السياسية:

في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريو الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011 تعيش مدن تونسية منذ أسبوع عدة اضطرابات على وقع أعمال شغب واحتجاجات ليلية تخللتها صدامات مع رجال الأمن، سببها الظاهر رفض حظر التجول المفروض ضمن تدابير مكافحة فيروس كورونا المستجد، لكنها في الواقع الشجرة التي تخفي الغابة.

فإثر ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا المستجد فرضت تونس الإغلاق الخميس وهو اليوم الذي صادف مرور عقد على الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي بعد احتجاجات شعبية.

ووقعت أعمال عنف خلال الأيام الماضية في أحياء شعبية، خصوصاً في تونس وبنزرت ومنزل بورقيبة (شمال) وسوسة (شرق) ونابل (شمال غرب) وسليانة (وسط)، بحسب مراسلي وكالات الأنباء وتسجيلات فيديو نشرها سكان على الإنترنت.

وتأتي هذه المواجهات بعد سلسلة من التظاهرات منذ الصيف الماضي رفضاً لإهمال الدولة المناطق المهمشة.

ويندد المحتجون بالطبقة السياسية المنشغلة بمعاركها الداخلية متجاهلة البؤس الذي غرقت فيه شرائح فقيرة واسعة من المجتمع التونسي بسبب الوباء.

فمنذ نحو شهرين، تشهد تونس احتجاجات في مناطق عديدة، مطالبة بتحسين ظروف المعيشة وتوفير فرص عمل للعاطلين، لكنها جنحت مؤخراً إلى العنف وتخريب الممتلكات الخاصة والعامة.

واعتقل نحو 632 شخصاً بعد الليلة الثالثة على التوالي من الاضطرابات التي تشهدها عدة مدن تونسية تتراوح أعمارهم بين 15 و20 و25 عاماً وعثر بحوزتهم على أسلحة بيضاء ومبالغ مالية وزجاجات “مولوتوف”، فيما نُشرت قوات من الجيش في بعض المناطق.

 لكن ما السبب الحقيقي وراء اندلاع الاحتجاجات؟ وكيف تحولت الاحتجاجات الاجتماعية إلى أعمال شغب وتخريب؟ وهل هناك مَن يقف وراءها؟ ولماذا التظاهر ليلاً؟

سبب اندلاع الاحتجاجات

اندلعت الاحتجاجات الأخيرة بعد إقدام أحد عناصر الشرطة على ضرب وإهانة راعي غنم بمدينة سليانة بسبب عدم امتثاله لقانون الطرق، ما أدى إلى خروج مظاهرات منددة بتجاوزات عناصر الأمن بحق “الطبقات الفقيرة”.

وتوسعت بعدها رقعة الاحتجاجات إلى عدد من المدن، مما اضطر قوات الأمن إلى استعمال الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود الغاضبة.

وأعادت حادثة راعي الأغنام ما حدث مع البائع المتجول في مدينة سيدي بوزيد، محمد بوعزيزي، الذي كان قد أقدم على إحراق نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول من عام 2010 بعد مصادرة عربته وتعرضه للصفع من قِبل شرطية، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية شملت معظم أنحاء البلاد وفرار رئيس البلاد آنذاك، زين العابدين بن علي، إلى السعودية.

رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أكثر من 7600 تحرك احتجاجي في تونس خلال عام 2020، على الرغم من قيود مكافحة فيروس كورونا، في مقابل 9091 خلال 2019، و9365 خلال 2018.

وشملت الاحتجاجات أغلب المحافظات التونسية، من بينها 1457 احتجاجاً في قفصة، و1255 في القيروان، و805 في سيدي بوزيد، و710 احتجاجات في العاصمة تونس.

ويبدو أن الاحتجاجات أخذت منحى أكثر عنفاً خلال شهر يناير/كانون الثاني الذي دأب فيه التونسيون على النزول إلى الشارع من كل عام لإحياء ذكرى “ثورة الياسمين”، إلا أن هذا العام مختلف، نظراً لما فرضته جائحة كورونا من فرض إغلاق عام في البلاد، وحظر للتجوال، والذي ضاعف حالة الغضب الشعبي على ما يبدو.

فقد تضافرت عدة ظروف مشكلة هذا الجو المحتقن في مقدمتها قرارات الحجر الشامل التي فاقمت من الوضع السيئ للعائلات الفقيرة التي تعيش على المدخول اليومي والنشاطات الجانبية وتفتقد إلى مدخول ثابت.

وكانت التوترات المتصاعدة أصلاً جراء الأزمة الاجتماعية العميقة التي فاقمها وباء كوفيد-19 ازدادت مع نشر عناصر الشرطة لفرض احترام حظر التجول الذي يبدأ في الساعة الرابعة بعد الظهر من الخميس إلى الأحد.

ولم تفلح أيّ من الحكومات الـ11 التي تعاقبت على البلاد بعد الثورة، على اختلاف طبيعتها ومكوناتها وبرامجها، في إطفاء لهيب الاحتجاجات التي تزداد وتيرتها بشكل سنوي، بسبب مطالب تتعلّق في مجملها بتوفير فرص عمل والتنمية شعارها.

وتشير إحصاءات إلى أن معدلات البطالة في تونس شهدت ارتفاعاً من 13% في عام 2010، إلى 18% في 2020، وإلى 35.7% بين فئة الشباب في وقت تسجل فيه البلاد ركوداً اقتصادياً بنسبة 9%، وعجزاً في الموازنة بنسبة 13.4%، وديناً عاماً يقترب من 90% من الناتج المحلي.

وفي مواجهة التراجع التاريخي لإجمالي الناتج المحلي (-9%)، لم تعد الدولة التونسية الغارقة في الديون قادرة على الحد من الأزمة الاقتصادية الخانقة.

كما أن موازنة 2021 تبدو صعبة الإنجاز مع انتهاء برنامج الدعم من صندوق النقد الدولي لتونس في الربيع.

وخلال أشهر الإغلاق الثلاثة العام الفائت، دفعت الدولة 140 يورو من المساعدات لكل عائلة فقيرة لكنها الآن باتت عاجزة.

ويبدو أن اعتماد الحكومات المتعاقبة في تونس ما بعد الثورة لنفس النهج الاقتصادي المعتمد في الثمانينات أفرز نفس الظروف والنتائج التي تقع تداعياتها على عاتق الطبقات الفقيرة التي تعاني أصلاً من أجل توفير متطلباتها اليومية.

المظاهرات في السنوات الماضية والتي تلت الثورة عادة ما كان يتم تنظيمها من شباب أحزاب معارضة أو حركات مدنية وكانت أهدافها واضحة. لكن المختلف هذه المرة أن هذه المظاهرات عفوية اندلعت بدون تنظيم مسبق من قِبل الشباب في الأحياء الشعبية الذين يرفضون أصلاً الأحزاب ولا يثقون فيها، وليس هناك اتصال بينهم وبين الطبقات السياسية.

ورغم أن التونسيين معتادون على القيام بالتظاهرات في أوقات متأخرة من الليل، لكن هذه المرة حدثت أعمال سلب ونهب كثيرة، ففي يوم واحد جرى سلب أكثر من خمسين مؤسسة اقتصادية وصناعية وتجارية.

وبين من يرى أن ذلك مرده إلى أن المحتجين ليست لهم مطالب واضحة، ويفتقرون لقيادة وتأطير ويستغلون الليل ستاراً لتنفيذ عمليات التخريب ونشر الفوضى، فإن تساؤلات ثارت حول وجود أطراف سياسية تستغلها لتحقيق مصالح خاصة وضيقة.

وتأكدت هذه الشكوك في تصريح للرئيس التونسي قيس سعيد، الإثنين الماضي، ناشد فيه الشباب عدم التعرُّض “للأعراض والممتلكات” خلال الاحتجاجات.

وحذر سعيد “ممن يسعى بكل الطرق إلى توظيفهم (المواطنين) والمتاجرة بفقرهم وبؤسهم، وهو لا يتحرك إلا في الظلام، وهدفه ليس تحقيق مطالب الشعب بقدر سعيه لبث الفوضى، ثم تجاهل الضحايا منهم”، دون توضيح المقصود بكلماته.

وتابع أن “إدارة الشأن العام لا تقوم على تحالفات ومناورات، بل على قيم أخلاقية ومبادئ ثابتة لا يمكن أن تكون موضوع مساومة أو ابتزاز، كما لا يمكن أن تكون الفوضى طريقاً إلى تحقيقها”.

وجاء ذلك في لقاء لسعيد مع مواطنين في منطقة المنيهلة شمال غربي تونس العاصمة، وفق بيان للرئاسة.

ولسد الباب أمام جهات تسعى على ما يبدو لاستثمار اللحظة ونشر مزيد من الفوضى، نفت الرئاسة التونسية، الأربعاء، أن يكون الرئيس قيس سعيّد قد اتهم يهود البلاد بالوقوف وراء الاحتجاجات الأخيرة واتهام أطراف لم تسمّها بالكذب والافتراء لتحقيق غايات سياسية عبر محاولة استثمار موقف تونس الرافض للتطبيع مع إسرائيل.

وقالت الرئاسة، في بيان، إن سعيّد “لم يتعرض لأي دِين، ولم يكن هناك أي داع يستسيغه أي عاقل لطرح قضية الأديان في ظل هذه الاحتجاجات، فضلاً عن أنه يرى أن هذه القضية غير مطروحة أصلاً في تونس”.

وأضافت أن سعيّد أوضح في مكالمة هاتفية مع كبير أحبار تونس، حاييم بيتان، أن اليهود التونسيين هم مواطنون يحظون برعاية الدولة التونسية وبحمايتها كسائر المواطنين.

كما اتهم بعض المسؤولين السياسيين “أحزاباً” لم يسمّوها بتدبير أعمال العنف ودعمها لزعزعة استقرار البلاد.

وأكدت مصادر أمنية حجز الوحدات الأمنية أقراصاً مخدرة وزجاجات حارقة (مولوتوف) كانت مُعدَّة “لمخططات إجرامية” لدى بعض الشباب المحتج، لافتة لمشاركة مجموعات من الأطفال والقصّر الذين تم الزج بهم في أعمال النهب والتخريب.

ويرى متابعون للشأن التونسي أن هناك من يريد أن يفشل حكومة هشام المشيشي، ويشيرون إلى أنه بعد نحو 11 دقيقة من إعلان رئيس الحكومة عن التعديل الوزاري اندلعت أعمال شغب ونهب وسرقة، وربما الأطراف التي كانت تدعم الحكومة السابقة برئاسة إلياس الفخاخ هي التي تسعى الآن إلى إسقاط الحكومة الجديدة.

وأدّت التوتّرات بين الأحزاب الممثّلة في البرلمان إلى إضعاف الحكومة التي أُجري عليها تعديل وزاريّ السبت لا يزال يتعيّن على البرلمان المصادقة عليه.

وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، عزا تونسيّون أعمال العنف هذه إلى فشل الطبقة السياسية في تحسين الأوضاع، ودعا آخرون إلى البحث عن “الجهات التي تقف وراء أعمال الشغب هذه” والتي أدت إلى “إحداث فوضى”.

تخيم على تونس أجواء مفعمة بالتشاؤم تزداد معها مشاعر التذمر لدى التونسيين فهي تعاني من أزمة مضاعفة تتمثل في طبقة سياسية منقسمة وبرلمان مشتت وأزمة اقتصادية خانقة فاقمها وباء كوفيد-19.

فعلى الأرض يبدو أن الوضع مرشح للتصعيد وأن الحل الأمني في الوقت الراهن هو الأمثل لوقف أعمال الشغب وإعادة الاستقرار.

أما على الصعيد الاقتصادي فالحكومة التونسية نفسها مرغمة على اتخاذ إجراءات بالغة الصعوبة للحصول على تمويل بحلول الربيع المقبل من صندوق النقد الدولي الذي يدفع نحو خفض الدعم على السلع الأساسية وبالتالي زيادة العبء على الطبقات الهشة، الأمر الذي سينجر عنه مزيد من التذمر الاجتماعي في ظل ارتفاع معدلات البطالة، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام مزيد من الاحتجاجات.

سياسياً أفرزت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في عام 2019 برلماناً مشتتاً، ما أفضى إلى صراعات داخل النخبة السياسية.

ولا تلوح في الأفق بوادر انفراجة قريبة للأزمة السياسية في وقت تحتدم فيه الخلافات بين الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، ورئاسة البرلمان وغياب المحكمة الدستورية أهم مرجع تعديلي في النظام السياسي.

ومن ثم يبقى الحوار الذي دعا إليه الاتحاد العام للشغل، صاحب التأثير القوي في الشارع، لتصحيح انحرافات الثورة وإعادتها إلى مسارها الحقيقي بريق أمل لرأب الصدع بين المكونات السياسية، وفي حال فشله سنشهد إسقاطاً للحكومة، وحلاً للبرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مسبقة على الأرجح.

وفي ظل تنامي منسوب التوتر والاحتجاجات في البلاد، تتزايد المخاوف من تدهور أمني وسياسي، قد يعصف بالديمقراطية الناشئة خصوصاً بعد ظهور أشكال جديدة لتنظيم الاحتجاجات، يطلق عليها “التنسيقيات المحلية” وتضم نشطاء وعناصر من خارج التمثيل المؤسساتي والحزبي وحتى النقابي، تحمل معها نُذر تحدٍّ كبير للمنظومة السياسية في البلاد.

يأتي هذا في ظل ارتفاع أصوات من أطياف يسارية أخفقت في الانتخابات وبعض وجوه النظام السابق ومؤسسات إعلامية نافذة، تحمِّل ما يُطلق عليه بـ”منظومة ما بعد الثورة” مسؤولية الأزمة السياسية والاقتصادية، وترفع مطالب متفاونة بين الدعوة إلى اعتصامات في شكل عصيان مدني وحل البرلمان أو إلى وقف العمل بالدستور أو تعديله لتغيير النظام السياسي من شبه برلماني إلى نظام رئاسي.

وفي ظل هذه الأجواء التي تشبه ما حدث في مصر عشية الانقلاب العسكري في 2013  قد تجد تونس نفسها مهددة بعودة محتملة للديكتاتورية.

وكالات