا أنها جاءت على لسان الرئيس التونسي قيس سعيّد في فيديو سجَّله مع مدير التشريفات بالقصر الرئاسي، وهو يسلمه رسالة مكتوبة بريشة النعام الحمراء ودواة الحبر، ومختومة بالشمع الأحمر ليسلمها لرئيس الحكومة، لينقل له فيها رده على طلب هذا الأخير استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية.
تونس.. مرحلة ليِّ الذراع والتصعيد
هذا الفيديو الذي أثار جدلاً واسعاً على منصات التواصل في العالم العربي، يذكِّرنا كذلك بعبارة سعيّد الشهيرة التي قالها في خطابه بمناسبة حلول العام الجديد: “أشعر أحياناً بأنني من كوكب آخر”، في حين يرى متابعون أن ما جاء في هذا الفيديو -الذي حذفته رئاسة الجمهورية فيما بعد من صفحتها الرسمية على فيسبوك- مؤشر على انزلاق الخلاف بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي وحزامه السياسي إلى منطقة بعيدة عن المنطقة الدستورية والقانونية التي انطلق منها الخلاف من أساسه ولم يأخذ لحد الآن أبعاده السياسية الكاملة التي يمكن من خلالها إيجاد منفذ لحل الخلاف المتصاعد بين الطرفين.
جاء ذلك على أثر إعلان رئيس الحكومة هشام المشيشي، الإثنين 15 فبراير/شباط الجاري، عن إقالة خمسة من وزراء حكومته (محسوبين على الرئيس قيس سعيّد) من مهامهم، وهم وزراء العدل والطاقة والرياضة وأملاك الدولة والزراعة، وتسليم حقائبهم إلى مسؤولين بالنيابة.
وهي خطوة رأها متابعون للشأن السياسي في تونس مقدمة للدخول في مرحلة ليّ الذراع والتصعيد في المواقف والقرارات والتصريحات بين رأسَي هرمَي السلطة التنفيذية، خصوصاً أن الرسالة الشهيرة التي أرسلها رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة بخط يده، احتوت على موقف صريح وواضح من هشام المشيشي والأحزاب التي تقف وراءه في هذا الصراع الثنائي (حركة النهضة، حزب قلب تونس، ائتلاف الكرامة) عندما قال: “ما أشدَّ مصائبنا، وأثقل وقعها حين يريد الكثيرون إيهامنا بأننا لا نزال في طور انتقال يصفونه بالديمقراطي! فهو في ظاهره فقط كذلك وفي باطنه انتقال من الحزب الواحد إلى مجموعة فاسدة واحدة”.
هذا الاتهام المبطن بالفساد لمنظومة الحكم الحالية لم يكن مستغرباً من قيس سعيد، الذي يعرّف نفسه بأنه جاء للحكم من خارج المنظومة، إلا أنه لم يكن بهذه الصراحة والجرأة، خصوصاً بعد توليه مقاليد الحكم في قصر قرطاج.
“خلاف أخلاقي أكثر مما هو سياسي”
الحل الذي ذهب إليه هشام المشيشي، بعد استشارة أساتذة القانون الدستوري، من إسقاط لوزراء الرئيس وتعيين وزراء آخرين بالنيابة عنهم، لم يكن في خدمة الحل السياسي للأزمة وإنما يصب في مزيد من تصعيدها وتوتيرها، وقد كان بالإمكان، حسب الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ المعاصر، عبداللطيف الحناشي، تنظيم حوار بين الرئيسين لتبريد الأزمة، ولكنها أخذت بُعداً ذاتياً وأخلاقياً، “كأن سعيّد أعطى الأمان للمشيشي إلا أن هذا الأخير خان الأمانة، ليتحول الخلاف بينهما إلى خلاف ذاتي أخلاقي أكثر مما هو سياسي دستوري”.
فخطأ المشيشي هو أنه ذهب للتغيير الوزاري قبل بداية الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل للبحث عن حلول للأزمة الراهنة، وبالتالي فإن التعديل الوزاري الأخير ترجمة لسياسة الهروب إلى الأمام التي يتبعها رئيس الحكومة، واستبطان لموقف حزامه السياسي، مثلما أوضح الباحث والأكاديمي التونسي لـ”عربي بوست”.
جدير بالذكر في هذا السياق، أن الإقالات الأخيرة التي شملت وزراء الرئيس، تأتي، حسب بيان لرئاسة الحكومة، في “انتظار استكمال إجراءات التحوير الوزاري الذي نال بمقتضاه الوزراء الجدد ثقة مجلس نواب الشعب بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2021 “، وهو الإجراء الذي يرفضه قيس سعيد، الذي سبق أن صرَّح بأن عدداً من الوزراء الجدد تعلقت بهم شبهات فساد، دون أن يذكر أسمائهم رغم طلب المشيشي تسميتهم.
إلى ذلك، رأى عصام الشابي، رئيس الحزب الجمهوري (وسطي ديمقراطي ذو توجهات يسارية)، أن الخلاف بين رأسَي السلطة التنفيذية ورئيس البرلمان أوصل البلاد لحالة انسداد أفق وأزمة مؤسساتية لم تعرفها تونس في تاريخها المعاصر، “هناك صراع نفوذ حول من يقود هذه المرحلة ومن يقود الدولة التونسية في المستقبل”.
وأشار إلى أن كلا الطرفين لم يكتفِ بدوره الدستوري وصلاحياته التي نص عليها القانون المنظِّم للسلطات، بل يحاول كل واحد منهما مد نفوذه لمجالات خارجة على نطاق اختصاصه وصلاحيته، مما أدى إلى شلل في مؤسسات الدولة، “والتونسيون انتقلوا من حالة القلق إلى الخوف على مستقبل البلاد وانهيار وتفكك الدولة”.
ويعتبر الشابي أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، كل واحد منهما يحاول التحصن بموقعه وتسجيل نقاط على حساب الآخر ولو كان ذلك على حساب الدستور وعلى حساب استقرار الدولة وعلى حساب الحاجة المُلحة للتونسيين لسياسة واضحة لمواجهة جائحة كورونا وتوفير الأمن الصحي.
مستقبل الخلاف السياسي في تونس
يرى مراقبون للشأن السياسي في تونس، أن المسألة تحولت إلى ليِّ ذراع بين قرطاج والقصبة ومن يقف وراءهما بما أن كل طرف متمسك بمواقفه. كما أن الأزمة السياسية تنذر بمخاطر تهدد البلاد في استقرارها وأمنها، هذا دون أن ننسى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي لم تحظَ بقدر من الاهتمام يعادل ذلك الذي لقيته الأزمة السياسية بين مؤسسات الحكم، على الرغم من أنها أهم وأخطر وتؤثر على حياة التونسيين ومقدرتهم المعيشية.
أزمة الحكم ستؤثر كذلك بعمق على الوضع الداخلي وتزعزع صورة تونس في الخارج كبلد انتقال ديمقراطي وتجربة فريدة بالمنطقة، خصوصاً في تعاملات تونس مع صندوق النقد الدولي والنظرة السلبية للمجتمع الدولي إلى ما يحدث في تونس، حسب الأكاديمي عبداللطيف الحناشي.
وأشار الحناشي إلى أن التجربة التي نجحت جزئياً على المستوى السياسي والدستوري والحريات والانتقال السلمي للسلطة، نراها الآن تتعثر بشكل كبير، بسبب النخبة السياسية التي باتت غير قادرة على التفاعل مع الواقع وتنصيب المحكمة الدستورية، التي كان بإمكانها حل جزء من الخلاف وضمان مناخ تحكيم دستوري قادر على معالجة خلافات مماثلة في المستقبل.
واعتبر أن الثغرات الموجودة بالدستور لها دور في تعميق الأزمة، لأن “هنالك فصولاً غامضة في الدستور يمكن تأويلها تأويلات متعددة، مثلاً الفصل 89 من الدستور والذي يحدد إجراءات تأدية القسم أمام رئيس الجمهورية، لم يوضحها بشكل حاسم وقاطع كفيل بسدِّ الباب أمام التأويلات من جميع الأطراف.
قانون الانتخابات كذلك يتطلب المراجعة بما أنه أنتج نخبة سياسية وبرلمانية متناقضة وسمح لأشخاص كان من المفروض أن لا يدخلوا البرلمان (فاسدين ومتهربين ضريبياً وتجار مهربين..)، بالفوز بمقاعد في مجلس نواب الشعب، “ولذلك يجب مراجعة القانون الانتخابي”.
الحلول المطروحة لتجاوز الأزمة التونسية
عندما بدأ الخلاف بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة قبل ما يقارب ثلاثة أسابيع، لم تكن الخيارات كثيرة أو قابلة للتفلسف والتأويل؛ فإما قبول رئيس الجمهورية بأداء الوزراء الجدد القَسم أمامه أو إسقاط رئيس الحكومة للوزراء الذين تعلقت بهم شبهات فساد مثلما اشترطت الرئاسة أو المرور بقوة وإقالة الوزراء المحسوبين على الرئيس والمعنيين بالإقالة وتعيين الوزراء الجدد في مكانهم دون المرور بإجراءات أداء القَسم أمام رئيس الجمهورية، وهو ما حصل بالفعل ولكن بشكل جزئي، إذ تمت إقالة وزراء الرئيس لكن لم يتم لحد الآن تعيين الوزراء الجدد.
لم يكن الحوار الوطني من أجل حل الأزمة السياسية وتعديل القانون الانتخابي والسياسي ذا أولويةٍ ساعتها، وإن كان مطروحاً كبديل لإنقاذ البلاد وتخليصها من مشاكلها، بل بقي على رفوف مكاتب رئاسة الجمهورية التي قبلت بمبادرة اتحاد الشغل، من أجل الحوار ولكن بشروطٍ، أهمها استثناء من اعتبرتهم أطرافاً فاسدة. ومع تواصل الأزمة وتعمُّقها وانسداد أفق التفاهم بين المتخاصمين، برزت دعوات جديدة إلى الحوار ولكن هذه المرة جاءت من طرف المحامين.
في هذا السياق قال عميد الهيئة الوطنية للمحامين ابراهيم بودربالة، إن الرباعي الراعي للحوار الوطني، المُمثل في الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين، إضافة إلى اتحاد الفلاحين، سيجتمع قريباً لتقديم ملامح المبادرة التي سيتم اقتراحها لصياغة رؤية مشتركة من أجل إيجاد حلول للأزمة الراهنة.
وهو ما يعني العودة للمربع الأول الذي هربت منه أغلب الأطراف منذ البداية سواء رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو حركة النهضة التي لم تكن مرتاحة لترؤُّس قيس سعيّد للحوار الوطني بما أن مبادرة اتحاد الشغل نصت على إشراف رئيس الجمهورية عليه.
دعوة عميد المحامين إلى الحوار عبر الرباعي الراعي للحوار تستحضر في طياتها أجواء الحوار الوطني سنة 2013 والتي جاءت عقب اغتيال الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، حيث كان المناخ ساعتها يشي بحدوث انفجار اجتماعي وتقاتل أهلي، لولا مبادرة الحوار التي أشرف عليها المجتمع المدني من خلال الرباعي، الذي عاد اليوم للعب الدور نفسه في ظروف مختلفة قطعت فيها تونس أشواطاً مهمة في الانتقال الديمقراطي.
ثمن استمرار الخلاف
“لا يوجد حل غير الحوار وإلا فالفوضى، أو نفتح بلادنا للتدخل الأجنبي”، هكذا قدّر عصام الشابي الموقف السياسي، “لا بد من الضغط على الأطراف الثلاثة (رئيس الحكومة، رئيس البرلمان، رئيس الجمهورية) للجلوس على مائدة حوار مع المجموعة الوطنية ورسم خارطة طريق لتجاوز الأزمة، لأن الثمن لن تدفعه الرئاسات الثلاث وإنما تونس بأكملها”.
بالنسبة للباحث في التاريخ المعاصر عبداللطيف الحناشي، فإن المجتمع المدني قادر على لعب دور الوساطة الإيجابية بين أطراف الأزمة، ويقول في هذا الصدد: “حل الأزمة بيد المجتمع المدني ممثَّلاً في اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، هؤلاء معنيون بحل هذا الخلاف السياسي ولعب دور فعال لتقريب وجهات النظر بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة، والضغط على جميع الأطراف المتخاصمة لتبريد هذه الأزمة”.
يبقى في الأخير التذكير بأنه لولا الحوار الوطني في سنة 2013 الذي أشرف على إدارته الرباعي الراعي للحوار، ولولا التنازلات التي قدمها جميع المفاوضون، خصوصاً راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي، لما توصّل الجميع إلى اتفاقٍ ساعتها وجنَّبوا البلاد حرباً أهلية، فهل لا تزال هناك فرصة لجائزة نوبل للسلام ثانية ولو بالمعنى الرمزي؟
عربي بوست