دور المصطلح في خدمة مشاريع الفوضى
كما يكون لكل معركة أسلحتها وجنودها وقادتها لوضع خطط الهجوم، فقد تولت منظمات عربية غير حكومية مهمة الجنود، فيما تولت منظمات دولية مهمّة التّخطيط.
مشهور سندس*
“لا تحتاج الولايات المتّحدة إلى الانتصار في الحروب. كلّ ما تحتاجه بكلّ بساطة هو إغراق الآخرين في الفوضى، بحيث لا يمكنهم إعادة إنتاج ما يكفي من القوّة لتشكّل تحدّياً لها”.
هذه المقولة كتبها جورج فريدمان في كتابه “الأعوام المائة القادمة”، وهي منسجمة تماماً مع ما تعيشه أغلبية الدول العربية منذ ما قبل العام 2011، فعالم ما بعد هذا التاريخ شهد من الفوضى ما لم يكن بحسبان فريدمان نفسه، إلّا أنه عصر يحتاج إلى مصطلحات ومفاهيم جديدة تكون ضابط إيقاع هذه الفوضى التي تولت الإشراف عليها مؤسسات بحثية دولية ترسم بشكل أو بآخر ملامح الحرب الناعمة/البديل من النصر في المعركة التقليدية. وكما يكون لكل معركة أسلحتها وجنودها وقادتها لوضع خطط الهجوم، فقد تولت منظمات عربية غير حكومية مهمة الجنود، فيما تولت منظمات دولية مهمّة التّخطيط.
من هنا، بدأت الحرب الناعمة بتعبئة قواتها بمفاهيم جديدة ولغة جامعة تستخدم في كل ساحة من ساحات الحرب، إذ إنّ لكل موجة مر بها التاريخ لغتها ومفاهيمها الجديدة. وبما أنّ ما سمي بـ”الربيع العربي” هو جزء من مرحلة الموجة الرابعة في التحولات في العالم، وكما كان لمعهد الأتوبور ( (auto-powerدور في الثورات البرتقالية، وفي التحضير لما سمي “ربيعاً عربياً”، برز دور قيادي للمعهد الديموقراطي الوطني للشؤون الدولية “NDI”، ليكون المشرف على التعبئة، بالتعاون مع “برنامج لبنان المواطن: برنامج التربية المدنية وشؤون المدافعة”، الذي ضمَّ 7 منظمات غير حكومية، أبرزها مركز “الدراسات الاستراتيجية” للشرق الأوسط وحركة “السلام” الدائم، إضافةً إلى مجموعة من المستشارين من الأردن ومصر والعراق والمغرب ومدينة غزة الفلسطينية واليمن، وشخصيات أميركية وأوروبية، ليقدموا لجنودهم ما أطلقوا عليه عنوان “مصطلحات المشاركة المدنية” (Civic Participation Terminology)، وهو دليل المصطلحات والعبارات الشائعة، الذي تعود حقوق نشره لصالح “NDI” في العام 2009، أي في سنوات الإعداد والتخطيط للفوضى التي تحدّث عنها فريدمان.
واليوم، يعدّ هذا الدليل بمصطلحاته، وعددها 250، السمة الأبرز لعمل المنظمات غير الحكومية، وباتت تعقد الورش تحت العناوين التي وردت فيه. وقد أصبح جزءاً من أدبيات معظم هذه المؤسّسات.
ومن المصطلحات البارزة الكثيرة الاستخدام في الوقت الراهن:
أولاً: نسج/إنشاء الشبكات Networking
عرَّفه الدليل بأنه العملية التي تقوم على إنشاء علاقات جديدة من أجل إشاعة الوعي حول أيّ منظمة أو قضيّة أو مسار. إنّ نسج الشبكات يشكّل أحد المقومات الأساسيّة لحملات المدافعة، ويرمي إلى إعطاء الزخم لأيّ مسار وتشجيع المشاركة فيه بشكل واسع.
تُرجم هذا المصطلح في أرض الواقع من خلال أنشطة عديدة، أبرزها الورش والدورات التدريبية التي عجَّت بها قاعات عدة في عواصم عربية مختلفة، وأشرفت عليها مجموعات تفكير أميركية أوروبية، لتكون نتائجها حملات تحت العنوان ذاته في كل عاصمة من عواصم دول المشاركين فيها، مثل الحملات المدافعة عن حقوق المرأة وحملات مناهضة العنف وحملات حماية البيئة… إضافةً إلى استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لتكوين منصات يشارك فيها جميع أعضاء هذه الحملات.
ومن نماذج النسج أيضاً رعاية ودعم مشاريع حكومية من قبل منظمات غير حكومية دولية، إضافةً إلى رعاية المبادرات الشبابية التطوعية، وتحويلها إلى جزء من شبكات أكبر مرتبطة بمؤسّسات أوروبية وأميركية.
ثانياً: حياد/حيادية (Neutrality)
هذا المبدأ يتبعه كلّ نظام أو بيئة لا تفضّل حلاً بديلاً على آخر أو نتيجة معيّنة على أخرى، وهو ما نراه ونلمسه اليوم من حالة تشتيت الوعي بالقضايا اليومية، وخصوصاً القضايا المتعلقة بالصراع. وليس ثمة أبلغ من أن ترفع قوى وتيارات سياسية كبيرة هذا الشعار (الحياد) في قضية مثل قضية الاعتداء على دولة عربية، أو تتبناه منظمة غير حكومية لتقدمه من خلال مؤسسات مجتمع مدني أكبر لحكوماتها، لاتخاذ مواقف سياسية تنسجم مع مشاريع الهيمنة وقوى النهب، أو يمارس الاحتلال الصهيوني غطرسته في أحد الشوارع أو القرى الفلسطينية، بينما تخرج في مدينة فلسطينية مجاورة تظاهرة للمطالبة بالحدّ من العنف ضد المرأة أو الطفل أو قضية عمالية محلية، أو يرفع شعار “كلن يعني كلن” في لبنان، لما له من مدلول باستهداف القوى المناوئة للهيمنة.
ومن الأمثلة الصّارخة أيضاً على الحياد هو ما تمارسه المنظمات غير الحكومية العاملة مع اللاجئين السوريين، فمخيم اللاجئين بالنسبة إليها هو منطقة عمل تُنفّذ فيها العديد من البرامج تحت بند التمكين والمشاركة وتنمية المواهب.
في المقابل، تقوم هذه المنظّمات بتسهيل عمل المراكز البحثيّة الكبرى في أداء مهام تأخذ في النهاية شكل تقرير سياسي، وهي بصفتها منظّمات وكيلة تبذل جهدها لدمج اللاجئين في البيئة الحاضنة، من دون أن يكون لأي منهم أي موقف سياسي حيال ما جرى ويجري في وطنهم الأم، بعد أن تكشفت حقيقة وهم الثورة، وتجلّى العدوان بقانون قيصر.
ثالثاً: غير حزبيّ/غير متحيّز أو منحاز (Non-Partisan)
هذه الصّفة تدلّ على ما يرتبط بجميع الأحزاب أو لا يرتبط بحزب معين، فالانتخابات التي لا تتخذ طابعاً حزبياً تشير إلى انتخابات لا ينتمي المرشحون فيها إلى أحزاب معينة، ولا تأتي ورقة الانتخاب على ذكر الأحزاب. أما المنظمة غير المنحازة، فهي تلك التي تحول دون ارتباط اسمها بحزب معين أو التي تتعاطى مع عدة أحزاب، تفادياً لربطها بحزب معيّن.
هذا الأمر يترجم تحديداً في الانتخابات البرلمانية الأردنية، وفق قانون الانتخابات المعمول به، وشكل القائمات الانتخابية وعلاقتها بالأحزاب، فنجد ما يسمى بتنسيقية أحزاب المعارضة يشارك في قائمات انتخابية من دون أن تحمل اسم الأحزاب، والاكتفاء بإشارة كل حزب إلى مرشحيه عبر منشورات خاصّة به، وقائمات أخرى مدعومة من منظمات غير حكومية يعمل بعض المرشحين فيها.
كذلك، توجد علاقة بين بعضها وبعض الأحزاب والمنظمات النسوية والحقوقية القانونية التي تسهم في عملية إنجاح المشاركة في الانتخابات، وتمارس دوراً رقابياً على الأداء في فترة الترشح، وهي بذلك تمارس دور المنظمات التي تطرق إليها الدليل ضمن “منظمات أو مجموعات محلية غير منحازة موكلة بمراقبة الانتخابات”.
رابعاً: تحرّك عامّ (Public Action)
هي إحدى الخطوات التكتيكيّة التي تُتّخذ في إطار حملات المدافعة، إذ يجري تنظيم حدث أو مناسبة عامّة من أجل لفت انتباه الشعب إلى قضيّة معيّنة. ويمكن أن يتّخذ هذا التحرك عدة أشكال، كالمهرجانات والمسيرات والعروض المسرحية في الشوارع…
وقد برزت هذه المظاهر في كل ميدان عربي في عاصمة عربية شهدت تجمهراً في الشارع بعد العام 2011، من القاهرة إلى عمان وبيروت، إلى بغداد وتونس والجزائر. ويعدّ الحدث اللبناني الأخير في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 2019 خير مثال على ذلك.
خامساً: المدافعة (Advocacy)
يعدّ هذا المصطلح أو العبارة، في تفسيره، عنواناً بارزاً تنضوي تحته جميع المصطلحات الأخرى، بل يمكن اعتباره كلمة السر لعمل عملاء منظمات غير حكومية دولية تعمل في الوطن العربي، وتنصاع إلى مشاريع الممول الأجنبي ورعايته لها، إذ جاء في الدليل، تفسيراً له، أنه “عملية التأثير في المداولات والإجراءات والسياسات المتعلقة بمؤسَّسة الحكم.
وتتمثل هذه العملية التي يقودها عادة المجتمع المدني والمواطنون بسلسلة خطوات استراتيجية تنظّم على فترة زمنية معينة، وتهدف إلى إحداث التغيير المطلوب، من خلال المشاركة السياسية لمعالجة القضايا المطروحة. وتنظم حملات المدافعة للدفع باتجاه التغيير الذي يأخذ مثلاً شكل المطالبة بحق الوصول إلى المعلومات، وممارسة الضغوط من أجل صون مبدأي المساءلة والشفافية، ولفت انتباه المسؤولين الرسميين إلى المشاكل التي تعانيها المؤسسات الديموقراطية”.
وبذلك، تكون فوضى العناوين جزءاً من النتيجة التي ذهب إليها فريدمان في حديثه عن الفوضى، إذ إنّ معركة الشّعوب تحوّلت إلى معركة مع ذاتها وأنظمتها السّياسيّة، وأبقتها مستوعباً لمفاهيم العصر الأميركيّ القادم الّذي يخطّط له كجزء من مشروع هيمنة قوى النّهب أولاً.
ثانياً، هذه الأعداد من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية باتت قوّة الاحتلال الأبرز في الحرب الناعمة في كل عاصمة عربية تكاثرت فيها وتم تهيئة المناخ لعملها، بل إنَّ منها ما تغلغل داخل قوى حزبيّة تقليديّة مؤدلجة، واستطاع أن يغيّر سلوكه وسياسته، لتتحقّق شروط ما بعد الإيديولوجيا وعالم ما بعد الدولة الوطنية أو القومية، وهي الهدف الأساس لقوى النهب، ولمستقبل الموجة الخامسة من التحول الذي يفترضه فريدمان وكيسنجر وغيرهما من منظري ومبشري النظام العالمي الجديد.
إلا أنّ رهاننا كشعوب عربية سيبقى على محور المقاومة العربي وحلفائه الَّذين يبرهنون على أنَّ الموجة الخامسة ستتحطَّم بالإرادة والإيمان بالحقّ والدفاع عن الأرض وسيادتها والإنسان وكرامته، ما سيحيل جنود الحرب الناعمة وبيادقها إلى مخلفات تعاني البطالة، بعد أن اعتادت الترف المادي والمعنوي الذي كانت توفره لها المشاريع، وقد نجد إكليلاً من الخيبات فوق قبر جين شارب، إن بقي من يفكّر في زيارة قبره.
* المصدر : الميادين نت