السياسية:

كشفت مراسلات الاستخبارات الإيرانية تفاصيل مثيرة عن عملاء جندتهم طهران للتجسس على أمريكا في العراق باستخدام وسائل تقليدية بعيدة عن وسائل التجسس الحديثة.

التقرير الذي نشره موقع The Intercept الأمريكي وأعده جيم رايزن كبير مراسلي شؤون الأمن الأمريكي في الموقع ومراسل سابق لصحيفة The New York Times، ألقى الضوء على تفاصيل كان الموقع قد حصل عليها من خلال أرشيف خاص بالمخابرات الإيرانية.

سجال بين أمريكا وإيران

ويأتي ذلك في وقت تتبادل فيه واشنطن وطهران رسائل علنية وأخرى من خلال القنوات الخلفية بشأن عودة الولايات المتحدة في ظل إدارة جو بايدن للاتفاق النووي الذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ووضع كل منهما شروطه على الطاولة، وهو ما يجعل مهمة إحياء الاتفاق الذي تم توقيعه عام 2015، أكثر صعوبة.

كان الموقع الأمريكي قد تمكن من خلال تسريب غير مسبوق لأرشيف مراسلات المخابرات الإيرانية، من الوقوف على مدى النفوذ الهائل الذي تتمتع به إيران داخل العراق، وفي هذا التقرير تم نشر مزيد من التفاصيل بشأن كيفية تجنيد العملاء والتواصل معهم.

كيف يتم تجنيد العملاء للتجسس؟

كان يتعيَّن على العميل “العراقي” تقديمَ الكثير لضابط التعامل (handler) الإيراني، لإثبات أهميته. فلسنوات، كان العميل العراقي يتجسس سراً لصالح إيران، وقدّم معلومات استخباراتية قيّمة حول العمليات الأمريكية في العراق، لكن عندما سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها وقلّصت حضورها في العراق عام 2011، لم يعد لديه سوى قليل من المعلومات الجديدة التي قد تثير اهتمام مُديريه الإيرانيين، وهكذا، مع تراجع الوجود الأمريكي إلى حد كبير، انصرف الإيرانيون عن عميلهم وقطعوا تواصلهم معه.

وبحلول عام 2015، بات العميل السابق صاحبَ وظيفة في جهاز الأمن العراقي، لكنه مع ذلك ظلَّ في حاجة إلى المال، لذلك عاد إلى الإيرانيين لتقديم طلب للعودة إلى عمله السابق عميلاً مزدوجاً. وكان قد مرَّ وقت طويل منذ أن تجسس آخر مرة لصالح الإيرانيين، لدرجة أنه بات يتعامل مع ضابط استخبارات جديد لا يعرف شيئاً عن إنجازاته إلا من خلال التصفح للملفات القديمة. الآن، يُصنف العميل السابق على أنه مجرد “مرشح” لكي يكون جاسوساً، مثل أي طالبٍ لوظيفة تقدَّم لها.

ويجب أن يقتنع ضابط التعامل الجديد بأنه يستحق الوظيفة. ومن ثم، طلب ضابط الاستخبارات الإيراني من العميل الإيراني السابق أن يستعرض كل ما يعرفه من معلومات قد تكون ذات نفع أو أهمية لإيران. معلومة واحدة قالها العميل العراقي جعلت الضابط الإيراني يلتفت إلى ما يقوله حقاً. قال العميل إن لديه صديقاً يرغب أيضاً في التجسس لصالح إيران. وكان الصديق يعمل مع الأمريكيين بقاعدة إنجرليك الجوية في تركيا. ومن ثم، يمكنه التجسس على الأمريكيين لصالح إيران.

العراق ساحة معركة بين طهران وواشنطن

تأتي الوثائق المسربة من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية وتتناول بدرجة أساسيةٍ عمليات الاستخبارات الإيرانية في العراق. ويلفت الأرشيف المسرَّب الانتباه إليه بحجم التقارير والمراسلات الميدانية التي ينطوي عليها، والتي يرجع تاريخها إلى الفترة من 2013 إلى 2015، وهي صادرة عن مكاتب الاستخبارات الإيرانية في العراق ومُوجهة إلى مقر وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية.

وعلاوة على ما توثّقه تلك التقارير من حجم النفوذ الإيراني في العراق، تبيّن الملفات المسرَّبة كيف أصبح العراق ساحةً مفتوحة للمعركة الدائرة بين العملاء الإيرانيين والأمريكيين.

وكان نفوذ إيران العميق في المشهد السياسي العراقي سبيلاً لحيازة جهازي الاستخبارات الإيرانيين الرئيسيين – وزارة الاستخبارات وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني – قدراتٍ على العمل بِحرية في جميع أنحاء العراق لسنوات، ما مكّن تلك الأجهزة من تطوير شبكة هائلة من المصادر والعملاء السريين بجميع أنحاء البلاد.

بعد أن ذكر العميل العراقي السابق أن لديه صديقاً يعمل في قاعدة إنجرليك الجوية بتركيا، كلّفه ضابط الاستخبارات الإيراني بمهمة: طلب الضابط الإيراني من العميل العراقي مقابلةَ صديقه في رحلته القادمة إلى تركيا، وإثبات نفسه للإيرانيين بتجنيد هذا الصديق. وفي اجتماعهم التالي، أطلع العميل العراقي ضابطَ التعامل الإيراني على تفاصيل لقائه بصديقه في تركيا.

وبحسب إحدى البرقيات التي حصل عليها موقع The Intercept، قال العميل العراقي للضابط الإيراني: “في زيارةٍ الشهر الماضي وكما وعدت، زُرت صديقي وتحدثت معه عن التعاون مع إيران. ومن المرجح جداً أن يقبل التعاون مع إيران”.

غير أن العميل العراقي أشار إلى أن القيود الأمنية في قاعدة إنجرليك ستجعل من الصعب على صديقه التواصل بانتظام مع الإيرانيين، وقال: “بالنظر إلى القيود المحكمة التي تفرضها القوات الأمريكية على العناصر العاملة معها داخل قاعدة إنجرليك الجوية، فإن مغادرة القاعدة والسفر إلى مدن مختلفة يمكن أن يوقعاه في مشاكل”.

ومع ذلك، استدرك العميل العراقي بالقول إن الأمر لن يظل مشكلة لوقت طويل. فصديقه كان قد ذهب لتوّه إلى الولايات المتحدة لحضور دورة تدريبية لمدة شهرين، وعند عودته، من المقرر أن يلتحق بالعمل في قاعدة الأسد الجوية بالعراق. ومن ثم، “سيصبح من السهل فتح قناة اتصال معه في هذه المرحلة”، بحسب العميل العراقي.

تشير الوثائق إلى أن ضابط التعامل الإيراني، وهو مدرج تحت الكود الداخلي #3141153، قد أعجب بجهود العميل العراقي. وكتب الضابط الإيراني في تقريره، أن “المراحل الأولى لملف تعاونه قد اكتملت، وهو مهيأ لتسلُّم كود التعاون للعمل معنا”. ويعني ذلك أنه بات مستعداً للخطوة التالية من تجنيده للعمل جاسوساً “بناء على توجيهات المدير العام الموقر 364”.

ومع ذلك لا تظهر مراسلات وزارة الاستخبارات الإيرانية المسرَّبة ما إذا كان الصديق قد تجسس الفعل لصالح إيران سواء من داخل القاعدة العسكرية الأمريكية في تركيا أو بالعراق. ومن جانبه، رفض متحدث باسم البنتاغون التعليقَ على المعلومات الواردة في التسريبات.

تجنيد عملاء في وزارة الخارجية الأمريكية
الوثائق كشفت أن حالة العميل العراقي وصديقه الذي يعمل بقاعدة إنجرليك لم تكن الحالة الوحيدة التي حاول فيها ضباط الاستخبارات الإيرانيون استخدام العراق قاعدةً لتجنيد العملاء أو القيام بأعمال تجسسية على الولايات المتحدة.

إذ كان الموقع الأمريكي قد نشر في عام 2019، تقريراً عن برقية إيرانية مسرَّبة، تكشف أن وزارة الاستخبارات الإيرانية جنّدت أو حاولت تجنيد جاسوسٍ يعمل لصالحها داخل وزارة الخارجية الأمريكية. وفي حين أن الشخص المشار إليه لم يتم تعريفه بالاسم، فقد وُصف بأنه شخص عمل في وزارة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالملف العراقي. ولم يحصل موقع Intercept إلا على جزءٍ غير مؤرخ من التقرير الإيراني الداخلي حول القضية.

وذكرت برقية وزارة الاستخبارات الإيرانية آنذاك، أنه “بالنظر إلى حجم المسؤوليات التي يضطلع بها في وزارة الخارجية الأمريكية وسجله ومعارفه، فإنه يتمتع بإمكانات وصول جيدة إلى معلومات سرية”.

الملف النووي الإيراني جواد ظريف

المراسلات المسرَّبة أظهرت أيضاً، أن معظم عمليات الاستخبارات الإيرانية تتم عادةً في جميع أنحاء العراق دون انتباه أو تدخُّل يُذكر من جهات التحقيق الأمريكية. وتشير المراسلات إلى أن أحد أسباب نجاحها قد يكون أن ضباط الاستخبارات الإيرانيين بالعراق يعمدون إلى أسلوب تقليدي جسور وعتيق في الوقت نفسه، لتجنب رصدهم أثناء مقابلة مصادرهم. وبدرجةٍ ما، ربما يكون سبب نجاح أساليبهم الخاصة في تجاوز مساعي الرصد والمراقبة الأمريكية هو اعتمادها على الطرق شديدة التقليدية لجمع المعلومات بدلاً من اللجوء إلى التكنولوجيات الحديثة، التي يعرفون أن للولايات المتحدة اليد العليا فيها.

الاعتماد على وسائل تجسس تقليدية
وأحد الأمثلة على ذلك، ما يورده هذا التقرير الذي كتبه ضابط استخبارات إيراني عن لقائه مع مخبر عراقي، إذ يقول: “غادرت القاعدة سيراً على الأقدام قبل موعد الاجتماع بساعة، وبعد عشرين دقيقة من المشي والتحقق من التدابير اللازمة [أنه لا يخضع للمراقبة مثلاً]، استقللت سيارتي أجرة مختلفتين عبر الشوارع المجاورة وصولاً إلى الموقع المقرر لعقد الاجتماع، ثم مرة أخرى، بعد تحري التدابير المتبعة والمشي سيراً على الأقدام لمدة عشر دقائق، عدت إلى الموقع، وبعد الاجتماع استقللت سيارتي أجرة مرة أخرى، وعدت إلى القاعدة”.

الإيرانيون مبدعون أيضاً في كيفية الاستفادة من المؤسسات والفعاليات الدينية والثقافية في العراق لخدمة أغراض استخباراتية. وتعتمد أجهزة الاستخبارات الإيرانية على الزيارات المعتادة للعملاء العراقيين وكذلك الإيرانيين وغيرهم من المسلمين الشيعة للمواقع الدينية الشيعية في العراق، لتوفير غطاء جيد لعقد اجتماعاتهم دون لفت الأنظار.

ومن الأمثلة على ذلك، ما تورده إحدى الوثائق عن “اجتماع مع [المصدر صاحب الكود 118511001] يوم السبت، في ضريح أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)”، وتذكر الوثيقة تفاصيل اللقاء، فتقول: “وصف في بداية اللقاء الأوضاع في قطاعي النجف وكربلاء خلال الأيام الماضية، مع التركيز على الجبهات المحددة سلفاً. ثم الانتقال إلى ضريح الإمام الحسين، حيث زار الضريح وتفقّد بعض المراكز وأماكن التجمعات الخاصة بالطائفة الشيرازية… لاحقاً، بعد أن غادر الضريح المبارك، تجولنا معاً في المنطقة المحيطة به وزُرنا المعاهد العلمية القريبة… ثم دعاني لتناول الغداء واستمرت المحادثة لساعات”.

ولتجنب خيانة العملاء التابعين لهم في العراق، لجأ الإيرانيون بدرجة أكبر إلى مخبرين من شيعة العراق وفي الوقت نفسه لديهم بعض الروابط العائلية مع إيران. وهو ما يشي به أحد تقارير وزارة الاستخبارات الذي تناول حالة ضابط استخبارات عراقي أبدى رغبته في التجسس لصالح إيران. وفي دعمٍ للطلب، يشير التقرير إلى أن والد الضابط كان قد لجأ إلى إيران في السبعينيات، وأن العميل المحتمل “قضى ثلاث سنوات في إحدى المدارس الابتدائية لإيران”.

وتشير الوثائق أيضاً إلى أن العملاء العراقيين الذين يحظون عادةً بتقدير الإيرانيين هم من شاكلة هؤلاء، مثل العراقي الذي لديه صديق يعمل في قاعدة إنجرليك، فهؤلاء يثبتون أهميتهم عن طريق ما يوفرونه من سبل للوصول إلى الأفراد والمرافق الأمريكية.

وفي إحدى الوثائق التي كتبها ضابط التعامل الإيراني عن عميلٍ يديره، يقول الضابط الإيراني: “ذهب المصدر إلى القاعدة المذكورة أعلاه في مطار بغداد، وذلك بحجة تقديم الهدايا لبعض القادة [العراقيين]”، ويضم هؤلاء أحد القادة العسكريين العاملين في القاعدة “وهو فاسد مرتشٍ وعميل لصالح الاستخبارات المركزية الأمريكية في الجيش العراقي. وأثناء تقديم الهدايا لعديد من الأفراد الأمريكيين الموجودين بالقاعدة، التقط المصدر صوراً تذكارية. (هذه الصور ستُرسل إليكم عن طريق رسول من طرفنا)”.

وفي حين اعتمد الإيرانيون العاملون بالعراق اعتماداً كبيراً على نقل المعلومات داخل الأحذية الجلدية وعلى علاقاتهم الشخصية وامتداداتهم الثقافية، تُظهر البرقيات المسربة أيضاً أنهم اعتمدوا أحياناً على الإمكانات التكنولوجية والإلكترونية للاضطلاع بعمليات التجسس في العراق. لكن مثل الجواسيس الآخرين بجميع أنحاء العالم، وجد الإيرانيون أحياناً أن التكنولوجيا عاجزة عن القيام بالمهام المطلوبة. ففي إحدى البرقيات، يروي ضابط بوزارة الاستخبارات بغضبٍ فشلَ جهودهم في إجراء مراقبة إلكترونية لأحد مخبريهم العراقيين، كان الهدف منها التأكد من أنه يقدم معلومات دقيقة. ويقول الضابط الإيراني في تقريره، إن المخبر اكتشف المعدات التي وُضعت لمراقبته، وإنه أصر على تغيير خطط الاجتماع.

موقع “عربي بوست”