إيهاب شوقي*

تبدو الأوضاع في مصر متجهة بقوة نحو تصعيد وعدم استقرار، يكسر قاعدة الركود المسيطرة منذ ست سنوات لأسباب متفاونة، بعضها طوعًا وتأييدًا، وبعضها اكراهًا وخوفًا، والمتبقي كان قناعة بانعدام البدائل الآمنة.

ولكن خروج التظاهرات من القرى وضواحي المدن هذه المرة بما يشكل سابقة جغرافية رغم قلة الأعداد، هو جرس انذار بأن كرة الثلج تتدحرج نحو انتفاضة شعبية كبيرة، تنذر طريقة التعاطي الراهنة في مواجهتها من قبل السلطة بتفاقم للازمة لا احتواء لها.

أولا: في توصيف ما يحدث

تشهد مصر وضعًا غير مسبوق من التناقض بين العنوان والمتن، وتمر بأخطر منحنى للنظام الجمهوري منذ تدشينه عقب ثورة يوليو المجيدة، فقد رسخ في الأذهان أن سوء الأوضاع الاقتصادية وغياب الحريات واحتكار الاعلام والصحف والقمع، انه متلازم مع النظام الجمهوري، وتلاقت حقائق ما يحدث مع افتراءات وجهت لثورة يوليو والمرحلة الناصرية رغم ما شهدته من تجازوات اعترف بها الزعيم عبد الناصر شخصيَا وحاول اصلاحها في أعقاب النكسة وعمل عملًا جادًا لازالة آثار العدوان واعادة بناء الجيش بالتزامن مع تصفية مراكز القوى واصلاح التجاوزات.

الا أن التجاوزات ما لبثت أن عادت واستفحلت وصاحبها عامل جديد يتمثل في فساد مالي لم يكن موجودًا في حقبة جمال عبد الناصر، وتركز الفساد في طبقة اجتماعية ساندت التحولات الاستراتيجية الضخمة التي أخرجت مصر من محور التحرر الوطني الى محور المهادنة والتبعية للامريكان.

وبعد انتفاضة شعبية كبرى نجحت في الاطاحة بنظام الرئيس الاسبق حسني مبارك، وانتفاضة أخرى أطاحت بحكم الاخوان والرئيس الراحل محمد مرسي، توجهت الأنظار لنظام الرئيس السيسي باعتباره المنقذ، الا أن النظام خيب آمالها وفوجئت الجماهير بتردي الأوضاع وتخطي جميع الأسقف الاجتماعية والاقتصادية التي لم يجرؤ نظام سابق على تجاوزها.

الى جانب هذه الصدمة الجماهيرية، فإن القوى السياسية تم تصفيتها معنويًا وتنظيميًا، وأصبح الواقع السياسي خاليًا من السياسة، وتناقضت جميع التوجهات السياسية والايدلوجيات مع توجهات النظام، فبينما تناقضت القوى الليبرالية مع النظام على خلفية احتكار السياسة والرأي، تناقضت قوى اليسار مع النظام لتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية، وتناقضت القوى القومية والناصرية وأصحاب القضية الوطنية والمنحازين للثوابت مع التوجهات المفرطة في المقاومة والمخيبة لآمال الفلسطينيين، والتبعية والتماهي الغير مسبوق مع الخليج وخاصة الامارات والسعودية.

أصبحت السياسة في مصر مركزة في نظام حوله طبقة اجتماعية ضيقة من المنتفعين ومن ذوي الياقات البيضاء من المتشبعين بالثقافة الامريكية وخريجي جامعاتها من المنفصلين عن الشارع المصري وثقافته ووجدانه، الى جانب بقايا تيارات يسارية وناصرية انتفعت من النظام والتحقت بمؤيدية تحت دعاوى الوطنية واستلهام الدعاوى الناصرية وتطبيقها على نظام لا علاقة له من قريب او بعيد بعبد الناصر وتوجهاته!

الخلاصة أن الجماهير كفرت بالسياسة وقواها وتنظيماتها، كما كفرت بالاعلام، واتجهت قطاعات كبيرة الى قنوات اعلامية خارجية ذات توجهات اخوانية، تخلط بين الحقائق على الأرض والأكاذيب في التاريخ، حيث تجمع بين الأنظمة كلها في بوتقة واحدة، فوضعت نظام عبد الناصر المقاوم مع أنظمة كامب ديفيد تحت عنوان (دولة يوليو)، ووضعت الانظمة الراهنة مع النظام السوري المقاوم تحت شعار (انظمة القمع والطغيان)، وهذه الحالة الجماهيرية لا توجد احصاءات او وسائل قياس دقيقة لمعرفة مدى تغلغل الافكار لديها، وهل هي تثور على القمع والفساد ولأسباب مطلبية فقط، أم تثور على النظام الجمهوري في ذاته!

لكن الواضح من الحراك الجماهيري المتناثر والمتصاعد في آن واحد، أنه غير مؤدلج وأنه موجه للنظام وغير معني بالبديل، بل التحرك لتغيير الامر الواقع مهما كانت النتائج.

وان حاولت قوى بعينها مثل تيار الاخوان ركوب الحراك كنوع من الثأر على قاعدة (يوم بيوم بدر)، الا أن الدلائل على قيادة التنظيم للتظاهرات لا تتوفر وخاصة أن منطلقات الحراك تؤشر على رد فعل مباشر على قانون التصالح للمباني التي شكلت تعديات وما صاحبه من هدم للبيوت وفرض غرامات باهظة وسط غلاء ورقع يد الدولة عن الدعم في كافة الخدمات بشكل غير مسبوق، مما شكل قشة قصمت ظهر البعير او شرارة لانفجار غضب متراكم له ما قبله من عوامل وضغوطات كان من المستغرب تحملها والصبر عليها.

ثانيا: دلالات الحراك

1- من الثوابت في علوم الاجتماع والديموغرافيا، أن المجتمعات النهرية تميل نحو الاستقرار، ولا شك أن القرى التي شكلت طليعة هذا الحراك هي ممثل لهذه المجتمعات والتي كان يصعب خروجها في أي انتفاضات جماهيرية، والدلالة المباشرة لخروج هذه المجتمعات هو أن الاستقرار ليس استقرارًا وأن الوضع غير قابل للاستمرار.

2- خروج الصبية والشباب حديثي السن والذين كانوا اطفالا وربما لم يولد بعضهم ابان انتفاضة يناير في مصر، يشي بأن جيلًا نشأ على ما يشبه الثابت الوطني بأن النظام عدو لهم، وهو ما يذكرنا بخروج الأطفال في مصر وفي الوطن العربي للتظاهر ضد حكم الاحتلال، وهي ظاهرة وطنية خطيرة لا بد وان تكون محل اعتبار ودراسة.

3- التعالي الذي تنظر به القوى السياسية أو بعض المسيسين للحراك أو حصره في خانة المؤامرة، هو تأكيد لانفصال القوى السياسية عن الجماهير وفشلها المتتابع في قراءة الشارع والتواصل معه وفهم تطوراته.

ثالثا: السيناريوهات المتوقعة لمسار الأحداث

هناك عدة سيناريوهات تتوقف على تعاطي السلطة من جهة، وعلى تطور الحراك من جهة أخرى، فإذا ظلت السلطة على حالة الانكار وتخوين الحراك واتباع أسلوب القمع، فإن الحراك سيتطور وربما لمراحل لا تحمد عقباها تصل الى العنف وربما الاشتباكات المسلحة وسط نذر بدت في الأيام القليلة الماضية تخدم هذا التوقع الخطير.

واذا تطور الحراك أيضًا ليتجاوز الجوانب المطلبية ويطرح أجندات تبدو أنها لخدمة الاخوان حصرا، فقد يعطي الذريعة الكافية لاجهاضه بصورة أمنية قاسية قد تلقى دعمًا قانونيًا وشعبيًا من قطاعات كبيرة.

واذا ما حاول النظام احتواء الحراك عبر اجراءات مخادعة، فلن يكون الأمر سوى تأجيل للمواجهة، حيث المطروح هو تغيير جذري في سياسات وتوجهات النظام، لا نعلم هل سيستجيب لصوت العقل ويمتلك التواضع لاتمامها أم سيكرر أخطاء الأنظمة الماضية لتصل الأمور الى سيناريوهات خطيرة يبدو وأن الجماهير خرجت من قمقمها ومصرة على انفاذها.

أما القضايا الوطنية وتوجهات مصر السياسية وعودتها لممارسة دورها الطبيعي كدولة مقاومة، فهي قضية أخرى تتعلق بضغط جماهيري مبني على الوعي وقناعات سياسية لنظام الحكم شرطها الأول والحاكم هو التحرر الوطني، ولا يشي الحراك الراهن بأنه ضاغط باتجاهها.

* العهد الإخباري