السياسية :

ينتابني شعور غريب، بأن كل ما أكتب عن الولايات المتحدة الأمريكية يتحقق بسرعة غريبة، حتى أني أتشكك في أن الأمريكيين يقرأون توقعاتي المنشورة في الشأن الأمريكي لينفذوها على الفور.

توقعت أعمال شغب عنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية في الخريف، لتغرق الولايات المتحدة الأمريكية بعدها بأسبوع واحد بالفعل في أعمال شغب عنصرية.. وما أن كتبت عن توقعاتي بأن يقوم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بتأجيل أو إلغاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حتى ألمح ترامب عن رغبته في تأجيل الانتخابات، أو أنها ستكون أكثر انتخابات غير نزيهة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

فخامة الرئيس بوتين، عذرا!

أرجو ألا أجرح كبرياءك بما سأقول، لكن الصحافة الأمريكية يبدو وأنها تخطئ في تحديد أكبر المؤثرين في التدخل الروسي في الشؤون الداخلية الأمريكية!

على أي حال، أصبحت بالفعل أخشى التنبؤات.. ومع ذلك، فهو أمر لا بد منه، وسوف يؤثر انهيار الولايات المتحدة الأمريكية علينا جميع، ولم يعد هناك وقت للنكات، ولننظر إلى الأمر بواقعية.

أعتقد أن أمريكا وصلت إلى خط النهاية، وأصبحت عملية تأجيل السقوط لعقد آخر من الزمان، كما حدث بعد عام 2008، أو حتى لبضعة أعوام، عملية مستبعدة، وذلك للأسباب التالية.

تبلغ قيمة جميع الأسهم المتداولة في أسواق الأسهم الأمريكية 35 تريليون دولار، أو 171% من الناتج المحلي الإجمالي (ولا تأخذ هذه الأرقام في الاعتبار التراجع في الاقتصاد الأمريكي بمقدار الثلث في الربع الثاني من العام الحالي). في العام الماضي بلغت عملية رسملة Capitalization سوق الأسهم 144% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تبلغ النسبة الاعتيادية التاريخية 84%. وبعد سقوط مارس الماضي، بدأت المؤشرات في الارتفاع، وتوشك أن تصل إلى أرقام قياسية جديدة، على الرغم من صرخات الرعب والهلع والمذبحة التي تتم في الاقتصاد الحقيقي.

أي أنه من الواضح أن ثمة فقاعة عملاقة قد تشكّلت في سوق الأسهم الأمريكية منذ فترة طويلة، لكنها الآن أصبحت تأخذ أبعادا ضخمة وسريالية. إنها عملية عالمية، تحدث أيضا في أوروبا واليابان والصين، حيث تقوم أكبر البنوك المركزية في العالم بطباعة تريليونات من الأموال غير المغطاة بالبضائع، لمنع انهيار سوق الأسهم. كذلك فإنه من الواضح أن هذا النمو المصطنع لا يمكن أن يستمر طويلا.

وهنا تنشر وكالة بلومبرغ عن عمليتين جديدتين:

أولا، بدأ المواطنون الأمريكيون العاديون، الذين خافوا من الأزمة، في تقليل الاستهلاك وزيادة المدخرات. ففي أبريل الماضي، ارتفع مستوى دخل الأمريكيين الذي يوجهونه للادخار إلى 32.2%، كما أن الحجر الصحي أيضا ساعد على ذلك. في يونيو انخفض هذا المستوى إلى 19%، لكنه أيضا لا زال أعلى بكثير من نفس الأرقام في أعوام مضت.

ثانيا، بدأ الأمريكيون يبحثون بشكل مكثّف عن مكان لتحويل الأموال من حساباتهم المصرفية، لأن معدلات الفائدة على الودائع في الولايات المتحدة الأمريكية تصل، في أفضل الأحوال، إلى 1%، ولا تعوّض عن التضخم. فمعدلات الفائدة الصفرية هي أمر سيستمر لفترة طويلة، أو بمعنى أصح، إلى الأبد، حتى انهيار الاقتصاد العالمي، لأنه مع الديون الضخمة، تسمح معدلات الفائدة الصفرية أو القريبة من الصفر فقط للمدين بدفع الفائدة. سيؤدي رفع سعر الفائدة على الفور إلى إفلاس أمريكا والعائلات الأمريكية والشركات والمؤسسات والحكومة.

لذلك تتدفق أموال المواطنين الأمريكيين العاديين بنشاط إلى حيث لا يزال الربح ممكنا، أي إلى سوق الأسهم. علاوة على ذلك، يرى الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم اللعب في أسواق الأسهم على أنه الفرصة الأخيرة لكسب المال، فيحملون آخر مدخراتهم إلى هناك. وقد تضاعف، في الآونة الأخيرة، قصص ربّات البيوت والعاطلين عن العمل، ممن يستثمرون آخر ما يملكون باستخدام تطبيق “روبين هود” في أسهم “آبل” و”تسلا”، التي تنمو بسرعة فائقة. ويحمل المستثمرون عديمو الخبرة أموالهم، مثل قطيع من الأغنام، إلى العلامات التجارية الأكثر شعبية في الصحافة.

كان جزء كبير من الأمريكيين في السابق يمتلكون أسهما، كما كانت تملك الكثير من شركات التأمين وصناديق المعاشات التقاعدية جزءا كبيرا من رؤوس أموالها في الأسهم. لكن الآن، وبعد أن ضخ ملايين الفقراء مدخراتهم الأخيرة في سوق الأسهم، أصبح أي انخفاض في سوق الأسهم يهدد بخروج المتظاهرين إلى الشوارع، كما هو الحال في لبنان.

بالنسبة لترامب، كان صعود سوق الأسهم أحد المزايا الرئيسية لفترة رئاسته، ومن بين الحجج المقنعة التي يسوقها في الترويج لحملته الانتخابية. والعكس صحيح تماما، حيث كان سقوط الأسواق في الربيع محددا كبيرا لفقدانه الريادة في السباق الانتخابي.

لن أخوض هنا في نظرية المؤامرة، حيث يقوم المصرفيون بتدبير سقوط جديد عشية الانتخابات مباشرة، من أجل دقّ المسمار الأخير في نعش ترامب. أو ربما سيفعلون ذلك إذا لم يعترف ترامب بنتائج الانتخابات، وبالتالي يدفعون نحو انتفاضة الشارع الأمريكي ضد ترامب.

ومع ذلك، وبدون أي نظريات مؤامرة، فإن الإضطراب السياسي حول الانتخابات، والموجة الثانية المتزايدة المحتملة من جائحة كورونا، سيجعل انخفاضا آخر في السوق الخريف المقبل، أكثر من مجرد احتمال.

إلا أنني أتحدث عما هو أكبر من ذلك بكثير، حيث لم يعد نظام الاحتياطي الفدرالي قادرا على التوقف عن طباعة الدولارات غير المغطاة بنفس معدل التسارع، وبكميات أكبر من أي وقت مضى، لأنه الآن، ولأسباب سياسية، لا يمكن السماح ليس فقط بالانخفاض، ولكن أيضا بوقف نمو سوق الأسهم حتى ولو لفترة قصيرة من الزمن.

إقرأ المزيد
هل تُلغى الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟
هل تُلغى الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟
ولم يعد الأمر يقتصر على 35 تريليونا من سوق الأسهم الأمريكية، فالعالم مترابط، والاحتياطي الفدرالي مضطر لتقديم الدولارات إلى دول أخرى لمنع الطفرات وانهيار النظام المالي العالمي.

يتوقع “دويتشه بنك” أن يتم ضخ ما بين 5-12 تريليون من قبل الاحتياطي الفدرالي، ولكنني أعتقد أنها ستكون المرحلة التالية فحسب. وكما رأينا منذ عام 2008، فإن حقن التريليونات لا يحل الأزمة، وإنما يؤجّلها فقط، ويفاقمها على نطاق أوسع بكثير، حتى تصبح عملية الضخ في المرحلة التالية لأموال غير مغطاة أكبر وأكبر.

لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي امبراطورية عظيمة، واقتصادها هو الأكثر تنوعا في العالم، إلا أن ضعف أمريكا يكمن في عدم قدرتها على تجاوز الأزمة السياسية، التي يمكن أن يسببها الانخفاض الحاد في مستويات المعيشة.

ومشاركة الملايين من فقراء الأمريكيين في ألعاب سوق الأسهم، سيجعل من حدوث أي انخفاض في سوق الأسهم سببا حتميا لثورة عارمة لا مفر منها، إلا بمحاولات وقف هذا الانخفاض بأي شكل. وبالتالي يجب أن تكون الموجة التالية من ضخ الأموال غير المغطاة أكبر بعدة مرات، وليس فقط بتريليونات الدولارات، وإنما بعشرات التريليونات من الدولارات واليورو والين وغيرها. لا يمكنني أن أكون متأكدا بنسبة 100% من أن هذه الدورة من الأزمة الحالية هي الدورة الأخيرة قبل بداية التضخم المفرط، لكن احتمال وقوع ذلك عالية للغاية.

المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف

المادة الصحفية تعبر فقط عن رأي الكاتب