ليلى..! قصة مستوحاة من عمق الواقع اليمني
ليزا جاردنر
نامت ليلى في فراشها، وكعادتها كل مساء تحضن والدتها و تنام بأمان وهي تسمع لدعاء والدتها الذي يرنّ في أذنيها حتى في الحلم …تسمع هذه الدعوات الساخنة النابعة من أعماق وجدانها: ” يا الله جيرنا وابعد عنا مصائب جبروت قواة السعودية ووحشيتها… إلهي نجِّنا من القوم الظالمين “… وحين تتأكد الأم من نعاس ليلى، تنهض لتستعد لقيام صلاة الليل ثمّ ترتّل ما تيسر لها من القرآن الكريم وهي تبتهل ابتهال الخائفين:” يا حي يا قيوم أغثنا،” وتكرر الدعاء والابتهال للخالق حتى يغلبها النعاس وتنام بجوار ابنتها.
فجأة تنتفض من مكانها مرتعشة تصرخ بقوة صوتها وعيناها داميتان من كثرة البكاء والصراخ! لقد عاد الحلم الكابوسي من جديد وقضّ مضجعها وهزّ بدنها …إنها رأت أشلاء ابنها محمد وزوجها وهما مطروحان تحت الركام مع آخرين … أجسامهم محترقة وغير مكتملة …إنها أشلاء متناثرة هنا … وهناك…في كل مكان .. اختلط اللحم بالتراب وتناثرت الأعضاء إلى حد فقدان هوية الأجساد وخسرت أسماءها وفقدت ملامحها من شدّة التشوّه…
الغارات السعودية الجوية القت بصواريخها فجأة ودمّرت القرية واختلط الحابل بالنابل، وضاعت ملامح البشر والشجر والحجر..! استحالت الحياة إلى ركام من الأموات تحولت القرية إلى أشباح مخيفة ومفزعة..! كل هذا تلاه في وسائل الإعلام المختلفة التبرير المعهود الجبان والإجرامي: ضرب القوى الحربية السعودية مخيم تدريبي لقوات الأنصار….!
كانت فاطمة عائده من منبع الماء حاملة الدلو على رأسها وهي تهمهم “حمدا لله ها قد وصلت…” وحين اقتربت من الحي العتيق سمعت ما خيل إليها أنها هزه أرضيه عنيفة أ وربما انفجار قرب الجبل القري، وصرخت يا لطيف الطف !!
عندئذ، وقعت فجأة مع دلو الماء على الأرض ليسقيها بالدم والماء… اختلطت عليها أصوات البراكين والقنابل والأصوات المفزعة وصراخ البشر المدمدم…اختلط كل ذلك بروائح غريبة وكريهة … رائحة الدم والموت ورائحة اللحم المفتت ورائحة تلاشي أعضاء الأجساد ورائحة الحرائق…
من شدة الصعقة المدوية أغمي على فاطمة وبقيت في غيبوبة لا تدري ما حدث … وحين استفاقت وعادت إلى وعها لم تصدق ما شاهدت فهرعت إلى منزلها ويا ويل ما رأت…! شاهدت أشلاء أجساد متقطعة قدم هنا ويد هناك وأرجل ورؤس متناثرة في كل مكان …! لم تصدق ما رأت …! خالت نفسها تحلم وكم تمنت أنها فعلا تحلم وأن ما تراه الآن ليس إلا كابوسا من كوابيس أفلام الرعب…! لكنها ها هي ترى رأس زوجها مشوها داخل بهو الدار…! إنه زوجها …!!! يا إلهي ما هذا ما هذا الجرم الإنساني …! لقد تأكدت أنه زوجها… لم تستوعب المشهد…! بكت وصرخت وتلوت على الأرض الملطخة بالدماء.
كان هناك على مقربة من الدمار عويل كلاب.. صراخ بشر… دوي أصوات مفزعة وصفارات الإسعاف تملأ الجو وكأنها هي أيضا تبكي الإنسان وتنعى شريّة البشر…!
هرع إليها من تبقى من الأحياء في القرية من النساء والرجال وهم يصرخون! لا إله إلا الله … لا حول ولا قوة إلا بالله …يا لطيف …يا لطيف…
شيء ما اخترق قلب فاطمة وجسدها لم تعرف ما هو؟ هل هو سكين أم هو الصاروخ ذاته، وصرخت فاطمة، و هي تجري لتلتقط الأشلاء المبعثرة وهي تصيح يا علي…، يا حسن… يا حسين… ثم احتضنت رأس الحسين زوجها بين يديها وهي ملطخه بدمه وهي تصرخ يا ناس قتلوهم!! لماذا ابقوا علي، لماذا يا الله؟ يا رب خذني معهم…! ثم أغمي عليها وهي تحضن رأس الحسين لم يتبقى منه غير رأسه وأشلاء هنا وهناك.
كانت تراه كل ليلة منذ أن قُتل جميع سكان المنزل ولم يتبق غيرها من أهلها وكانت وقتها حاملا فأهداها الله ليلى لتؤنس وحشتها و تلملم بوجهها الجميل جراحها.
منذ تلك الحادثة الأليمة وهي غير قادرة على أن تنسج واقعا جديدا أو أن تنام ليلة واحدة هادئة وخالية من هذا الكابوس الذي لم يفارقها أبدا. لكن في خلوتها ويقظتها كانت دائما تتساءل بكل مرارة عن أسباب هذه الحروب وعن أهداف هذا الدمار للأمة العربية المفككة ولليمن المغتال أرضا وشرفا وكرامة وكانت لا تهدأ إلا حين تأتيها الإجابة الحتمية: إنها الامبريالية وأنياب الرأسمالية وطمع الخونة وعبدة المال والجاه الزائف على حساب كرامة البشرية وحقهم الطبيعي في الحياة…
حتى أصبحنا نشتهي الموت أكثر من أن نشتهي الحياة، في كل زفير وشهيق تنتابنا ذبحة صدرية، كلما كنا ضحايا للرأس ماليه، عبده السلاح وعبده بائعيه، همهمت فاطمه لماذا لا يستمروا في بيع الزهور والعسل فهي أيضا مربحة، لماذا لا ننقذ الإنسانية بدل محاصرتها من كل صوب ونحب؟ لماذا لا توفر المجتمعات الغنية طعاما لكل فرد عوض إغراقهم في مجاعة أبديّة..؟.
يا لوقاحتكم ، يا لبشاعة حربكم ودماركم…! ، لقد أحرقتم الغالي والنفيس وقضيتم على أعز ما نملك…
حينها انتفضت فاطمة من هذه الغفوة وتذكرت أنها على فراشها مجرّدة من كل الأحلام…! فاحتضنت ابنتها أحلام من جديد وأغمضت عينيها على دوي الأسلحة وأشباح الإنسان.