موسكو لا تقرع طبول الحرب بل تحذر!
السياسية:
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، بدا للحظة أن الغرب يوشك أن يهيمن على كل مفاصل الجغرافيا والتاريخ على امتداد روسيا والجمهوريات المتفككة.
لهذا كانت الحرب التي شنها الرئيس، فلاديمير بوتين، منذ عشرين عاماً، بالفعل حرباً شاملة على كل المستويات، على مستوى الفكر والثقافة والاقتصاد والتقنيات الحديثة، لم تكن حرباً لاستعراض عضلات “الدب الروسي”، بقدر ما كانت حرباً من أجل “استعادة روسيا”، التي تاهت في غياهب الليبرالية والرأسمالية الشرسة، التي انطلقت تنهش في “جسد” روسيا الجريحة عقب تفكك الاتحاد السوفيتي منذ ثلاثة عقود.
إن الجغرافيا هي المفتاح الأساسي لفهم فلسفة السياسة الروسية، وروسيا التي تشغل سبع مساحة العالم (17 مليون كيلومتر مربع) تدرك قدرها المحتوم كدولة مركزية كبرى، يمتد تأثيرها إلى دوائر آسيوية وأوروبية وشرق أوسطية وأفريقية، لا استناداً إلى قاعدة أيديولوجية كما كان الحال في الاتحاد السوفيتي، وإنما استناداً إلى المصالح المتبادلة واحترام السيادة والإرادة السياسية للدول.
تعتمد السياسة الروسية على قوة عسكرية ضاربة، ودبلوماسية عريقة، واستراتيجية بعيدة المدى، طويلة النفس، لا تكلّ ولا تملّ من محاولات مستمرة لتعزيز دور هيئة الأمم المتحدة، والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن للحفاظ على السلم والأمن العالميين، والالتزام بأصول النظام العالمي الذي أرسيت دعائمه منذ 75 عاماً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتتلخص تلك السياسة في المقولة التي انتشرت في الأوساط السياسية الروسية مؤخراً بأن “من يعجز عن الاستماع إلى لافروف، سوف يستمع بكل تأكيد إلى شويغو”، الحديث عن وزيري الخارجية والدفاع الروسيين، سيرغي لافروف، وسيرغي شويغو.
بمعنى أن أحداً في الكرملين لا يرغب في العدوان أو التدخل في سياسات أي من الدول على أي من الدول، ولا تتحرك روسيا إلا في إطار القوانين الدولية واحترام سيادة الدول وإرادة الشعوب.
ولم تبادر روسيا يوماً بالتمدد نحو الغرب مثلما فعل الناتو في تمدده نحو الشرق، ومؤخراً، لم تواجه روسيا إلغاء اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية “ستارت 3” سوى بالصبر والتحمل، حتى عادت الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها، في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، إلى الاتفاقية، وقامت بتمديدها، علاوة على ما صرح به المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، بأن الإدارة الأمريكية الجديدة تدرس إمكانية العودة إلى معاهدة الأجواء المفتوحة، وهو ما تعاملت معه روسيا بإيجابية، خاصة وأن الانسحاب النهائي يأتي بعد 6 أشهر من اتخاذ القرار، الذي اتخذ في نوفمبر الماضي، لهذا فلا زالت الفرصة سانحة لذلك.
لكن، وفي نفس الوقت، فإن روسيا لا تقبل بالعدوان على مصالحها الاستراتيجية، وقادرة على الردّ بقوة على كل ما يهدد تلك المصالح، وهو ما حدث في القوقاز، ثم في جورجيا، ومؤخراً في أوكرانيا، وبيلاروس، في محاولات واضحة لافتعال ثورات ملوّنة على الحدود مع روسيا، وصولاً إلى مشروع المدوّن الروسي، أليكسي نافالني، الذي دعا إلى احتجاجات روسية لم تجد آذاناً صاغية لدى أغلبية الشعب الروسي.
إن كل تلك التهديدات والتغيرات في موازين القوى والتجاذبات والتنافرات لا تعني أن الوضع الدولي على حافة الهاوية كما يظنّ البعض، أو أن الاقتصاد الأمريكي ومعه العالمي سوف ينهار، وتعمّ الاحتجاجات والفوضى حول العالم، أو أن العالم على شفا حرب نووية كما صرّح رئيس القيادة الاستراتيجية الأمريكية الأميرال، تشارلز ريتشارد، في مقاله لمجلة المعهد البحري العسكري، حينما قال إن هناك احتمال حقيقي لأن تتصاعد أزمة إقليمية مع روسيا أو الصين بسرعة إلى صراع نووي، وإن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع في اعتبارها أن “استخدام الأسلحة النووية احتمال واقعي”.
لقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية الصين على قائمة التهديدات التي تواجهها، في الوقت الذي يتحرك فيه الاقتصاد الصيني صاعداً ليتجه نحو تجاوز الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يلقي بظلال من الخوف على ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الأمريكية لإيقاف المارد الصيني.
حول هذه القضية، يقول نائب مدير معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ألكسندر لومانوف، رداً على سؤال حول ما سيحدث بحلول العام 2030، عندما تتجاوز الصين، وفقاً لتوقعات عدد من الخبراء، الولايات المتحدة الأمريكية من حيث حجم اقتصادها، إن الصين تهتدي بقواعدها القديمة، وتكرّر أنها لن تصبح أبداً قوة مهيمنة، ولن تعتدي أبداً على دول أخرى. لكن القوة الاقتصادية سوف تمنحها أدوات جديدة للتأثير في العالم سياسياً.
بكين لن تسير على خطى الولايات المتحدة الأمريكية، ولن تشكّل تحالفات عسكرية بهدف ضمان الهيمنة.
يتعين التذكير بما قاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ السنوي المعني بالسياسة الأمنية عام 2007، والذي أصبح يعرف باسم “خطاب ميونيخ” حينما انتقد الهيمنة الاحتكارية للولايات المتحدة الأمريكية في العلاقات الدولية، داعياً إلى “نظام عالمي منصف وديمقراطي يكفل الأمن والرخاء لا لقلة مختارة فحسب، بل للجميع”.
العالم اليوم أمام محاولة لاستعادة الوضع لما كان عليه قبل إدارة ترامب، لكن ذلك أقرب للمستحيل منه إلى الواقع، كما أن محاولات الولايات المتحدة الأمريكية للتشبث بما تتوهمه من “أحادية القطبية” قد أصبح هو الآخر مستحيلاً في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، وعالم ما بعد جائحة كورونا، وظهور لاعبين إقليميين جدد ومنظمات دولية تضم اقتصادات رائدة مثل بريكس والاتحاد الأوراسي ومنظمة شانغهاي.
أن أقرب السيناريوهات إلى التحقق هو ما تحدث عنه البروفيسور، دميتري إيفتسايف، من المدرسة العليا للاقتصاد، في مقاله بـ “أوراسيا إكسبرت”، وهو تشكيل “مناطق نفوذ” إقليمية حول مراكز قوة جديدة، والتي يمكن على أساسها تشكيل مناطق جيواقتصادية كاملة المعنى.
فروسيا لا يهمها الوضع الداخلي الأمريكي من قريب أو من بعيد، وتتعامل دائماً بمنتهى التوازن الدبلوماسي والحكمة السياسية مع كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتربطها بالصين أيضاً علاقات وثيقة قائمة على المصالح المتبادلة والاحترام والتنسيق في مواقف البلدين كعضوين دائمين في مجلس الأمن الدولي، سعياً إلى تعميم أجواء علاقات التعاون والأمن والاستقرار الدولي.
لهذا كانت الحملة الشرسة التي قادتها الأوساط الديمقراطية بشأن التدخل المزعوم لروسيا في الانتخابات الأمريكية السابقة، ضرباً من العبث، لم يفض في النهاية إلى أي نتيجة. كذلك فإن أي أوهام خاصة بأن التحالف الروسي الصيني يستهدف مصالح الولايات المتحدة الأمريكية هو ضرب من الجنون.
لقد كان من بين القضايا التي شملتها المحادثة الهاتفية الأولى بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، المبادرة الروسية لعقد قمة للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة، وهو ما يعكس اهتمام روسيا بتحسين العلاقات الدولية، وتعزيز دور هيئة الأمم المتحدة في حل المشاكل الدولية والإقليمية حول العالم.
ونحن نشهد كيف تعمل الهيئة على حل الأزمات حول العام، ومن بينها في منطقة الشرق الأوسط الأزمة الليبية، التي نأمل أن تسهم الجهود في حلها بأقرب فرصة ممكنة، وكذلك فيما يتعلق بإنهاء الصراع في اليمن، وقريباً نأمل أن يتخطى لبنان أزمته الاقتصادية الطاحنة من خلال التعاون بين هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي.
كذلك تشهد القضية الفلسطينية أيضاً انفراجاً تمثّل في إجراء رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، الأسبوع الماضي، اتصالات رسمية مع الإدارة الأمريكية الجديدة، ناقش فيها سبل إعادة العلاقات الفلسطينية الأمريكية، من حيث فتح المكاتب الدبلوماسية والقنصلية وعودة المساعدات الأمريكية ودعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، وسبل دفع العملية السياسية.
ولعل أهم ما يتعيّن القيام به الآن هو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية لبدء العمل مع هيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تمهيداً لإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يوليو 1967، لأن أي تقاعس من أي طرف من الأطراف سوف يؤخر تحقيق ذلك، وسيمدّ في استمرار معاناة الشعب الفلسطيني.
في الملف السوري أيضاً نلمح تعاوناً روسياً أمريكياً من خلال هيئة الأمم المتحدة، وبالتعاون مع تركيا وإيران لإنهاء الأزمة السورية وفقاً لما نص عليه القرار 2254، وسيصبح من المؤكد أن تكلل تلك الجهود بالنجاح، إذا ما توحدت جميع الأطراف لحل الأزمة. وهنا أعاود التذكير بأن هيئة الأمم المتحدة قد حددت جدولاً زمنياً لتيسير العملية السياسية بين السوريين، على أن تتوصل تلك العملية خلال 6 أشهر إلى اتفاق يفضي إلى إقامة حكمٍ ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يستثني أحداً ولا يقوم على الطائفية، ويحدد جدول زمني لعملية صياغة دستور جديد.
لقد أثبتت تجربة السنوات الخمس الأخيرة أن الأزمة السورية لن تحل دون التوافق السوري السوري، بينما سيعزز التوافق الدولي من إمكانيات هيئة الأمم المتحدة للعب دور فعّال لإنهاء الأزمة، وأي محاولات أخرى لابتكار أي أساليب أخرى ستسبب مزيداً من التعقيد للأزمة، وإطالة أمد المعاناة للشعب السوري، وأظن أن المجتمع السوري لن يسمح بذلك.
إن سياسة روسيا تتسم دائماً بالوضوح والشفافية في حل القضايا الدولية والإقليمية، وهو أمر مثبت في جميع المحافل الدولية وقرارات الأمم المتحدة والبيانات الرسمية الصادرة عن الكرملين أو عن الخارجية الروسية، وهي تعتمد جميعاً، بلا استثناء، على احترام ومراعاة القوانين والمفاهيم الدولية المعتمدة من قبل هيئة الأمم المتحدة.
من المؤمل أن تتجاوز البشرية محنة جائحة كورونا وتداعياتها (خاصة وقد نشرت مجلة “لانسيت” العلمية المرموقة مؤخراً نتائج المرحلة الثالثة من تجارب اللقاح الروسي “سبوتنيك V” التي أظهرت فعالية بنسبة 91.6% ما يعطي الأمل في تجاوز الجائحة في أقرب فرصة).
ومن المنتظر أن تتجاوز العلاقات الأمريكية الروسية والأمريكية الصينية المرحلة الصعبة التي تمر بها، خاصة مع التهديدات الإقليمية والدولية التي تقف عائقاً أمام أمن وسلام البشرية.
بقلم : رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي
* المادة الصجفية تعبر فقط عن رأي الكاتب