لماذا تتحدّث إسرائيل علنًا ورسميًا عن زوالها؟
زهير أندراوس —-
لا نتجنّى على أحدٍ ولا نُجافي الحقيقة بتاتًا إذا جزمنا أنّ محور المُمانعة والمُقاومة، المؤلّف من إيران، سوريّة، اليمن، حزب الله وتنظيمات المُقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة، قد سجلّ انتصارًا ولو بالنقاط على كيان الاحتلال الإسرائيليّ: لأوّل مرّةٍ في تاريخ الدولة العبريّة، التي أقامها الاستعمار بتواطؤ مع الرجعيّة العربيّة، لأوّل مرّةٍ بدأت تُسمَع في تل أبيب تحذيراتٍ وتنبيهاتٍ ناجمةٍ ونابِعةٍ عن قلقٍ وتوجّسٍ كبيرين من اقتراب نهاية إسرائيل، واللافِت أنّ الحديث عن زوال كيان الاحتلال لا يجري في الغرف المُغلقة أوْ في النقاشات التي تدور بعيدًا عن الإعلام، إنمّا على الملأ، الأمر الذي يُدلِّل أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ هذا النقاش بات يُسيطِر على الأجندة الصهيونيّة بشكلٍ كاملٍ وبمُوازاة ذلك، غدا يقُضّ مضاجع الإسرائيليين، قيادةً وشعبًا، ويؤرّقهم كثيرًا.
مع ذلك، وآخذين بعين الاعتبار دهاء الصهاينة وخبثهم الشديد في المعركة ضدّ الأمّة العربيّة، أوْ مع محور المُقاومة والمُمانعة فقط، يتعيَّن علينا التحذير: أولاً، قد يكون القرار الإسرائيليّ بإطلاق العنان للخبراء والمُحلِّلين ومراكز الأبحاث الصهيونيّة بالحديث عن بداية نهاية إسرائيل يدخل في إطار الحرب النفسيّة الشرِسة بين المُعسكرين، ولكن بالمُقابِل نجزِم قائلين إنّ أعداء إسرائيل باتوا على قناعةٍ ودرايةٍ بألاعيب الكيان، أيْ أنّ العرب تغيّروا ودحضوا مقولة المُجرِم يتسحاق شامير الذي قال إنّ العرب هم نفس العرب، والبحر هو نفس البحر. ثانيًا، من غير المُستبعد أنْ يكون أقطاب الكيان قد أدركوا أنّ المحور المُعادي بات قويًا بما فيه الكفاية، وبالتالي فإنّ الاعتراف العلنيّ لتل أبيب بقوّته، هو عمليًا رسالةً إسرائيليّةً للإسرائيليين: “إننّا نُحذّركّم، فكلّ بُقعةٍ في الكيان باتت في مرمى صواريخ إيران وحزب الله وحماس، وأننّا لا نستطيع الدفاع عنكم، وبالتالي استعّدوا لساعة الصفر”. ولا غضاضة في هذا السياق من التذكير بمقالٍ نشره الشهر الماضي، البروفيسور يحزكئيل درور في صحيفة (هآرتس) العبريّة، وهو أحد أكبر الإستراتيجيين الإسرائيليين، حيث يُحاضِر بالجامعة العبريّة في كلية العلوم السياسيّة، درور أكّد في مقاله على أنّه في الوقت الذي تُواصِل إيران سباقها نحو القنبلة النوويّة، التي تُشكّل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، يُواصِل أقطاب الكيان بالعزف على الكمان، ما يُذكِّر بما فعله نيرون عندما أحرق روما، لافِتًا في الوقت عينه إلى أنّه فقط دولةً مع مزايا الانتحار، تتصرّف كما تتصرّف إسرائيل، ففي الوقت الذي تزداد حدّة التهديد الإيرانيّ الوجوديّ، أضاف درور، يغرق قادة تل أبيب في كيفية تشكيل حكومةٍ، عوضًا عن تشكيل حكومة وحدةٍ وطنيّةٍ لدرء الخطر الإيرانيّ-النوويّ الداهِم، مُشدّدًا في الوقت عينه على أنّ إسرائيل، التي أقنعت الولايات المُتحدّة، بالانسحاب من الاتفاق النوويّ مع إيران، لم تطرح بديلاً مُقنِعًا لوقف البرنامج النوويّ بالجمهوريّة الإسلاميّة، وبالتالي سمحت واشنطن وتل أبيب، من حيث تعلمان لطهران بمُواصلة السباق نحو القنبلة النوويّة، كما قال.
البروفيسور درور، الذي يُقِّر العدوّ قبل الصديق في الكيان وخارجه، بأنّه من أخطر الإستراتيجيين بالكيان وصُنّاع القرار بتل أبيب يأخذون أقواله على محملٍ من الجّد ليس وحده في الساحة التحذيريّة، إنْ جاز التعبير، فقبله كان البروفيسور يهوشافاط هيركابي، الذي أكّد أنّ السيطرة على الوطن العربيّ، لا تتّم بالحروب، مُضيفًا: قاتلنا العرب في عدّة حروبٍ وهزمناهم عسكريًا، لكن في اثر كل حرب يتولّد مشهدًا سياسيّا أكثر تعقيدًا، وتزداد مشكلتنا مع العرب، لذا فإنّ الحرب ضدّ العرب لن تمنح الأمن لإسرائيل، بل كلّ حرب تلِد أخرى، وأنّ أفضل طريقة هو التركيز على التسوية السياسيّة، لأنّ الأخيرة تمنحنا الإمكانيّة لتحقيق الانتصار النهائيّ على العرب، ومن الممكن أنْ نأخذ من العرب على طاولة المفاوضات أكثر ممّا نأخذ منهم في الحرب، وهذه النظريّة تُفسّر باعتقادنا المُتواضِع جدًا احتضان إسرائيل لعرب التطبيع الذين يُهروِلون نحو تل أبيب في قطار الشرق الأوسط السريع لعقد الاتفاقيات معها، تمهيدًا للقضاء على أعدل قضيةً في العالم، ألا وهي قضية فلسطين، وهذا النهج من قبل دول التطبيع العربيّة، وعلى نحوٍ خاصٍّ الخليجيّة، يُثبِت أنّ التقارير والأنباء المؤكّدة عن مُخططٍ أمريكيٍّ لتوقيع اتفاق (لا حربٍ) بين دول الخليج وإسرائيل صحيحة للغاية، وأنّ هذا الاتفاق يؤكّد المؤكّد: هذا الاتفاق هو المُقدّمة ما بعد الأولى لخطّة السلام الأمريكيّة، المعروفة إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، ثمّ هناك سؤالٌ يجِب أنْ يُسأل: متى حاربت أوْ شاركت دول الخليج في الحروب العربيّة ضدّ إسرائيل كي تُوقِّع الاتفاق المذكور؟، ومِنْ هنا نصِل إلى أنّ التطبيع، بالإضافة إلى اتفاق (لا حرب)، هما بمثابة خطوتين خطيرتين لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، أوْ بكلماتٍ أخرى، “صفقة القرن” باتت تُنفّذ على أرض الواقع.
إذًا، محور المُقاومة والمُمانعة يُواصِل التحضير لتغيير قواعد الاشتباك إستراتيجيًا، وهي الخطوة التي كشفت عورة إسرائيل وقوّتها “غيرُ المحدودة” (!)، وفي المُقابِل يستمّر التطبيع وبوتيرةٍ سريعةٍ جدًا، وهو الذي أكّد حاجة إسرائيل للدول التطبيعيّة مثل حاجة تلك الدول لإسرائيل، نكون قد وصلنا إلى ساعة الحسم الحقيقيّة: دول تُحضِّر للحرب، وأخرى تتجهّز للسلام مع الكيان، وتمنحه عمليًا طوق نجاةٍ، ولكن عندما ستندلِع الحرب الشامِلة، ونأمل ألّا تنشَب، لا يستغربنّ أحدٌ إذا تعرّضت دول التطبيع لضرباتٍ إستراتيجيّةٍ مُؤلمةٍ ومُوجعةٍ، كما جرى عندما قُصِفت منشآت النفط السعوديّة في سبتمبر الماضي، ومن الحكمة أيضًا أنْ نتذكّر ما قاله قائد منظومات الدفاع الجويّ بجيش الاحتلال: “نصطدِم مع عدوٍّ متطوّرٍ يتحدّانا بكلّ الأساليب ولا يُمكِننا الدفاع المُحكَم عن الكيان ومنظوماتنا المُختلِفة تتقادَم ونبذل المساعي الـ”خياليّة” لحلّ المُعضِلة”، ولا غضاضة بالاستعانة بالجنرال في الاحتياط، تسفيكا فوغل، القائد الأسبق للمنطقة الجنوبيّة في الجيش الإسرائيليّ، الذي قال إنّ “الوضع الأمنيّ الذي تعيشه إسرائيل يُعتبر الأكثر إذلالاً لها منذ حرب أكتوبر 1973، إسرائيل حاربت ثلاث دولٍ عربيّةٍ في حرب 1967، هزمناها جميعًا، سحقناها، لكننّا اليوم لا نستطيع حسم المعركة مع حماس”. كما أنّه حريًا بنا أنْ نأخذ على محملٍ من الجدّ سيناريو نهاية إسرائيل، الذي ساقه سفير تل أبيب السابِق في واشنطن، مايكل أورن، مؤكّدًا أنّه تمّت مناقشته في جلستين اثنتين للمجلس الوزاريّ الأمنيّ والسياسيّ المُصغَّر بتل أبيب!
كاتبٌ عربيٌّ من فلسطين
رأي اليوم