قراءة إقليمية للوضع المحلي في اليمن
إبراهيم نوار*
ينبئنا الحال في عدن وفي صنعاء، عن الوضع الحقيقي لمآل الصراع في اليمن حتى الآن، بين القوى الإقليمية المتنافسة على النفوذ في شبه الجزيرة العربية.
عدن في الجنوب هي العاصمة الإسمية لحكومة «الشرعية» التي يقودها رسميا الرئيس عبدربه منصور هادي، بينما العاصمة الفعلية هي الرياض، والمتصرف في شؤونها هو السفير السعودي محمد الجابر، الذي يدير مسرح العمليات في اليمن، من عاصمة السعودية.
أما صنعاء في الشمال، التي استقرت فيها الأمور للحوثيين الزيود، الذين يتخذون من تنظيم» أنصار الله» رداء سياسيا لهم، فإن الأوضاع فيها تكشف عن كفاءتهم النسبية في الإدارة، ومقاومة الضغوط واستثمار الوقت، ومحاولة تقديم نموذج عصري للدولة الدينية، بما أدى حتى الآن إلى استقرار الأمور في أيديهم، وسط استتباب للأمن، واستقرار نسبي للأحوال المعيشية، يعبر عنها رمزيا، الاستقرار النسبي لقيمة الريال اليمني القديم في الشمال، وتدهورها للريال اليمني الجديد في الجنوب.
الوضع الاقتصادي في الشمال لا يمكن وصفه بـ»المزدهر» لكنه، مقارنة بالجنوب، يمثل حالة أفضل، إلى درجة تثير مشاعر الحسد عند العدنيين، رغم المساعدات السعودية والإماراتية، ما يستدعي إعادة قراءة المشهد العام المحلي، على ضوء المتغيرات الإقليمية.
تقول الحقائق على الأرض إن الدعم الإقليمي لـ(الشرعية) و(الانتقالي) جعل منهما خصمين متنازعين، وليس قوة موحدة، فالسعودية تستخدم (الشرعية) غطاء لتمكين حزب الإصلاح الإخواني، والإمارات تستخدم (الانتقالي) جسرا لإعادة خلق نظام عسكري على غرار نظام علي عبدالله صالح، ولذلك فإن الجنوب لن يسلم من عبث المؤامرات الإقليمية، وهو يحاول التعايش معها نظرا للمحنة الحقيقية التي يعيشها اليمنيون هناك، التي تكتسب أبعادا اقتصادية وإنسانية وأمنية، جعلت من الصومال ملاذا، بعد أن كانت عدن هي ملاذ الصوماليبن اللاجئين. الحسابات الصغيرة الضيقة مثل المناصب والحقائب الوزارية، والحصص من المساعدات، تسيطر على العلاقات بين (الشرعية) و(الانتقالي) في غياب ما يمكن أن نطلق عليه (المشروع اليمني) الذي ينطلق من رؤية واضحة للمستقبل، والمستند إلى مقومات القوة الذاتية.
التوصل إلى تسوية سياسية للصراع في اليمن يتجاوز دور المبعوث المكلف من الأمين العام إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن
المجلس الانتقالي، والشرعية في ناحية، و(الحوثة) أو (أنصار الله) في الناحية المقابلة، يمثلون بمكوناتهم المتنوعة أهم عناصر المشهد المحلي في اليمن. لكن المحركات الفعلية تتجاوز الأطراف المحلية إلى ما وراء الحدود اليمنية، سواء في الشمال أو في الجنوب، حيث أن القرار في صنعاء يتأثر بطبيعة الوضع الإقليمي، وفي القلب منه الصراع السعودي – الإيراني، ورغبة إيران في المحافظة على مكان ومكانة للمسلمين الشيعة في مهد الإسلام، كانت قد حافظت عليهما الدولة الإمامية المتوكلية الزيدية لقرون طويلة مضت، ويحاول الحوثيون من ناحيتهم تقديم صورة عصرية حديثة للدولة الإمامية تحت قيادة جديدة وبدعم إيراني.
أما في الجنوب فإن السلطات الفعلية تتوزع بشكل غير متوازن بين من يحملون الأسلحة الثقيلة وغيرهم، ويتصدر المشهد حكومة (الشرعية) والمجلس (الانتقالي) وحزب (الإصلاح) الإخواني الذي ترعاه السعودية، المستند إلى قوة علي محسن الأحمر نائب هادي. كما يضم المشهد في الساحل الغربي، بقايا قوات موالية لنظام الحكم السابق، يقودها طارق صالح المدعوم إماراتيا. هذه القوى جميعا تعاني من خلافات حادة في المصالح في الأجل القصير، ولا تملك رؤية مشتركة في الأجل الطويل. وتلعب كل من السعودية والإمارات، دورا رئيسيا في صنع القرار على المستوى المحلي، بما لهما من ثقل عسكري واقتصادي. وفي التحليل النهائي يمكن القول بأن السعودية تستخدم هادي ستارا لتثبيت دعائم حكم الإخوان، بينما الإمارات تستخدم (الانتقالي) بقيادة عيدروس الزبيدي رأس جسر لنسخة جديدة من النظام الديكتاتوري العسكري، الذي كان يقوده علي عبدالله صالح.
سلطنة عمان الجار الشرقي لليمن حافظت على علاقات تاريخية ودية مع قبائل محافظة المهرة اليمنية المجاور لصلالة، وتشعر قيادات هذه القبائل بالقرب للسلطنة أكثر من القرب للسعودية المجاورة من الشمال. وقد أقامت السعودية معسكرات لقواتها، وتنصيب قيادات محلية موالية لها في المهرة، ما أدى إلى انفجار صدامات محلية بين القبائل وتلك القيادات، وانتشار حالات من الغضب والاحتجاج على الوجود العسكري السعودي الثقيل، أدى إلى بلورة مجلس سياسي للإنقاذ الوطني في الجنوب. ويهدف الوجود السعودي العسكري والسياسي في المهرة إلى تحويلها لمنطقة نفوذ، واستخدام ميناء (نشطون) والسواحل الممتدة على بحر العرب، ممرا للتجارة وأنابيب تصدير النفط والغاز السعودي، لتقليل الاعتماد على مضيق هرمز.
وقد بدأت السعودية منذ أكثر من عام تطوير ميناء (نشطون) لاستقبال الناقلات، كما قامت بإنشاء طريق مسفلت يربطه بمنفذ (خرخير) الحدودي السعودي. وتقوم شركة أرامكو بإجراء بحوث ودراسات لمد خط أنابيب لتصدير النفط مواز للطريق، بعد أن تم إنشاء خزانات نفط ضخمة في مدينة خرخير، التي تم إخلاؤها تقريبا من السكان، تمهيدا لنقل النفط السعودي إلى الأسواق الخارجية من هناك. وتتولى القوات السعودية المتمركزة في المهرة حماية مناطق عمل أرامكو داخل اليمن. الدور السعودي في المهرة من شأنه أن يفجر صراعا جديدا في المنطقة مع سلطنة عمان، المشغولة منذ وفاة السلطان الراحل قابوس في توطيد دعائم خليفته السلطان هيثم بن طارق، الذي تقوم إدارته حاليا ببلورة سياسة اقتصادية وخارجية، تستجيب للتحديات الراهنة في المنطقة.
وما يزيد حساسية الموقف بالنسبة للسلطنة هو وجود سباق سعودي – إماراتي على النفوذ في جزيرة سقطرى، التي تكتسب موقعا استراتيجيا في طرق التجارة البحرية بين سلطنة عمان والمحيطات المفتوحة إلى شرق افريقيا، وإلى الهند وشرق آسيا.
وقعت القوى اليمنية المتناحرة، خصوصا الجنوبية منها، في وهم المبالغة في تقدير قوة ونفوذ الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، وللدور الذي يقوم به في «إدارة الصراع».
وربما أفلت أنصار الله من هذا الوهم، بأنهم أدركوا أن دوره السياسي يتمثل أساسا في ضمان عدم تأجيج الصراع، إلى الدرجة التي تهدد بحدوث انتكاسة جديدة في الوضع الإنساني بعناصره المختلفة، خصوصا ظواهر النزوح والمجاعة وانتشار المرض. وهو ما يستدعي من المبعوث الدولي بذل مجهود على محاور وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وتقديم الإغاثة الإنسانية الغذائية والدوائية، والعمل على بقاء القنوات مفتوحة للحوار بين الأطراف المخاطبة بقرار مجلس الأمن 2216. أما التوصل إلى تسوية سياسية للصراع في اليمن فإنه يتجاوز دور المبعوث المكلف من الأمين العام إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن.
ومع كل تقديري للدعوة بأن يلعب جريفيث دورا أكبر في «المسألة الجنوبية» فإن تركيز المبعوث الدولي سيظل منصبا على التوصل الي تسوية بين الحوثيين والحكومة المدعومة من السعودية. هذا يعني انه كلما زاد اقتراب جريفيث من تحقيق مكاسب جزئية في الحوار بين حكومة (الشرعية) والحوثيين، تضاءل وزن المسائل الجنوبية بشكل عام. ويعزز من ذلك وجود الانقسام الجنوبي وزياده حدة الاستقطاب السياسي بين أنصار السعودية وأنصار الإمارات. ويتطلب وضع مسألة الجنوب على جدول أعمال جريفيث أولا وجود صوت واحد للجنوب، وثانيا أن يثبت هذا الصوت الواحد أنه مؤثر وحاسم في التسوية السياسية.
ونظرا للتقلبات الإقليمية الحالية، فإن اليمن سيظل بمثابة قطعة على طاولة الشطرنج تتحدد أهميتها بمقدار دورها في التأثير في هذه التقلبات، خصوصا في إعادة توجيه الدور الإيراني في المنطقة، إما باستمرار التضييق على الحوثيين سياسيا وعسكريا، وإعلان تنظيم أنصار الله منظمة إرهابية مثله مثل (الحرس الثوري) و(حزب الله) و(الحشد الشعبي) بهدف تصفية النفوذ الإيراني في شبه الجزيرة العربية، أو باستخدام سياسة الجزرة بدلا من العصا، وفتح أبواب للتعاون معهم، عبر قنوات متعددة، بما يؤكد على بقائهم على رأس السلطة في اليمن، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تخفيف اعتمادهم على إيران، وإبعادهم عن فلكها. وقد احتاطت إيران لكل من الاحتمالين بإرسال أحد كوادر الحرس الثوري الإيراني ليكون سفيرا لها في صنعاء.
ومن الصعب تصور وجود ما يمكن أن نطلق عليه «المشروع اليمني» بدون أن نأخذ في الاعتبار الحسابات الدولية والإقليمية ومتغيراتها، خصوصا أدوار كل من إيران والسعودية والإمارات. ويزيد تأثير هذه القوى كلما كانت القوة الذاتية اليمنية ضعيفة، وهي تبدو الآن أكثر ضعفا في الجنوب عنها في الشمال. لكن المعضلة التي يواجهها الجنوبيون هي أن نفوذ العوامل الإقليمية بينهم يسير في اتجاهات متضاربة، وليس في اتجاه واحد، وهو ما يتطلب تحقيق شرط من اثنين، إما تعزيز القوة الذاتية اليمنية وفتح الباب لحوار يمني – يمني، من أجل التوصل إلى صيغة جديدة للعلاقات بين الشمال والجنوب. أما الشرط الآخر فهو فوز طرف إقليمي بانتصار ساحق مع حلفائه المحليين، بما يمهد الطريق للسير في طريق المشروع الإقليمي لهذا الطرف، سواء كان السعودية أو الإمارات، أو إيران، أو حتى سلطنة عمان، التي ما تزال تلعب دورا خجولا في المهرة. بغير ذلك سوف تستمر الأزمة اليمنية تراوح في مكانها، هذا يبحث عن نفوذ أكثر وذاك يعمل على تحطيم نفوذ الآخر.
* كاتب مصري
* المصدر : القدس العربي
* المادة تم نقلها حرفيامن المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع