«صفقة القرن»… المعركة الفاصلة مع المشروع الصهيوني
لا شك في أن التاريخ سوف يعتبر تاريخ 28/1/ 2020، يوم الإعلان الرسمي عن «صفقة القرن»، يوماً يتجاوز حدوده كمجرد «يوم مفصلي»، كأي يوم مفصلي آخر، في مسار القضية الوطنية الفلسطينية، والأوضاع في إقليمنا. وسوف ينظر إليه، بالمقابل، باعتباره إعلاناً لمرحلة جديدة، في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، سيحاول فيها التحالف الأميركي – الإسرائيلي حسم المعركة مع الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه بالضربة القاضية، من خلال الكشف عن الشق السياسي لصفقة القرن (صفقة ترامب – نتنياهو) باعتبارها هي الحل السياسي الوحيد المعروض في الساحة الدولية، وباعتبارها الخيار الفلسطيني الوحيد، الذي لا خيار سواه، وأن كل المعايير السابقة القائمة على مباديء القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، لم تعد قائمة. وأنها وحدها، معايير «رؤية ترامب» للحل، هي التي ستفرض نفسها، سلماً، أم حرباً، من خلال كل أشكال الضغوط السياسية والاقتصادية، ومن خلال فرض الوقائع الميدانية، بقوة البطش الدموي، وعبر قوانين تقوم على مباديء التمييز العنصري والتطهير العرقي، وعلى روايات خرافية توراتية، لا ترى في فلسطين إلا أرض إسرائيل، ولا ترى في المقيمين فيها، سوى شعب الله المختار، أما الآخرون، وبعد أن كانوا رقماً صعباً، لا بد من تحويلهم إلى مجرد رقم زائد، تدار شؤونهم بعقلية إستعمارية كولونيالية متعالية، لا ترى فيهم إلا أتباعاً وخدماً للمشروع الصهيوني.
في السياق ذاته، لابد من توسيع دائرة النظر إلى «صفقة القرن» (صفقة ترامب) لنقرأ جيداً كيف تنداح بعدوانيتها ووحشيتها على فلسطين وعموم المنطقة في آن. هي صفقة ذات بعدين متلازمين من الصعب التعامل مع أي منهما، بمعزل عن الآخر: البعد الفلسطيني، من جهة، والبعد العربي الإقليمي، من جهة أخرى؛ ما يفترض أن تكون المواجهة للصفقة في المحورين معاً، محور المجابهة الوطنية الفلسطينية، ومحور مجابهة الصفقة على الصعيد العربي والإقليمي، بكل ما يستدعيه هذا الأمر من تفاعلات، وتحالفات وتقاطعات، وبكل ما يحمله هذا الأمر في طياته من تداعيات، يصعب على أي مراقب أن يحصرها في عجالة.
البعد الفلسطيني: معازل في إسرائيل الكبرى
1- الصفقة المزعومة ليست بالطبع صيغة للحل الوطني، كما أنها بالتأكيد لا تشكل إطاراً صالحاً للتفاوض، بل هي مجموعة من الإملاءات، عرض هابط للإستسلام، بآلية جهنمية مفتوحة الآجال زمنياً، ترمي إلى تأبيد بقاء الشعب الفلسطيني أسيراً، لرباعية المشروع الصهيوني: الإحتلال + الإستيطان + التطهير العرقي + إعدام الهوية السياسية.
الصفقة، أجندة واضحة، محددة المعالم، بدأت إدارة ترامب قبل إعلان نصها الرسمي الكامل (28/1/2020)، بالإفراج عن عدد من فصولها الرئيسية في وقت مبكر، إفتتحها الرئيس الأميركي بالإعلان عن الإعتراف بالقدس، عاصمة لدولة إسرائيل (6/12/2017)، ونقل سفارة بلاده إليها، لتتبعها مجموعة من القرارات الأخرى، أهمها ما يتصل بشطب ملف اللاجئين وحق العودة؛ واعتبار المستوطنات لا تتعارض مع القانون الدولي (18/11/2019)، ما يعني القبول بها، وعدم الإعتراض على نشرها وتوسيعها؛ فضلاً عن قرار تنفيذي، يعتبر اليهودية قومية رسمية، وليست ديناً فحسب (11/12/2019)، ما يساوي الموافقة على قانون يهودية الدولة الإسرائيلي. هذا دون أن ننسى، ورشة البحرين الإقتصادية (25-26/6/2019)، التي طرح فيها الجانب الإقتصادي من صفقة القرن.
2- صفقة القرن إذن، تستكمل ما سبقها وبتصميم أشد على فرضها، بموافقة فلسطينية أو بدونها، من خلال مفاوضات أو بدونها، وذلك بخطوات متفق عليها، منسقة – من حيث التوقيت – وبقدر المستطاع (أي بما يعطي إسرائيل، وحدها، هامشاً للإجتهاد) بين تل أبيب وواشنطن، وبهدف مُشهر: تصفية الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وابتلاع نصف مساحة الضفة الغربية إستيطاناً، وضماً، وإلحاقاً.
في هذا الإطار، يتحرك المشروع الأميركي – الإسرائيلي، على خطين:
أ) الأول، إطاري مرجعي، وهو ما تقدم به الرئيس الأميركي في 28/1، ومضمونه ليس أقل من إعلان حرب استئصال للشعب الفلسطيني، بما هي أعلى درجات التطهير العرقي.
ب) والثاني، تنفيذي مباشر، من خلال لجنة أميركية – إسرائيلية، ترسم خطوط الكيان الفلسطيني، أي تُرسِّم مناطق الضم السيادي لدولة إسرائيل في الغور، وشمال البحر الميت، والحدود الشرقية لإسرائيل، والمستوطنات، والمحميات الطبيعية، والمنطقة الحرام، والقدس الكبرى، الخ.. نقول «خطوط» وليس «حدود»، فالكيان الفلسطيني – بحسب الصفقة – لا يملك حدوداً، بالمعنى المتعارف عليه في القانون الدولي.
العرض المقدم، ولا عرض سواه، وفي امتداد ما سبق من خطوات، هو كيان فلسطيني مستأنس، بمثابة أرخبيل متصل الأجزاء (contiguous) بواسطة مرافق البنية التحتية؛ لكنه غير متواصل المساحة (continuous)، كيان على أقل من 15%من مساحة فلسطين التاريخية، وبدون حدود خارجية، بل معابر تحت السيادة الإسرائيلية؛ كيان فاقد السيادة، والعاصمة التاريخية، وحق العودة للاجئين، فضلاً عن كونه منقوص الصلاحيات والسيادة الداخلية، التي تبقى بيد المرجعية العليا لإسرائيل.
3- إضافة إلى ما سبق، يسعى المشروع الأميركي – الإسرائيلي لفرض أساطير الرواية التوراتية، كحقائق مسلم بها، أسوة بوقائع الإستيطان والتهويد وسائر أدوات السيطرة الصهيونية. وبالمقابل، فهو يطالبنا بالتخلي عن روايتنا التاريخية، العلمية بكل المقاييس، في موضوع نشأة الشعوب والأمم، حيث «على أرض فلسطين، ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور، عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ»، كما ورد في مطلع «إعلان الإستقلال».
أما مطالبتنا الإعتراف بـ «يهودية الدولة» بنتيجة قانون «قومية الدولة»، الذي ينص على حق اليهود وحدهم في تقرير المصير من النهر إلى البحر، فإنه لا يعني سوى أنهم الأصلاء، ونحن الدخلاء؛ هم المتجذرون في الأرض بعمق التاريخ والمشيئة العليا، ونحن العابرون، الرُحَّل فاقدي الجذور، ومعدومي التاريخ؛ .. والحديث يطول.
4- صفقة القرن، بكلمات، هي مشروع الدولة الواحدة بالصيغة الإسرائيلية، دولة إسرائيل الكبرى، بمعازل فلسطينية محاصرة للحكم الإداري الذاتي المحدود، بالمرجعية الأمنية والإقتصادية والسياسية العليا للإحتلال، الذي يلتف حولها بأدواته، كما السوار على المعصم، ليخترقها طولاً وعرضاً، كلما عنَّ على باله.
وحتى يمر هذا المشروع، لا بد من كيّ الوعي الفلسطيني، وإعادة برمجته على قاعدة أن شعبنا هو الشعب الطاريء على أرض الغير، الدخيل على شعب «مختار»، يتكرَّم عليه بقبوله نزيلاً، ويتفضّل عليه بما يتيّسر من حقوق مدنية مقيَّدة، قد تكون قابلة للزيادة، إنما بسقف معيّن، وتبعاً لمدى مطواعيته، واستعداده للإستسلام. هذا ما ينبغي أن تأخذ به المناهج التربوية في مؤسساتنا التعليمية، كما وسائل وأدوات «القوة الناعمة» المتداولة، كي يستقر عميقاً في وعي النشء الصاعد، ويشيع ويتأكد في ثقافة المجتمع
البعد العربي: التطبيع هو العنوان
1- صفقة القرن لا تستهدف الحالة الفلسطينية وحدها، بل الوضع في الإقليم العربي بنفس المقدار، فهي تعتبر أن اصطفاف هذا الوضع على نسق المشروع الأميركي – الإسرائيلي، هو المدخل الأهم لاحتواء الرقم الفلسطيني الصعب، الذي لا بد أن يكون من أصلب المتصدين لمشروع تصفوي بيِّن الملامح للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
من هذه الزاوية، وعلى خلاف المشاريع السياسية التي انطلقت منذ عملية مدريد – واشنطن
(1991-1993)، مروراً بمسلسل إتفاقات أوسلو (1993-2000)، وانتهاء بخطة «خارطة الطريق» (2003)، التي كانت تعتبر المسار الثنائي الفلسطيني – الإسرائيلي هو الأساس في التسوية، والمسار الإقليمي تابعاً له، أتت صفقة القرن لتلحظ موقعية المسار الإقليمي بالتوازي مع المسار الثنائي، بل يتقدمه في حال تعثره، ليفتح الطريق أمام الثنائي، بممارسة الضغط عليه.
التطبيع عنوان صفقة القرن في الإقليم. التطبيع ليس بمعناه الدارج، بما هو علاقات عادية متكافئة، أو شبه متكافئة بين دول، بل بواقع ووظيفة تلبية المصالح الإستراتيجية العليا، الأمنية والإقتصادية والسياسية، للولايات المتحدة وإسرائيل. في هذا الإطار، وبحجة أولوية مواجهة مخاطر تمدد نفوذ إيران في الإقليم، إدعاءً؛ ومن أجل ضمان استقرار الأنظمة السياسية القائمة، حقيقة؛ تقع منطقة الخليج في مهداف صفقة القرن، حيث ترتفع في بعض دولها – على نحو ملفت – وتيرة التطبيع الزاحف مع إسرائيل.
2- الموقف العربي الرسمي المُجمِع على رفض صفقة القرن، كما عَبَّر عنه البيان الصادر عن إجتماع الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، وإن عكس موقف غالبية دول الجامعة، فإنه لا يعبر عن موقف دول أخرى، أو استعدادها للثبات عليه، وهي الدول التي لم يبخل بعضها عن إسداء «نصحها» للفلسطينيين بالتعاطي البراغماتي(!) مع المشروع الأميركي – الإسرائيلي، باعتباره آلية للتفاوض، وليس سقفاً للحل؛ أو بالدخول عليه في اشتباك تفاوضي بغرض تقريبه من الرؤية الفلسطينية، الخ…
أما أسباب هذا الإجماع الرسمي العربي الظاهري، فنعيدها إلى تضافر عاملين:
أ) الموقف الدولي المتقدم، بصيغ وأشكال مختلفة، في رفض الصفقة، أو عدم قبول الأسس التي قامت عليها، لأنها تتجاوز على نسق المعايير والقوانين الدولية في حل القضايا، وإحلال الرؤية الأميركية بديلاً في حل المشاكل على صعيد دولي (الإتحاد الأوروبي على لسان وزير خارجيته، ودول رئيسية في إطاره؛ روسيا، الصين، 14 دولة في مجلس الأمن، أمين عام الأمم المتحدة؛ منظمة التعاون الإسلامي، الإتحاد الإفريقي؛ وحتى داخل الكونجرس نفسه، حيث وقع 107 من أعضائه على وثيقة ترفض المشروع).
ب) ضغط الشارع العربي في عدد مهم من الدول، الذي عبَّر من خلال حركته الجماهيرية عن رفضه للمشروع الأميركي – الإسرائيلي، ولعملية التطبيع.
3- قد تكون حركة الشارع العربي، مع إستثناءات محدودة، ليست بعد، بمستوى يرقى إلى صد العدوان والحروب التي تجتاح الإقليم، لكنها حركة تنطوي تراكمياً على إمكانية النهوض الحقيقي، في ضوء المخاطر التي تتهدد استقلال وسيادة ووحدة أراضي الدولة الوطنية في عدد من الأقطار العربية، التي بدأت نُذُرها تتجمع في سياق حرب الخليج (1991)، وتأكد منحاها بعد احتلال العراق (2003)، لتتسارع وتيرتها بعد العام 2011.
ومن شأن هذه المخاطر، بما فيه تلك الناجمة عن صفقة القرن، التي تتهدد الكيانات الوطنية في الإقليم، وفي السياق الدولة الوطنية، أن توسع القاعدة الإجتماعية المنخرطة في الدفاع عنها، وعن مضمونها الديمقراطي، السياسي والإجتماعي.
لقد بدأت هذه التطورات تدفع باتجاه إستعادة وتجديد موقع التحرر الوطني في برنامج القوى السياسية في عديد البلدان العربية، ما يشكل دعماً حقيقياً لنضال الحركة الوطنية الفلسطينية ضد صفقة تصفية الحقوق الوطنية لشعبنا. وطالما أن صفقة القرن تهدد – إلى جانب فلسطين – دول الإقليم وشعوبها، وهذا هو الأساس، فإن القاعدة السياسية لمناهضة الصفقة، سوف تتسع باضطراد في المدى الإقليمي، بفعل جدلية العدوان المتمادي، والرد الذي يستدعيه
رفض الصفقة يستدعي الوحدة في المواجهة
1- من خلال صفقة القرن، تتعاطى الولايات المتحدة وإسرائيل مع الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، وكأنه تلقى هزيمة ساحقة، على غرار تلك التي لحقت بألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية. غير ذلك، لا يوجد تفسير لرداءة «عرض السلام»(!) الذي تقدمه الصفقة، والذي لم تنحدر إليه حتى إتفاقيات الإستسلام (Capitulation) التي فرضها معسكر الحلفاء المنتصر بكل المقاييس، على ركني دول المحور في حينه: ألمانيا واليابان.
واشنطن وتل أبيب تدركان بالعمق، أن الحالة الفلسطينية لم تهزم، بل على العكس تماماً، فهي الرقم المتميّز في معادلة الإقليم، وهي مازالت قادرة على تعطيل مشروع الهيمنة عليه، من بوابة الإطاحة بصفقة القرن. وأغلب الظن، أن ما جعل واشنطن وتل أبيب تقدمان على إطلاق مشروعهما، هو محاولة إستغلال حالة الضعف الفلسطيني العابر، جرّاء الإنقسام، والإرتباك الشديد في الأداء السياسي الرسمي بتأثيراته السلبية على حِراك الميدان، وعلى خلفية تقدير بإمكانية تحقيق المزيد من الإختراق للحالة الرسمية العربية، بما يؤدي إلى إسقاط الوضع الفلسطيني في أحضان الحل التصفوي.
هنا يكمن أحد أسباب جعل صفقة القرن تتحرك في إطار مسارين متوازيين، متساويين بأهميتهما، يجري توظيف أحدهما (الإقليمي)، للضغط على الآخر (الفلسطيني).
2- على الحالة الفلسطينية أن تسارع لاستجماع وتفعيل عناصر القوة المباشرة التي تملك، وعدم الإكتفاء (وأحياناً التغني) بإبراز أهمية عناصر القوة الأخرى ذات العمق الاستراتيجي، على غرار: الوجود الفلسطيني الراسخ على أرض فلسطين التاريخية + الهوية الوطنية الفلسطينية المتبلورة والمعززة بالرواية التاريخية + الكيان الوطني، أي م.ت.ف بمؤسساتها، بما فيه مؤسسات السلطة الفلسطينية، المدنية والأمنية، والعسكرية، في الضفة والقطاع.
إن التحدي الفعلي الذي تواجهه الحركة الفلسطينية حالياً، لا يدور حول الإقرار بأهمية عناصر القوة المذكورة، فثمة إجماع على قيمتها الإستراتيجية، بل حول كيفية الحفاظ عليها وتعزيز مكانتها، كيلا يتراجع تأثيرها في معادلة الصراع، ما يفترض، لا بل يفرض، تفعيل عناصر القوة المباشرة التي تملك: فالكيان الوطني لا يتحول إلى عنصر قوة فاعل (بالبعدين المباشر والإستراتيجي) ما لم يتوحد؛ ومؤسسات السلطة الفلسطينية لا تصون الكيان، ما لم تطور وتعدل وظائفها؛ والوجود الفلسطيني على أرض فلسطين لا يترسخ، مالم تتوفر شروط صموده سياسياً، ومادياً، الخ..؛ وكذا الأمر بالنسبة للهوية الوطنية..
ولكن، قبل الإنتقال إلى أسلوب إستعادة عناصر القوة المباشرة، لا بد من الإشارة السريعة إلى أمرين: تقديرنا لمنحى السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية + المستجد على موقف القوى الفلسطينية بعد صفقة القرن.
3- صفقة القرن، بما هي مشروع لتصفية الحقوق الوطنية لشعبنا، محطة فاصلة بين مرحلتين. والمطلوب من الحركة الفلسطينية أن تحدد توجهاتها وتعتمد خطة عملها، في ضوء معطيات المرحلة الجديدة، التي تحتل فيها السياسة الأميركية موقعاً مهماً، لا بل شديد التأثير، آخذين بالإعتبار أن التغيير الذي طرأ على سياسة واشنطن حيال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ليس ظرفياً. وحتى لو تغيّرت الإدارة الأميركية بعد الإنتخابات الرئاسية القادمة، ومع كل التعديل والتنقيح على المشروع، الذي قد يستتبعه حلول إدارة مكان أخرى، فإن هوامش الحركة المتاحة، تعديلاً وتنقيحاً، تبقى محدودة، مالم تُقدِّم الحالة الفلسطينية نفسها، وهي مالكة بثقة وثبات، لعناصر القوة المتاحة: وحدة داخلية، مواجهة ميدانية، ثوابت وطنية، سند إقليمي، علاقات دولية مع الكبار، الخ..؛ الأمر الذي، بدوره، يستدرج سؤالين:
هل بالإمكان بلوغ هذا المستوى؟ بلا تردد، نجيب: نعم شرط امتلاك الإرادة السياسية المستندة إلى الوحدة الداخلية.
هل نقف وحدنا في التصدي للصفقة؟ أيضاً بلا تردد، نجيب: في هذا الموضوع بالتحديد، نلتقي مع شارع عربي ناهض نسبياً، ومتحفِّز لمزيد من النهوض؛ كما نلتقي مع تصدي المجتمع الدولي للاستراتيجية الأميركية القائمة دولياً على «حل» المشاكل بنسف الشرعية الدولية بمعاييرها ونصوصها، وإدارة الظهر للقانون الدولي. إذن، في هذا الموقف، لسنا وحدنا، وإن كان علينا أن نتقدم الصفوف، ولا نطالب الآخرين أن ينوبوا عنا.
منذ افتتاح العملية السياسية التفاوضية، قبل حوالي ثلاثة عقود – في مؤتمر مدريد للسلام (30/10/1991) -، مروراً بجميع محطاتها، وحتى يومنا، وبصرف النظر عن الصعوبات التي واجهتها، والعقبات التي اعترضتها، والنتائج التي تمخضت عنها، نشب خلاف سياسي عميق حول العملية السياسية بين مختلف القوى الفلسطينية، وفي صفوف الحركة الجماهيرية. علماً أن المعارضة التي تشكلت على قاعدة هذا الخلاف، لم تكن موحدة فيما بين مختلف مكوناتها، بل كانت – بدورها– تشهد خلافات سياسية ذات شأن، وأحياناً عاصفة، طاولت الخطاب السياسي، أسس التسوية، أسلوب إدارة الخلافات الداخلية، استراتيجية العمل الوطني، الممارسة الديمقراطية بشقيها السياسي والإجتماعي، ..
غير أن هذا الوضع تغيّر بعد صفقة القرن، حيث التقت جميع القوى السياسية على قاعدة المعارضة الكاملة للمشروع التصفوي، لكنها لم تتفق بعد على البرنامج البديل، برنامج المواجهة السياسية والعملية المباشرة، وما يترتب عليه من نتائج، لا سيما على مستوى بناء الوحدة الداخلية.
إن التلاقي على معارضة الصفقة، دون التوصل إلى اتفاق على البرنامج البديل، وعلى المواجهة بخطة مشتركة، يضعف بلا شك المفاعيل الإيجابية التي طال انتظارها منذ مؤتمر مدريد؛ لكن التلاقي على معارضة الصفقة – مع ذلك – يُبقي على رأس جسر لا يُستهان بأهميته، يفتح، إنما بجهد مثابر، على مراكمة شروط بناء الوحدة الداخلية
في المواجهة الشاملة لصفقة القرن:
بناء الوحدة الداخلية + الخروج من أوسلو + التعبئة العامة
تنتمي صفقة القرن، إلى ذلك النوع من المشاريع السياسية، التي يستحيل تطويرها من داخلها، ولا يمكن التقاطع معها في منتصف الطريق. الموقف منها يكون، إما مع أو ضد، ولا حل وسط بين الحدّين. إن التصدي للمشروع التصفوي المعلن للحقوق الوطنية يستدعي المواجهة الشاملة، لإلحاق الهزيمة به. وهذا أمر – على صعوبته – ممكن التحقيق، بحكم إنكشاف المشروع دولياً، وضعف وعدم استقرار مرتكزاته عربياً، مؤكدين امتلاك الجانب الفلسطيني، ما يكفي من عناصر القوة، شرط تفعيلها، للإنخراط في مواجهة شاملة، تفتح الطريق أمام استعادة الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف، فبإسقاط صفقة القرن، نكون قد قطعنا معظم المسافة التي مازالت تفصلنا عن إدراك هذه الحقوق.
في مجال العمل الوطني المحض فلسطيني، تقوم المواجهة الشاملة لصفقة القرن على ثلاثة مرتكزات، متكاملة ومتفاعلة فيما بينها: إستعادة الوحدة الداخلية + الخروج من أوسلو + تعبئة الطاقات الفلسطينية في كل مكان. هذه الركائز تشكل مجتمعة، قاعدة صلبة لمقاومة فعّالة، تُحدث التغيير اللازم في المعادلة الخارجية، وترغم الإحتلال على الرحيل.
الأدبيات السياسية للجبهة الديمقراطية تناولت هذه الأمور، بالتحديد والإسهاب الضروريين، لذلك سنكتفي بإيراد بعض أهمها، لأولويتها، من جهة، ولأنها – من جهة أخرى – مازالت موضع خلاف وتباين، أكثر من غيرها، بين القوى الفلسطينية. نوردها، فيما يلي، مع بعض التدقيقات بالطبع، التي يستدعيها المستجد الكبير، المتمثل بصفقة القرن:
1- تعود الأولوية في المواجهة السياسية لصفقة القرن، إلى تنفيذ اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف، ما تقرر سياسياً في الدورة الأخيرة (الـ 23) للمجلس الوطني:
أ) إنتهاء المرحلة الإنتقالية التي نصَّت عليها إتفاقات أوسلو، بما انطوت عليه من التزامات؛
ب) تعليق الإعتراف بدولة إسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود 4 حزيران (يونيو) 67، وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية، ووقف الإستيطان؛
ج) إعلان بسط سيادة دولة فلسطين على كامل أراضيها المحتلة عام 67، بعاصمتها القدس.
2- إستعادة صيغة الحكومة الفلسطينية الواحدة، مع التدرج بتوحيد الوزارات والإدارات بجداول زمنية واقعية، وصولاً إلى توحيدها الكامل، مع مراعاة ضرورة الفصل ما بين الأجهزة المعنية بالمهمات الأمنية الخاصة بالمجتمع، التي تعود مسئوليتها إلى الحكومة وحدها؛ وبين أذرع العمل المقاوم التي تشكل غرفة العمليات المشتركة مرجعيتها.
3- توسيع عضوية المجلسين الوطني والمركزي لجهة المشاركة السياسية بعضويته، لجميع القوى الفلسطينية بدون استثناء، وانتخاب لجنة تنفيذية ذات تمثيل شامل. إن الصلاحيات المكتسبة للمجلس المركزي بعد الدورة 23 للمجلس الوطني، تمنحه سلطة القرار، وحق الإقدام على هذه الخطوات. وبهذا تتحول أطر المنظمة إلى أطر صالحة لإدارة حوار وطني شامل في جميع القضايا المتعلقة بالشأن الفلسطيني العام: من استراتيجية المقاومة، مروراً بالتدويل، والإنتخابات، وغيرها من القضايا، وانتهاءً بتوحيد الرؤى، وتنسيق البرامج وتكامل الجهود بين جميع مكونات الحركة الوطنية في كافة مناطق عملها (48، 67، شتات)، تحت مظلة م.ت.ف.
4- وقف التنسيق الأمني فوراً مع إسرائيل، في القضايا المتعلقة بملف مقاومة الإحتلال + الخروج المتدرج من بروتوكول باريس الإقتصادي، مع إيجاد البدائل التي تلبي الحد الأدنى من احتياجات المجتمع، لا سيما شرائحه الكادحة
صحيح أن «صفقة القرن» ليست أول مشروع يطرح من أجل تصفية القضية والحقوق الوطنية، والعبث بها؛ وصحيح أن الشعب الفلسطيني وخلال مئة عام من نضاله المرير، أحبط العديد من المشاريع التصفوية، حتى في أعسر الأوقات، وأنه نهض، بعد النكبة، من تحت الركام، ليعيد بناء شخصيته وهويته وكيانيته الوطنية، بعد أن مزقتها نكبة العام 1948. لكن الصحيح أيضاً، أن «صفقة القرن» تختلف عن سابقاتها، أنها ليست معروضة على الشعب الفلسطيني، ليقبل بها أو يرفضها، وأنها ليست موضوعاً تفاوضياً، كما أسلفنا، بل هي مشروع أميركي – إسرائيلي للتنفيذ من جهة واحدة، ووضع الحالة الفلسطينية والعربية والإقليمية أمام الأمر الواقع.
لذلك يفترض أن تكون المواجهة الوطنية للصفقة، هذه المرة، مختلفة تماماً، فإسرائيل، بالتحالف مع الولايات المتحدة، تحاول أن تضع الحالة الفلسطينية أمام «الفرصة الأخيرة»، بمعنى أن إسرائيل لن تسمح لنفسها أن تفوت الفرصة التي أتاحتها لها «صفقة القرن». ونعتقد جازمين، أن على الحالة الوطنية أن تأخذ هذا الأمر بالجدية المطلوبة، بعيداً عن أية رهانات حول إمكانية إعادة التوازن إلى المنطقة، عبر مشاريع بديلة(!) قد تقدم في مواجهة صفقة القرن.
هذه هي «الفرصة الأخيرة»، بالنسبة للمشروع الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. هي الأخيرة بمعنى أنها ستكون الحاسمة في الصراع المفتوح بين الشعب الفلسطيني، وبين إسرائيل. وعلى الفلسطينيين أن يجعلوا من هذه الفرصة فرصتهم الذهبية، لكسر الصفقة، وإلحاق الهزيمة بها، وبالتحالف الأميركي – الإسرائيلي. إن من شأن ذلك أن يلحق الهزيمة الحاسمة بالمشروع الصهيوني، ليس على الصعيد الوطني الفلسطيني الداخلي فحسب، بل حتى على الصعيد العربي الإقليمي، ما يفتح أمام تاريخ القضية الوطنية، مساراً جديداً، وسينتهي حتماً بالانتصار والفوز بالحقوق الوطنية المشروعة.
المصدر : رأي اليوم