السياسية :

تلعب المياه دورا محوريا في حياة الإنسان على الصعيد الفردي والجماعي ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وكذا على الصعيد الدولي وبسبب اختلاف توزيعها الكمي وامتدادها الجغرافي بين الدول والزيادة السكانية في كل منها؛ تستخدم المياه كإحدى أدوات الضغط السياسي الذي تمارسه بعض الدول التي تسيطر على منابع الأنهار أو مصادر المياه ضد الدول الأخرى المشاركة لها أو المتشاطئة معها في هذه المصادر، وذلك لتحقيق مكاسبها السياسية أو الاقتصادية.

 

وبين الحين والآخر تطل مشكلة ندرة المياه برأسها هنا وهناك لتعصف باستقرار إحدى الدول الداخلي أو تؤثر في علاقاتها بالدول التي تشاطرها فيه، إنها مشكلة دولية مؤرقة ولطالما أدرك العالم أنها من أخطر القضايا الملحة ذات الأهمية الاستراتيجية التي ينبغي البحث عن حلول مستعجلة لها قبل أن تتزايد خطورتها بطريقة يصعب بها مواجهتها، بل وتفاقم معها مشاكل العالم لتصبح حروب الطاقة وطرق النقل في العقود المقبلة لا شيء يذكر أمام حروب المياه التي ربما تكون أكثر توحشا وتخلف وراءها دماراً هائلاً يصعب تخيله؛ كونها ستكون حروبا وجودية أكثر منها حروبا للنفوذ والسيطرة.

 

ومما يسهم في زيادة حالات الصراع على المياه بين بعض الدول وجود عدة عوامل؛ أهمها[1]:

 

تصادم أو تعارض استراتيجيات وسياسات التنمية الزراعية أو الشاملة بين دول المنبع ودول المصب للأنهار العابرة لحدود هذه الدول.

عدم وجود قواعد دولية عامة تحكم عملية التقاسم العادل للمياه بين الدول الواقعة على مجرى هذه المياه، وبما يضمن الاستفادة الجماعية والمشتركة من مصادر المياه.

عدم وجود معايير موحدة وثابتة وتفصيلية لتفسير قواعد القانون الدولي والتفسير الكيفي للقوانين والمعاهدات الدولية الخاصة بالأنهار الدولية، وعدم وجود مرجعية قانونية دولية لتفسير نصوص المعاهدات بطريقة مثالية للحيلولة دون التفسير الكيفي لمواد القانون الدولي للمياه.

افتقار أغلب المعاهدات والقوانين الدولية للأنهار الدولية إلى آلية محددة للتحكيم، وغياب صفة الإلزام في القوانين والمعاهدات الدولية بخصوص المياه.

اقتصار معاهدات القانون الدولي الخاص بالأنهار الدولية والمياه عموما على تناول موضوع الأنهار، وتجاهلها وضع قواعد وإجراءات لتقاسم مصادر المياه العذبة من غير الأنهار الدولية، والتي تشمل: الينابيع الكبرى، وحقول المياه الجوفية، والواحات، والبحيرات العذبة، ومياه السيول الموسمية.

إن خارطة توزيع المياه في العالم توضح أن هناك مناطق من العالم تعيش عوامل ندرة طبيعية في المياه، بينما بعضها يعاني بشدة من ندرة اقتصادية متعلقة بغياب البنية الأساسية اللازمة لاستغلال المياه المتاحة، وفي بعضها تتضافر هذه العوامل مجتمعة لتصبح المشكلة أكثر خطورة، وهنا يمكن القول أن الوضع المائي لدول حوض النيل يمثل نموذجا يكاد يكون مثاليا لمثل هذا التضافر[2]، وهو ما يشكل عموما بابا واسعا إما للصراع أو التعاون المشترك أو خليطا من هذه وتلك حسب تغيرات الظروف والمرحلة الراهنة.

 

يبلغ تعداد دول حوض النيل 11 دولة، هي: (بوروندي، رواندا، الكونغو الديموقراطية، كينيا، تنزانيا، أوغندا، إثيوبيا، إرتيريا، السودان الجنوبي، السودان الشمالي، مصر). ويتكون حوض النيل من ثلاثة أحواض فرعية؛ هي: حوض هضبة البحيرات الاستوائية، وحوض الهضبة الإثيوبية، وحوض بحر الغزال. ويختلف الجريان السطحي لنهر النيل من كل حوض اختلافا كبيرا؛ إذ يأتي نحو 15% من هذا الجريان من حوض هضبة البحيرات الاستوائية، فيما يساهم حوض مرتفعات الهضبة الإثيوبية بما يعادل 85% من الجريان، أما حوض بحر الغزال – الذي تنطلق فيه المياه إلى مسطحات مائية ومستنقعات وبرك طبيعية وغطاء حضري هائل – فلا تصل منه أي كمية معنوية إلى نهر النيل الرئيس. وتختلف نسب اعتماد دول الحوض على مياه النهر ولعل مصر هي أكثر هذه الدول اعتمادا عليه، وتمثل حصتها منه الحد الأدنى المطلوب لسد احتياجاتها ؛ فمتوسط الهطول المطري لديها 15 (مم)، مقارنة بأقل دولة تليها من الدول الأخرى وهي السودان التي يبلغ متوسطها 500  (مم)[3] ، ولا تلبى موارد مصر المائية من مصادرها الداخلية إلا 5% فقط من احتياجاتها من المياه العذبة سنويا، بينما تحصل على 95% من حاجاتها إلى المياه من نهر النيل. ولذلك؛ فإن أي نقص في أي كمية من المياه التي ترد عبر نهر النيل تؤثر سلبا وبشكل مباشر على إنتاجها الزراعي والصناعي، وذلك على عكس دول الحوض الأخرى التي تسقط عليها الأمطار بغزارة، وتتوافر لديها كميات هائلة من المياه الجوفية، ولديها أنهار أخرى عديدة[4]. وفي الحقيقة فإن جميع دول الحوض تواجه مشاكل متعددة تتعلق بالكثافة السكانية المتزايدة وتلبية احتياجاتها المرتفعة للمياه، وكذا متطلبات التنمية المختلفة التي تشكل المياه فيها ركيزة أساسية لتحقيقها، إضافة لمخاطر الاحتباس الحراري الذي يزيد من معدلات الجفاف، بجانب الندرة الاقتصادية التي تتمثل بغياب البنية الأساسية لاستغلال ما هو متاح من المياه ومن ثم ارتفاع معدلات الهدر للثروة المائية. كل هذه المشاكل تمثل تحديات كبيرة لهذه الدول تستلزمها أن تبحث عن الحلول لها إما بصورة جماعية أو فردية قد تتفق أو تختلف فيها مع الدول الأخرى ليصل إلى حد الاشتباك السياسي وربما مع مرور الوقت في حال عدم الوصول لتفاهمات مشتركة للاشتباك العسكري.

 

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة  للاتفاقيات التي تنظم موضوع المياه بين دول الحوض على النحو الآتي[5]:

 

بروتوكول روما 1891: وقعت بريطانيا وإيطاليا في 15 أبريل 1891 في روما بروتوكولا يحدد مناطق نفوذهما في دول الحوض الواقع في شرق إفريقيا حتى مشارف البحر الأحمر، ويقضي البند الثالث منه على ألا تقوم إيطاليا بتشييد أي أعمال على نهر عطبرة من شأنها أن تقلل انسيابه إلى النيل على نحو محسوس.

معاهدة 1902: في 15 مايو 1902 تم التوقيع في أديس أبابا على معاهدة بين بريطانيا والإمبراطورية الإثيوبية متمثلة في الإمبراطور “منليك الثاني” لترسيم الحدود بينها وبين السودان. وتنص المادة الثالثة بصراحة على تنظيم استغلال مياه النيل الأزرق وبحيرة تانا ونهر السوباط، وضرورة الإخطار المسبق قبل الشروع في أي مشروعات من قبل إثيوبيا من شأنها أن تؤثر على انسياب المياه.

اتفاق 1906 بين بريطانيا وبلجيكا: وقعت هذه الاتفاقية في 9 مايو 1906 بين الملك إدوارد السابع ملك المملكة المتحدة، والملك نيوبولد الثاني ملك بلجيكا. وتحدد هذه الاتفاقية الحدود بين السودان والكونغو، وينص البند الثالث على تعهد حكومة الكونغو بألا تقيم أو تأذن بإقامة أي أعمال على نهر سمليكي أو أسانجو يكون من شأنها تقليل حجم المياه التي تدخل إلى بحيرة ألبرت المغذية لنهر النيل الأبيض إلا بالاتفاق مع الحكومة السودانية أو البريطانية.

اتفاق 1906: وُقع هذا الاتفاق بين الدول الاستعمارية “فرنسا وإيطاليا وبريطانيا” في 13 ديسمبر 1906 يتعلق بمصالح الدول الثلاث في إثيوبيا.

اتفاقية عام 1925: عبارة عن مجموعة من الخطابات المتبادلة بين بريطانيا وإيطاليا وتعترف فيها إيطاليا بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان في مياه النيل الأزرق والأبيض، وتتعهد بعدم إجراء منشآت مائية عليهما من شأنها أن تنقص من كمية المياه المتجه نحو النيل الرئيسي.

اتفاقية 1929: وُقعت بين مصر وبريطانيا نيابة عن السودان، وأهم بند ورد بها هو ألا تقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد قوى أو أي إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية من شأنها انقاص مقدار المياه الذي يصل لمصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررًا بمصالح مصر.

اتفاقية لندن 1934: تم توقيعها بين بريطانيا نيابة عن تنزانيا وبين بلجيكا نيابة عن رواندا وبوروندي، وتتعلق باستخدام الدولتين لنهر كاجيرا.

اتفاقية 1953: موقعة بين مصر وبريطانيا نيابة عن أوغندا بخصوص إنشاء خزان أوين عند مخرج بحيرة فكتوريا وهي عبارة عن مجموعة من الخطابات المتبادلة خلال عامي 1949 و1953 بين حكومتي مصر وبريطانيا.

اتفاقية 1959: وُقعت بين مصر والسودان، لتوزيع مياه النيل ليكون نصيب مصر 55.5  مليار متر مكعب والسودان 18.5 مليار متر مكعب.

اتفاقية 1991: وقعت بين مصر وأوغندا، وأكدت فيها أوغندا احترامها لاتفاقية 1953 التي وقعتها بريطانيا نيابة عنها، وهو ما يعد اعترافا ضمنيا باتفاقية 1929.

مبادرة حوض النيل 1999: تضم مصر والسودان وأوغندا وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية وبورندي وتنزانيا ورواندا وكينيا وإريتريا وجمهورية جنوب السودان، ووقعت بهدف تدعيم أواصر التعاون الإقليمي الاجتماعي بين هذه الدول من خلال الاستغلال المتساوي للإمكانات المشتركة التي يوفرها حوض النيل.

اتفاقية الإطار التعاوني (اتفاقية عنتيبي) في 2010: وقعتها دول المنبع في أوغندا، وتقوم على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، ورفضت مصر والسودان توقيعها لأنها: تنهي الحصص التاريخية للدولتين “55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان”، كما أنها لا تتضمن الإخطار المسبق والذي يعطي الحق للدول المتضررة في الاعتراض على مشروعات وسدود دول المنبع إذا اثبت ضررها، إضافةً لأن أي تعديل فيها أو في أيٍّ من ملاحقها يشترط الأغلبية، في حين أن الدولتين تريده أن يكون من خلال التصويت بالأغلبية التي تتضمن مصر والسودان أو بالإجماع.

مبادئ وثيقة سد النهضة 2015: في مارس 2015 وقعت الدول الثلاث “مصر والسودان وإثيوبيا” بالخرطوم على مبادئ وثيقة سد النهضة، وتتضمن الاتفاق ورقة تشمل 10 مبادئ تلتزم بها الدول الثلاث بشأن سد النهضة. وهو ما يعني اعتراف مصر بالسد كأمر واقع رغم اعتراضها على مواصفاته الفنية وما تراه فيه من مخاطر.

بناءً على ما سبق يمكن التطرق للإشكالية المتصاعدة بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا المرتبطة بمشروع سد النهضة الإثيوبي، هذا السد يقع على النيل الأزرق بولاية بنيشنقول- قماز بالقرب من الحدود الإثيوبية السودانية، على مسافة تمتد لـ40 كيلومتراً، وتم الإعلان عنه في مارس 2011، بطول يبلغ 1.8 كيلومترًا وارتفاع قدره 1145 مترًا لتوليد أكثر من 6000 ميغاوات، وكان من المفترض الانتهاء من أعمال التشييد عام 2018، لكن تأجل ذلك بحسب مسؤولين أثيوبيين للعام 2020. ومؤخرا تم الإعلان عن الانتهاء من أحد السدود الاحتياطية التابعة للمشروع وهو ما اعتبره مسؤولون أثيوبيون (علامة فارقة في المشروع بأكمله)، ومع الانتهاء منه سيكون السد الأكبر في أفريقيا.

 

فكرة السد ليست حديثة بل تعود لزمن الحقبة الناصرية؛ حيث كان قد حُدد موقعه بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية خلال عملية مسح للنيل الأزرق أجريت بين عامي 1956 و1964 دون الرجوع إلى مصر، ونظرا للنفوذ المصري آنذاك ظلت الفكرة حبيسة أدراجها.

 

وستقدم هذه الورقة إطلالة سريعة على مواقف الدول الثلاث وخلفياتها لنتمكن من الإلمام بأبعاد هذه المشكلة وخلفياتها

 

الموقف الإثيوبي:

 

تصر إثيوبيا على أن السد لا يمثل تهديدا لمصر أو السودان بل هو لإنتاج الطاقة الكهربائية، ولن يؤثر على حصة مصر المائية، التي تعتمد في معظمها على المياه القادمة من بحيرة ( تانا ) في الهضبة الإثيوبية عبر النيل الأزرق الذي يخترق السودان ويتصل بنهر النيل الأبيض القادم من الهضبة الاستوائية، باتجاه السودان ومنها لمصر حتى يصل لمصبه في البحر الأبيض المتوسط. ويرتكز الموقف الإثيوبي هنا على الموقف العام لدول المنبع التي ترى أن الاتفاقيات الخاصة بتقاسم مياه حوض النيل هي غير معنية بها كونها عقدت من قبل دول احتلال زمن الاستعمار، كما أن بعضها وخصوصا تلك التي تحدد أنصبة مصر والسودان المائية اتفقت عليها الدولتان وهما دولتي مرور ومصب، وهي – أي دول المنبع- لم تكن طرفا فيها، ومن ثم فهذه الاتفاقيات بالإضافة إلى عدم عدالة توزيعها للمياه، فهي تعد بمثابة تعدٍ على ثرواتها السيادية وحقوقها في استغلال هذه الثروات، وتتحجج هذه الدول أيضا بما تعانيه من زيادات سكانية ومشاكل تنموية وحاجتها الملحة للطاقة الكهربائية التي يمكن توفيرها من خلال إقامة المساقط المائية والسدود على منابع النهر، إضافة لتناقص معدلات الأمطار ومشاكل الاحتباس الحراري، بل ويرى البعض في هذه الدول أن من حق دول المنبع حجز المياه وإعادة بيعها لمصر والسودان كحق مشروع لها فيها. ويمكن القول في هذا السياق أن الدولة الإثيوبية استغلت انشغالات مصر الداخلية بأحداث 2011 وما تلاها، لتنتقل من مرحلة الاعتراض لمرحلة المواجهة مع مصر متسلحة بمواقف الدول الأخرى في الحوض، بالإضافة لتراجع الدور المصري في القارة الإفريقية وتقدم الدور الإثيوبي في مقابله، وتشابكه مع قوى دولية وإقليمية تجد فيه وفي إقامة السد تحقيقا لمصالحها في المنطقة.

 

الموقف المصري:

أما الموقف المصري فيراه تهديدا وجوديا لمصر؛ كونه سيؤثر على نصيبها المقرر من مياه نهر النيل والذي حددته الاتفاقيات الخاصة بتقاسم مياه الحوض ما يهدد 2 مليون فدان زراعي مصري بالجفاف، إضافة لمخاطر انهيار السد وحدوث فيضانات كونه قد يكون في منطقة زلزالية. ويذهب خبراء [6] إلى أن إثيوبيا تتعمد الإضرار بمصالح مصر كونه مشروع سياسي في المقام الأول، مستدلين بذلك بعدد من الأدلة منها: إن إثيوبيا لم تفاتح مصر في مسألة السد ولم تتشاور معها وإنما تكتمت عليه حتى أنها سجنت الصحفية التي نشرت معلومات عن السد عام 2011. وهي راوغت مع مصر والسودان بإصرارها على بناء السد بالمواصفات التي قررتها بصرف النظر عن مواقف مصر والسودان، وكذلك استغلت ظروف السلطة في مصر عام 2011 وما بعده. كما أن استهلاك إثيوبيا وجميع جيرانها للكهرباء مجموعين يبلغ 800 ميجا وات، في حين أن قدرة السد على التوليد ستكون 6000 ميجا وات، وهذا يعني أن هناك أغراض أخرى لاستخدام السد بخلاف إنتاج الكهرباء. أيضاً من الناحية الاقتصادية والبيئية فإن تشييد سلسلة من السدود الصغيرة هو أكثر منطقية؛ حيث إن عواقب تشييد هذه السدود الضخمة (ليس في أفريقيا وحسب) موضع نقاش منذ زمن طويل، إذ تحبس السدود المياه، وتحبس معها أيضا طمي الأنهار الذي يزيد خصوبة الأراضي الزراعية. إضافة إلى ذلك فإن إثيوبيا استدرجت مصر للاعتراف بالسد وبأهميته لإثيوبيا، مقابل الالتزام بعدم إلحاق الضرر بمصر، ولكنها فعليا لم تلتزم بإعلان المبادئ الموقع في الخرطوم في 23 مارس 2015، وسارت في طريق المفاوضات وهى تبني السد، ولم تكترث بنتائج الدراسات التي أكدت خطورة السد على مصر، وقامت ببنائه بمواصفات تؤدى حتما إلى إلحاق الضرر بها.

 

وعموما تستند مصر في موقفها للاتفاقيات والمعاهدات السابق ذكرها، وتقدم حججا قانونية تراها تفند مواقف دول المنبع التي تهدد ما تراه حقها التاريخي المكتسب في مياه النهر.

 

وينطلق الموقف المصري من المبادئ القانونية الآتية[7]:

 

إن الاتفاقيات تشكل التزاما على عاتق الدولة وعلى إقليمها، ولا يؤدي انتقال السيادة على الإقليم إلى التحلل من هذا الالتزام. وهذا ما أكدته اتفاقية فيينا بشأن التوارث الدولي في مجال المعاهدات عام 1978. وما ذهبت له محكمة العدل الدولية في أحدث أحكامها بشأن الأنهار الدولية في النزاع بين المجر وسلوفاكيا، وفي النزاع بين أوروجواي والأرجنتين بشأن نهر أوروجواي عام2010؛ حيث أكدت على ” أن المعاهدات ذات الطابع الإقليمي ومنها الاتفاقيات المتعلقة بالأنهار الدولية هي من المعاهدات التي لا يجوز المساس بها نتيجة التوارث الدولي- أي إنها من قبيل المعاهدات الدولية التي ترثها الدولة الخلف عن الدولة السلف، ولا يجوز لها التحلل منها لأي سبب من الأسباب”.

إن الدول التي وقعت تلك الاتفاقيات، وهي من الدول الأوروبية التي كانت لها السيادة على المستعمرات، قد وقعتها باسم الدولة أو الإقليم الإفريقي الخاضع لحكمها، وقواعد القانون الدولي تعترف بسريان مفعول تلك الاتفاقيات وفقاً لقواعد التوارث بين الدول، كما أن تلك الاتفاقيات تتفق مع المبادئ المستقرة في القانون الدولي كمبدأ الاعتراف بالحقوق التاريخية المكتسبة، ومبدأ وجوب التعاون والتشاور ومبدأ الإخطار المسبق.

الموقف السوداني[8]:

إن 77% من مجمل المياه بالسودان مصدرها أنهار النيل والجاش وبركة وأزوم وكلها تنبع من خارج حدود السودان كما هو الوضع مع مصر، ومن ثم فهناك قاسم مشترك بين الحالتين المصرية والسودانية فيما يتعلق بدرجة الأمن المائي فهو مهدد بالحالتين، مع اختلاف النسبة؛ فهي تصل تقريبا لـ 100% في الحالة المصرية، ولـ 75% في الحالة السودانية. لقد اتسم الموقف السوداني باتساق مع الموقف المصري إزاء الأزمة المائية في حوض النيل لفترة كبيرة، حيث قامت السودان بتشكيل موقف موحد مع الجانب المصري إزاء دول المنبع بشكل عام وأثيوبيا بشكل خاص و ذلك فيما يتعلق بالموضوعات الخاصة بالاتفاقيات التاريخية المرتبطة بتنظيم نهر النيل وفيما يخص شرط الإخطار المسبق، وشكل هذا الموقف عاملا داعما للأمن القومي المصري باعتبار أن السودان الجارة الجنوبية لمصر والتي تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي.

 

وفيما يتعلق بسد النهضة؛ ساندت الخرطوم القاهرة في معارضة المشروع خلال العامين الأولين من بدء الإعلان عن مشروع السد، خشية تأثيره على حصتها من المياه، وإن كان رفضها أقل حدة من القاهرة. لكن موقفها تغيّر على نحو مفاجئ، عندما قررت أديس أبابا في مايو 2013، تغيير مجرى النيل الأزرق، كخطوة فاصلة في تشييد هيكل السد؛ إذ على الفور انتقدت القاهرة القرار الأثيوبي، وأيدها في البدء، سفير السودان بأراضيها، وقتها، كمال حسن، واصفا الخطوة بأنها “صادمة”. لكن بعد ساعات أصدرت الخارجية السودانية بيانا، أكدت فيه أن بلادها “لن تتضرر” من السد، محاولة سحب تصريح سفيرها، بالتلميح إلى أنه نُقل بشكل غير دقيق. هذا الموقف منح أديس أبابا مشروعية للمضي قدما في عملية التشييد، وبالمقابل تسبب في توتر العلاقات السودانية المصرية، المتأرجحة أصلا بفعل ملفات أخرى، أهمها نزاع البلدين على تبعية مثلث حلايب الحدودي، والاتهامات المتبادلة بينهما بدعم قوى معارضة، والتقارب السوداني القطري.

 

وخلال الأشهر الأولى التي تلت تغيير المجرى، سعت الخرطوم لطمأنة القاهرة، بتجنبها النسبي للتصريحات المؤيدة للسد، والتأكيد على سعيها لتسوية الخلافات المصرية الأثيوبية.

 

لكن تجلى التمايز بين موقفي البلدين في خطاب للرئيس السوداني آنذاك عمر البشير ألقاه في ديسمبر 2013 خلال تدشينه مع رئيس الوزراء الإثيوبي شبكة ربط كهربائي بين البلدين، على مقربة من حدودهما؛ حيث قال: “ساندنا سد النهضة لقناعتنا الراسخة أن فيه فائدة لكل الإقليم بما فيها مصر وسنعمل عبر اللجنة الثلاثية الدولية لتقييم سد النهضة يدا بيد لما فيه مصلحة شعوب المنطقة”، ولقد وظهر أيضاً عندما أيدت السودان وإثيوبيا تحفظهما على التقرير الاستهلالي الذى أعده أحد المكاتب الاستشارية الفرنسية حول التأثيرات المحتملة لسد النهضة على عكس مصر التي أبدت موافقتها على هذا التقرير.

 

ويدافع المسؤولون السودانيون عن هذا الموقف بتعدادهم للفوائد المرتقبة من إنشاء السد؛ إذ يرى هؤلاء أن السد سيوفر لهم طاقة كهربائية رخيصة، كما أنه سيعمل على حجز الطمي، الأمر الذي سيزيد من الطاقة التخزينية والتشغيلية للسدود السودانية، وسيحد من خطر الفيضانات على السودان، فضلا عن ضمان انتظام سريان مياه النيل الأزرق على مدار العام، حيث تتقلص إلى مستويات شحيحة عند فصل الصيف. ولم تكترث الحكومة السودانية لتحذيرات خبراء، أغلبهم مصريين، من أن السد الذي يُشيد على بعد 20 كيلو مترا من حدودها، سيُغرق أنحاء واسعة من أراضيها، بما في ذلك العاصمة الخرطوم.

 

ويعد تغير موقف السودان جزءاً لا يتجزأ من تقارب سوداني – أثيوبي يحدث على نطاق أوسع، وتمثل هذا التقارب من خلال الزيارات المتبادلة بين قيادتي البلدين، وعقد اتفاقيات مختلفة اقتصادية وسياسية بينهما، وتأمين قوات مشتركة للدفاع عن حدود البلدين، ومؤخرا رعاية المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في أزمة السودان الأخيرة بعد الانقلاب على البشير.

 

إذن؛ يمكن تلخيص المشكلة الرئيسة الحاصلة حاليا بين دول حوض النيل والمتمظهرة في الاعتراض الحاصل على فكرة بناء سد النهضة بدايةً، ثم الاعتراض على المواصفات الفنية لبناء السد بعد بدء البناء، ثم الانتقال للخلاف على مدة ملء السد بعد أن صار البناء أمرا واقعاً، هل هي ثلاث سنوات كما حددتها إثيوبيا أو أكثر من ذلك كما تريدها مصر؟!، يمكن تلخيصها بأن زمن التنسيق الجماعي ومراعاة المصالح الجماعية المشتركة للدول قد تراجع، ليحل بدلا عنه زمن المصالح الفردية الانعزالية. وهذه ظاهرة باتت ملاحظة في العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة، على مستوى إقليمي ودولي، وهي نتاج لعوامل اقتصادية في المقام الأول، وتؤشر لمخاوف حقيقية من حدوث أزمات اقتصادية كبرى مستقبلا، ربما ستقود لحروب غير عادية على الموارد الاقتصادية، وسيكون الماء على رأسها.

 

المراجع :

 

[1] رضا محمد هلال، أمن الموارد وآثاره الاستراتيجية على الدول العربية، ملحق: تحولات استراتيجية على خريطة السياسة الدولية- الأمن غير التقليدي: اتجاهات تهديد موازية للأمن في المنطقة العربية، السياسة الدولية، القاهرة: مؤسسة الأهرام، العدد (186)، أكتوبر 2011، ص 21.

 

[2] كارن أبو الخير، إدارة المياه في عصر الندرة، السياسة الدولية، القاهرة: مؤسسة الأهرام، العدد (181)، يوليو 2010، ص 31.

 

[3] د. لتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع انظر: ضياء الدين القوصي، من أين تأتي مياه النيل؟، السياسة الدولية، القاهرة: مؤسسة الأهرام، العدد (181)، يوليو 2010، ص ص 38-45.

 

[4] د. محمد سالمان طايع، الاحتياجات المائية المصرية.. تحديات المستقبل، السياسة الدولية، القاهرة: مؤسسة الأهرام، العدد (181)، يوليو 2010، ص 51.

 

[5] سلوى الزغبي، بالتواريخ اتفاقيات دول حوض النيل.. 8 بتوقيع الاستعمار ولا اتفاق جامع، الخميس 22 يونيو 2017، https://www.elwatannews.com/news/details/2237840

 

[6] انظر في ذلك: السفير د. عبدالله الأشعل، خيارات مصر للحفاظ على بقائها في مواجهة المزاعم الإثيوبية، صحيفة رأي اليوم الإلكترونية.https://www.raialyoum.com

 

وكذلك: ألان غريش، مَن خَسر النيل؟، أوريان 21، 15 فبراير 2018، https://orientxxi.info/magazine/article2278

 

[7] المستشار الدكتور- سمير عبد الملاك منصور، اتفاقيات حوض النيل في ضوء أحكام القانون الدولي، آفاق أفريقية، القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، المجلد الحادي عشر – ع (39)، 2013، ص 11.

 

[8] انظر في تفاصيل ذلك لـ: السفير-  بلال المصري، الديبلوماسية المصرية: عوامل تحد من قدراتها على حل أزمة سد النهضة، برلين: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ط1، 2018، ص ص 37- 43. كذلك: صفاء محمد محمد، الموقف السوداني من أزمة مياه النيل و تأثيره على الأمن القومي المصري، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل، برلين: المركز الديموقراطي العربي، مجلد (1)، العدد (1)، مارس 2018، ص ص 117-130. أيضاً: المركز الديمقراطى العربى، دعم الخرطوم لسد النهضة: دور أديس ابابا في الملف السوداني مقابل تضعضع الدور المصري، 5 أبريل 2017، https://democraticac.de/?p=45242