تطبيع العسكر في السودان وسراب السلطة
السياسية – مركز البحوث والمعلومات : خالد الحداء
خلال المراحل الزمنية المختلفة حظيت القضية الفلسطينية بدعم وتأييد مختلف مكونات الشعب السوداني، وكان الدعم للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ينطلق من كونه واجب ديني وقومي في المقام الأول، إضافة إلى أنها قضية نضالية عادلة في مواجهة أبشع احتلال شهده العصر الحديث، وبرغم من تعدد الأنظمة الحاكمة في السودان منذ استقلاله عام 1956 إلا أن توجهاتها الداعمة للحقوق العربية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لم تتبدل طوال تلك الحقبة.
ولكن ما حدث في 23 أكتوبر الماضي مع إعلان قادة الولايات المتحدة الأمريكية والسودان والكيان الصهيوني في بيان مشترك، عن تطبيع العلاقات ما بين السودان والكيان الصهيوني وإقامة علاقات دبلوماسية بينهما، أسقط تلك التوجهات التاريخية السودانية تجاه القضية الفلسطينية، وأمام هكذا متغيرات جذرية “غير منتظرة” يبقى السؤال: من يقف وراء التطبيع المزمع أقامته مع الكيان الصهيوني؟
مع سقوط نظام البشير في أعقاب تظاهرات واحتجاجات شعبية كبيرة، أعتقد الكثير من أبناء الشعب السوداني وبكثير من التفاؤل أن الثورة في طريقها إلى تحقيق أهدافها في الحرية والسلام والعدالة، ولا سيما بعد التضحيات الكبيرة التي قدمها الثوار قبل نجاح الثورة وبعدها.
خلال المرحلة التي أعقبت إسقاط نظام عمر البشير، كان التوافق على تقاسم السلطة خلال الفترة الانتقالية ما بين العسكريين والمدنيين “ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير” بحسب اتفاق دستوري ، وفي 21 اغسطس 2019 تم تشكيل مجلس سيادي يتولى مقاليد الحكم خلال فترة زمنية تمتد 39 شهر، وكان من الواضح أن بنود الوثيقة الدستورية أعطت الحكومة “القيادة الفعلية للبلد” فيما أُونيط بالمجلس السيادي والذي ترأسه الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” دور إشرافي واستشاري.
وفي ظل تلك الظروف الصعبة كان على السلطة الانتقالية في الخرطوم مواجهة الكثير من الملفات المعقدة والمتراكمة، وكان المسار الداخلي هو الاصعب ولا سيما إيقاف الصراع الداخلي مع التنظيمات المسلحة وإحلال السلام، وفيما يخص الملفات الخارجية كان ملف إعادة السودان إلى الوضع الطبيعي و دمجه في المجتمع الدولي بعد عقود من العقوبات والعزلة، على رأس الأولويات للحكومة السودانية برئاسة عبد الله حمدوك.
ومع مرور الوقت، بدء يتكشف أن أغلب الملفات الحيوية “في الحقيقة” يهيمن عليها العسكر بما فيها سلطة اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية والتي تعنى بحاضر ومستقبل السودان، وفي مقدمة تلك القرارات التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت مبرر أن السودان مقبل على مرحلة جديدة في علاقاته الدولية وأن التطبيع هو مفتاح ذلك الانفتاح على العالم.
جدير بالذكر، أن حالة الجدل التي سادت السودان خلال لقاء رئيس المجلس السيادي مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني في مدينة عنتيبي الأوعندية في فبراير الماضي، وما أعقبها من تصريحات مؤيده أو معارضة، كانت مقصودة وليست عفوية بغية جس النبض في المقام الأول ومن ثم تهيئة الشعب والنخب السودانية بما فيها المكون المدني “المشارك في السلطة الانتقالية” إلى حتمية تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، تحت مبرر أن رفع اسم السودان كدولة راعية للإرهاب مرتبط بموافقة السودان على إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني.
ويرى عدد من المراقبين السودانيين، أن ما حدث من جدل وإرباك داخل الأوساط السياسية السودانية ولا سيما المجلس السيادي، يأتي في إطار تجاوز ما كان من الصعب تجاوزه في الماضي القريب، بمعنى أخر، يعلم القائمين على السلطة الانتقالية في السودان أن تجاوز الخطوط الحمر “للشعب السوداني” سوف تقابل بالرفض من قبل المكونات السياسية والشعبية، وقد يصل الأمر إلى تقويض السلطة الانتقالية “القائمة” برمتها، ولهذا كان الرهان من قبل العسكر خلال الأشهر القليلة الماضية يرتكز على الآتي:
الأول/ انقسام المكون المدني
لم يعد خافياً على أحد أن المكون المدني المشارك في السلطة الانتقالية يعاني الكثير من الانقسامات الداخلية، حيث تعاني “قوى الحرية والتغيير” قائد الاحتجاجات الشعبية من تباين كبير في الرؤى ما بين مكوناته المختلفة وفي الكثير من القضايا والملفات، وخلال عام من تشكيل المجلس السيادي والحكومة كان من الواضح أن الخلفيات الايديولوجية لقوى الحرية والتغيير سوف تفرض نفسها على حاضر ومستقبل المكون المدني (الحاضن الفعلي لحكومة عبدالله حمدوك) برمته.
تشير الوقائع على الساحة السودانية أن ملف العلاقات الخارجية “ما بعد الثورة” ساهم إلى حدا كبير في توسع الخلافات ما بين مختلف الأطراف السياسية، وما حالة الاستقطاب التي تعيشها القوى المختلفة بشأن التطبيع مع الكيان الصهيوني سوى دليل على حالة الانقسام والتصدع في الوقت الحالي.
ثانيا / الاقتصاد :
شكل الوضع الاقتصادي المتردي ما قبل الثورة سبباً رئيسيا في تعزيز موجة الاحتجاجات على نظام الرئيس السابق عمر البشير، حيث كانت بداية الشرارة في تفجر الاحتجاجات في 19 من ديسمبر 2018م بمدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمال السودان، بسبب انعدام الخبز وارتفاع الأسعار وسوء الظروف المعيشية، ومن ثم توسعت الاحتجاجات والتظاهرات في مختلف مناطق السودان حتى تم إسقاط البشير ونظامه.
وبعد أكثر من عام على نجاح الثورة، مازال التردي الاقتصادي في البلد واقعاً معاشاً ولم تتبدل الاوضاع السيئة ولكنها اتجهت نحو الأسوء على غالبية الشعب السوداني، دون أن تتمكن حكومة عبدالله حمدوك من السيطرة على تفاصيل الأزمة الاقتصادية في مقدمتها: ارتفاع الأسعار التي تضاعفت خلال العام الماضي، بالإضافة إلى استمرار انهيار سعر الجنيه مقابل العملات الأجنبية حيث وصل سعر الدولار إلى 255 جنيها، وتشير الأمم المتحدة في هذا السياق إلى إن أسعار المواد الغذائية تضاعفت نحو ثلاث مرات خلال العام الفائت، وارتفعت كلفة الخدمات الصحية إلى نحو 90%.
وفي هذا الإطار، لم يخفي مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى الواقع الصعب للأوضاع الاقتصادية في السودان، حيث أشار المكتب الأممي إلى ان أكثر من 9.6 ملايين سوداني يعانون من انعدام شديد في الأمن الغذائي ويحتاجون الى مساعدات انسانية.
وأمام هكذا وضع، هناك من يرى أن الفشل الحكومي في إدارة الوضع الاقتصادي المتردي في السودان ساهم “إلى حداً كبير” في تعزيز سيطرة العسكر على مفاصل الحكم في البلد، وبالتالي فرض أجندتهم الخاصة على الداخل السوداني من خلال ربط تحسن الوضع الاقتصادي بقرار التطبيع، وفي هذا الإطار يشير المحلل السوداني عباس أحمد “أن السلطة في الخرطوم تقوم بعملية تشويش وخداع وإخفاء للحقائق حول اتخاذها قرار مصيري دون العودة للشعب”، ويؤكد عباس بقوله ” هناك انقسام حاد في السودان تجاه التطبيع وأن هناك تشويش من خلال تركيز الحديث عن الفوائد المرتبة على إزالة اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب”.
ثالثاً / الدعم الخارجي
منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في 11 أبريل 2019، كان من الواضح أن الثورة أمام اختبار صعب في كيفية إقناع العسكر بضرورة البقاء في ثكناتهم بعيداً عن السلطة والحكم، ولكن ما حدث من تنازع وصدامات في أعقاب نجاج الثورة ما بين الثوار والجانب العسكري أفضى إلى دخول الوساطات الخارجية على خط الأزمة للوصول إلى تسوية مناسبة، وهو ما كان فعلاً بعد مفاوضات طويلة، حيث كان الاتفاق ما بين القائمين على الثورة “قوى الحرية والتغيير ” والعسكر على تقاسم السلطة خلال المرحلة الانتقالية، غير أن الأحداث خلال الأشهر الماضية كشفت دون شك أن واقع تقاسم السلطة لم يكن سوى التفاف على مطالب الثورة، وأن الوقائع تشير إلى أن المكون العسكري في السلطة الانتقالية يسيطر على زمام الأمور خاصة مع الدعم الإقليمي من قبل الإمارات والسعودية، وكانت المغامرات الخارجية بما فيها مأزق التورط في الحرب العبثية على اليمن، والتدخل في الصراع الليبي، بمثابة الدليل على سيطرة العسكر أصحاب القرار الفعلي.
وفي هذا السياق، يمكن قراءة أن هرولة العسكر في السودان تجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني يحمل مجموعة من الأهداف منها: البحث عن داعم خارجي من أجل مزيد من السيطرة على الحكم في السودان، بالإضافة إلى إمكانية إسقاط الاتهامات الدولية والمحلية بحق مجموعة من القادة العسكريين والمشتبه في تورطهم بعدد من جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان (دارفور – فض اعتصام محيط قيادة الجيش) ثالثاً: موافقة بعض أحزاب المكون المدني المشارك في السلطة الانتقالية على التطبيع مع الكيان الصهيوني عزز من فرص الانقسامات الداخلية، ولا سيما وأن التوجهات الايديولوجية داخل المكون المدني متباينة في عدد من القضايا وتحديدا فيما يخص مناصرة القضية الفلسطينية تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وأمام هكذا أهداف فإن التطبيع تعد صفقة لا يمكن تفويتها بأي حال من الأحوال لدى المكون العسكري الحاكم.
ويرى مراقبون، أن التطبيع ليس هدفاً بحد ذاته، ولكنه يأتي في أطار لعبة المحاور الإقليمية، فمنذ قيام الثورة كان من الواضح أن التدخلات الخارجية سوف تشكل ضغط إضافي على السلطة الانتقالية، وهو ما حدث في الأيام الأولى بعد نجاح الثورة حيث كانت التوجهات الجديدة تشير إلى أن الخرطوم سوف تنأى بنفسها بعيداً عن طهران في سبيل التقرب من واشنطن بعد سنوات من القطيعة.
يشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية أدرجت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ العام 1993 بتهمة إستضافة زعيم تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” وفرضت واشنطن مجموعة من العقوبات على الخرطوم مع نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي وتوسعت تلك العقوبات مع بداية النزاع في إقليم دارفور عام 2003.
وفي الوقت الحالي والعقوبات الأمريكية في طريقها للإنتهاء بعد أن وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إزالة دولة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد أن حولت السودان أموال التعويض للضحايا الأمريكيين (تعويضات ضحايا تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا عام 1998- تعويضات ضحايا المدمرة “يو إس كول” عام 2000)، يمكن القول أن جميع المؤشرات تؤكد إلى أن المكون العسكري في طريقه للانخراط ضمن المحور الأمريكي “السعودية والإمارات والبحرين ومصر وإسرائيل” وفي مختلف مشاريعه السياسية والعسكرية، غير أن ادخال السودان ضمن المشاريع الاقتصادية يبقى محل شك، والسبب في ذلك أن القائمين على المؤسسة العسكرية في السودان لا يعنينهم المصالح الاستراتيجية للدولة السودانية بقدر ما يعنيهم البقاء على رأس السلطة .