الخوف من المستقبل يدفع بالتونسيين إلى سوق العرّافين
السياسية – وكالات :
يهربون من “مرارة الواقع إلى الوهم” جراء تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي يعيشها المواطنون
في كل الأحياء تقريباً الشعبية والراقية، تنتشر مكاتب العرّافين وقرّاء الطالع ومن يملكون قدرات على حل مشكلات الآخرين عبر الروحانيات والقدرات الخارقة، بعد أن ضاقت الحلول الممكنة إنسانياً وعلمياً بمن يلتجئ لهم لمنحه ولو شعوراً بالأمان النفسي من المخاوف التي يعيشونها.
الحلم القديم المتجدد
داخل مكتبها المتواضع في أحد أحياء منطقة باردو في تونس العاصمة، تجلس العرّافة صالحة والتي تقدم نفسها على أنها تمارس المهنة منذ ما يقارب 60 سنة، لتتحدث عن تجربة طويلة، قائلة إنها تعمل في هذا المكتب منذ 25 سنة من دون توقف، وإن كل ما تقدمه للناس هو المساعدة لمن يأتي لها، وقد ضاق صدره وكثرت همومه. وتضيف أنها تتعامل بشكل خاص مع الشريحة الاجتماعية المتعلمة والتي لها حضور مهم في المجتمع، وهؤلاء يشكلون غالبية زوارها الطالبين مساعدتها، وأن كثيراً من رجال الأعمال يأتون عندما يواجهون مشكلات في عملهم وحياتهم اليومية.
وراء نظارات طبية بحكم التقدم في السن، تظهر عيون صالحة وهي تحاول أن تقرأ تفاصيل من يقف أمامها، وهي في غمار الكشف عما يريد وبماذا يفكر. وبأسئلة مباغتة خارجة عن سياق الحديث تسأل عن تاريخ الميلاد لترى رد الفعل والتفاعل معها لتقود زائرها إلى حيث تريد من دون أن تثير حفيظته ومخاوفه.
العراف ليس طبيباً متحيلاً
وتحدثت العرافة صالحة عما يمكن أن تقدمه من نصيحة، خصوصاً من تصيبهم الكآبة جراء الأوضاع التي نعيشها حالياً، والتي تعتبر أن الجميع يعيشها في تونس ولا معنى للحديث عنها. ورفضت أن تقدم نفسها على أنها تعالج المرضى، متهمة من يقوم بذلك بالتحيل والكذب على الناس. وتقول “المريض يذهب للطبيب فهو القادر على علاج الناس”، وتواصل ضاحكة “أنا عندي أمراض في القلب والعيون وألجأ للأطباء للعلاج، ولو كنت مثلما يدعي بعض المتحيلين لعالجت نفسي”. وتوضح أنها لا تعطي زوارها أي علاج كان، لا أعشاب ولا حتى طابع سكر، والجلسات معها في الأساس روحانية.
الخروج من الأزمات
السيدة ضحى بن سلطان كانت في مكتب العرافة صالحة، وترتبط معها بعلاقة صداقة كبيرة بعد أن التجأت إليها في فترة سابقة جراء تعرضها لمشكلات في العمل وأخرى عائلية. ضحى خريجة الجامعة وموظفة في إحدى مؤسسات الضمان الاجتماعي وزوجة رجل متعلم ولديها طفلان، تتحدث عن تجربتها مع العرافة صالحة التي لديها أسلوب خاص في مساعدة من يزورها بعيداً من الأعشاب أو أي دواء آخر، “قدمت لي نصائح مهمة حينها”، وقالت إنها كانت تمر “بظرف نفسي صعب وعالجتني عبر جلسات حوار، واليوم انتهت مرحلة العلاج وظلّت صداقتنا كبيرة وأزورها بين فترة وأخرى”.
وأضافت أن الجلسات مع العرافة ساعدتها كثيراً في استعادة حياتها الطبيعية في عملها وبيتها، وأن “صالحة تعرف مشكلتك من قبل أن تبدأ الحديث معها فهي لديها بُعد نظر”.
العراف وعلم الفراسة
الباحث الاجتماعي سامي نصر وصف العرّافين بأنهم شخصيات لديهم الفراسة، والتي تعتبر من العلوم شديدة التأثير في الآخرين، وهي من صفات شخصيات لديهم نسبة ذكاء عالٍ وثقة بالنفس ويجيدون التواصل والتأثير في الآخرين، ويجب أن يكون قادراً على كشف شخصية من يزوره ليسهل التأثير فيه. “هؤلاء يملكون القدرة على استطلاع مكامن الضعف والإرباك لمن يلتجئون إليهم، وهذه المهنة ليست جديدة بل تعود لقديم الزمان. وفي تونس حالياً هنالك ظاهرة استعانة الناس بالعرافين، ويكون الطرف الزائر في المقابل فاقداً للأمل ولديه الاقتناع المسبق بأن العراف قادر على مساعدته للخروج من الحالة النفسية والاجتماعية التي يعيشها. وجراء الظرف الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي يمر به الشعب التونسي اليوم، تشهد مكاتب العرافين إقبالاً لافتاً للهروب من مرارة الواقع إلى الوهم.
دور خطير لمواقع التواصل الاجتماعي
ونبّه نصر إلى الدور الذي تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي في تمرير هذه الرسائل للناس، والتي تحولت لما يمكن أن نسميه ثقافة العرافين، خصوصاً مع ازدياد التطبيقات التي تحرك “حشرين الناس” من خلال أسئلة “كيف سيكون شكلك بعد 25 سنة؟ وما هي المهنة التي تناسبك أكثر”؟ وهذه التطبيقات لا تختلف عن التساؤلات التي تجيب عليها العرافة وهذا يخلق نوعاً مع التآخي مع هذه الظاهرة، كما تلعب وسائل الإعلام دوراً في نشر هذه الظاهرة من خلال حظك اليوم الذي يقرأه ويستمع له الملايين كل يوم.
البحث عن الكنوز وضحايا التحايل
وهناك أيضاً ظاهرة انتشرت بشكل كبير في تونس، والتي تعرف بـ”البحث عن الكنوز”، إذ اختص أشخاص يدّعون قدرتهم على كشف مخابئ الكنوز، وهذا الموضوع تسبب في إفلاس عديد من الأشخاص الذين سقطوا في شباك هؤلاء المتحايلين. وتقول السيدة أحلام السايحي إنها كانت شاهدة على تجربة أحد الاشخاص الذين تعرفهم جيداً، أوهمه البعض بأن لديه في أرض يملكها كنزاً، الضحية صدق الحكاية وأدى الأمر في نهاية المطاف إلى بيعه الكثير من أملاكه وطلاقه من زوجته وتشريد عائلته، وتضيف أن نشر وهم الثراء السريع وتحقيق المعجزات في يوم وليلة صار شغل هؤلاء المتحيلين الشاغل في تونس.
العرافة صالحة تنفي هذه التهم وتقول إن بعض الأشخاص يأتون لها ويطلبون منها العثور على كنوز لديهم موجودة في أراضيهم ومنازلهم، وتؤكد لهم أن ما قيل لهم كذب وغير صحيح، وأنها ادعاءات ولا يوجد عراف يعلم مكان الكنوز أو يجدها، وتختم “لا يجب السماح باستغلال ضعف بعض الناس وأحلامهم بالثراء السريع”.