تجارة السلاح… تطور اقتصادي أم انحلال أخلاقي!
باعتبارها ثالث أكبر الدول تصديراً للأسلحة في العالم، هل تتمكن فرنسا من وضع حد نهائي وحاسم لمثل هذه تجارة أو على الأقل سن معايير وضوابط تسوقها في نظام يكفل استمراريتها دون التعارض مع الحقوق الانسانية للبشر؟ للحصول على الإجابة الشافية لا بد لنا من التمحيص والتدقيق بين ثنايا الأخلاق والأسباب والدوافع الجيوسياسية ومتطلبات الاقتصاد الحديث.
بقلم: ماري بوييتون
(صحيفة “لا كروا” السويسرية الناطقة بالفرنسية, ترجمة: محمد السياري –سبأ)
في إطار سابقة لا مثيل لها قامت سفينة الشحن السعودية التي تحمل اسم “بحري تبوك” في مايو من العام الحالي بجولة طويلة إلى عدد من الموانئ الفرنسية؛ وكانت بغيتها من ذلك تتمحور حول شحن مجموعة كبيرة من مدافع “القيصر” ذات السمعة الرائدة في فرنسا إلى المملكة العربية السعودية. وبهذا الخصوص وعلى نحو متفرد في إطار مسيرتها الطويلة للتنديد بالعقود المبرمة مع الرياض – التي تستخدم هذه الأسلحة لتوجيه ضرباتها الصاروخية نحو الأوساط المدنية على الأراضي اليمنية –ها هي المنظمات الغير حكومية في باريس تخلص وبنجاح إلى حشد وتأجيج الرأي العام لمساندة قضيتها وتوسيع دائرة نفوذها وتأثيرها.
ومن المعلوم للجميع أن كل ما يتعلق بالأسلحة التي يتم شحنها وتصديرها إلى المملكة الوهابية لا يمكن أن يكون محط نقاش أو شفافية بأي حال من الأحوال ولاسيما في فرنسا.
في نهاية العام 2018، صوت البرلمان الأوروبي لصالح قانون يقضي بحتمية فرض حظر على المملكة العربية السعودية؛ وعلى تلك الخطى كان نهج ألمانيا ثم المملكة المتحدة.
أما بالنسبة لفرنسا فلا تزال الأوضاع مختلفة: فهي من جانبها لا تزال متمسكة وبشدة بمواصلة المسير والحرص على استمرار تجارتها المربحة مع عملاق النفط الخليجي، لتغدو بذلك ثالث أكبر الدول المصدرة للأسلحة في العالم.
من زاوية أخرى، لا شك أن المسألة تضم العديد من الأبعاد التي تخفي في طياتها مخاطر لا يمكن التغاضي عنها بأي حال من الأحوال: فماذا لو كانت العقود المبرمة مع السعودية تتجاوز جميع الخطوط الحمراء؟! تلك الخطوط التي لطالما كانت تسلط الضوء على المدى البعيد على تجارة كنا نحرص على الدوام وبكل حزم وضمير على التدقيق والتمحيص في جميع الآثار الأخلاقية المترتبة عليها. وفي ظل هكذا صادرات عسكرية، ألا تضحي فرنسا بقيمها ومبادئها بما يتناسب مع مصالحها المادية؟! وفوق كل ذلك، ألا ينبغي علينا تنظيم وتحديد هذه المبيعات، أو حتى وضع نهاية حاسمة لها؟! وأي مكان للأخلاقيات في مجالٍ تحكمه على الدوام سياسة الأمر الواقع المعهودة؟!
هل من سبيل لوقف عمليات تصدير الأسلحة؟
في واقع الأمر كي نتمكن من جعل تلك الغاية حقيقة وواقع ملموس يتحتم علينا بكل بساطة التوقف فوراً وبمنتهى الحزم عن عمليات الإتجار بالسلاح. وفي ظل سباق التسلح المحموم الذي تشهده جميع الدول في مختلف أنحاء العالم، سيكون الإقبال على ذلك الخيار بمثابة “إيماءة” أخلاقية بامتياز وخطوة جريئة وملموسة على طريق الأمل نحو اقتلاع جذور تلك الصفقات للأبد؛ وفي تعليقٍ على هذه الجزئية، كان إلياس جيفوري، عضو جمعية مكافحة الفساد في فرنسا ومسؤول الشؤون القانونية في الجمعية – منظمة غير حكومية مناهضة لعمليات التعذيب – صرح قائلاً: “ليس ذلك بالأمر المستحيل إذا ما كنا نتحدث عن عالمٍ تطغى فيه المثالية والأخلاق وسيادة القانون على المصالح الاقتصادية المستحدثة؛ ولكن في إطار ما يشهده العالم من تغيرات مفاجئة وسريعة تبقى تلك الخطوة مجرد ضرب من الخيال وأمل بعيد المنال، إذ أن التوقف الكلي والامتناع النهائي عن أي عمليات لبيع الأسلحة سيعد إنكاراً صريحاً وقاسٍ لحق من حقوق الإنسان يتمثل في شرعية الدفاع عن النفس”. ولكن في السنوات القليلة الأخيرة، كانت الحكومة الفرنسية قد عمدت إلى تسليم كميات مهولة من الأسلحة والذخائر إلى الجيش السوري الحر – حتى وإن لم يثر ذلك جدلاً واسع النطاق – كجزء من مخططات الانتفاضة المناهضة للرئيس السوري، بشار الأسد؛ ومن هذا المنطلق هل من الممكن أن يكون لدى باريس الاستعداد الكافي للتخلي كلياً عن تلك الامتيازات وذلك النفوذ السياسي الحساس؟ تبقى الإجابة الحاسمة والشافية لهكذا تساؤل بعيدة كل البعد عن كل ما يمكن أن يجعلنا نشعر بشيء من الأمل أو التفاؤل.
وفي الإطار ذاته، لم يدخر العديد من المراقبين جهداً في سعيهم ومطالباتهم الجادة بوضع المعايير اللازمة لتنظيم وتأطير صفقات بيع السلاح كحد أدنى للوصول إلى نقطة أتفاق مشتركة مع الحكومة الفرنسية؛ ولكن تبقى الجزئية الأكثر أهمية التي لا يمكن أن يحيد عنها كافة أولئك المراقبين في مطالباتهم تتمحور حول ضرورة الاحترام والتقيد الكامل بجميع بنود معاهدة الإتجار بالسلاح التي تم الاتفاق عليها في العام 2014؛ وتنص أهم تلك البنود على حظر كافة صفقات تسليم السلاح التي من المحتمل أن تفضي إلى انتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان أو حتى ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية أو على أقل تقدير قمع المدنيين؛ ومن الواضح للجميع أن الرياض مثال حي على ذلك بارتكابها العديد من الخروقات للقانون الدولي في اليمن؛ وهناك عقد آخر لا يقل أهمية عن تلك المبرمة مع المملكة الوهابية ولكن هذه المرة مع مصر، حيث وُجِّهت إليها العديد من الاتهامات باستخدامها الأسلحة الفرنسية لقمع الأطراف المناهضة للنظام الحاكم في البلد. وفوق كل ذلك هنالك العديد من الاتفاقيات التي تدرج فرنسا ضمن دائرة التناقض مع التزاماتها الدولية وقيمها الإنسانية.
كانت الفترة التي تولى فيها الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، زمام الأمور في فرنسا حافلة بالنشاط العسكري، حيث تضاعفت كمية الصادرات من الأسلحة فرنسية الصنع لتصل إلى أربعة أضعاف سابقاتها ولتغدو بذلك سياسته هجومية أكثر منها دفاعية.
وحينما سؤل في العام 2017 لدى لقاء صحافي عما إذا كانت فرنسا مضطرة للقيام بتلك القفزة الرباعية في صفقاتها العسكرية، أجاب: “نعم، هي كذلك؛ حيث أن هنالك الكثيرين ممن لديهم كامل الجهوزية للقيام بذلك الدور عوضاً عنا؛ الأمر الذي سيجعل بلدنا عرضة للعديد من المخاطر التي نحن في غنى عنها”. وفي واقع الأمر لا يمكننا هنا أن ننكر الفائدة الاقتصادية التي تكمن وراء هذه الحجة الواهية والعارية من أي أساس أخلاقي؛ ولا شك أن ذلك سيسهم في خلق ما بين 170 ألف و 200 ألف وظيفة في هذا القطاع.
إذن فليكن ذلك؛ غير أننا إذا ما بحثنا في اتجاه موازٍ لتلك الذريعة سوف نجد أن ما لا يقل عن 150 ألف موظف مهددون بخسارة وظائفهم كلياً وعلى المدى القريب جداً… ومن المؤسف للغاية أن الجهات التنفيذية المسؤولة في البلد لا تحرك ساكناً في سبيل الدفاع عنهم ومراعاة مصالحهم؛ ليبقى بذلك الواقع الاقتصادي هو المسيطر على زمام الأمور. أما السلطات العامة فليس لها إلا أن تعمل على لفت نظر الجهات المعنية في محاولة منها للحيلولة دون وقوع ما هو أسوء.
الموائمة بين الأخلاق، القانون الدولي والوظيفة العامة!
ما هي الأسباب التي تحملنا على سلوك هكذا نهج في قطاع التسليح؟ بصورة روتينية تتمحور الإجابة النمطية لذلك حول الأسباب الجيوسياسية؛ وبهذا الخصوص يقول جان بيير مولني، المدير المساعد في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية: “لكي يغدو لديك صناعة دفاعية أكثر قيمة وأفضل جودة وأداءً، ينبغي عليك بلا تردد أو أطاله تفكير الشروع فوراً في خيار التصدير. وعلينا ألا ننكر الحقيقة، فسوقنا الداخلية لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن ترقى إلى المصافي المناسبة لتصبح كفيلة بدعم متطلبات التحديث أو حتى توفير البيئة المناسبة لجلب الاستثمارات، وما ذاك إلا لعدم توفر الفرص الكافية. لذلك يتعين علينا التصدير، وإلا فقد ينتهي بنا الأمر بالعجز كلياً عن مواكبة التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم لنضطر تبعاً لذلك إلى شراء المنتجات والتقنيات العسكرية والتكنولوجية الأميركية، فضلاً عن أننا بلا شك سنفقد سيادتنا واستقلالنا الاستراتيجي ونفوذنا السياسي…”.
وتعقيباً على الجزئية الأخيرة لتكون الصور أكثر وضوحاً، نحن نعلم بأن فرنسا رفضت الخوض في الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق في العام 2003؛ ولكن علينا أن ندرك جيداً بأن الأميركيين لم يستوعبوا ذلك القرار الفرنسي بصدر رحب؛ ورداً على ذلك جاء قرارهم بعدم صيانة معداتنا المصنوعة على أراضيهم بالرغم من كونها محدودة للغاية؛ وهنا علينا أن نتساءل بكل جدية عما يمكن أن يكون عليه الوضع في حال كان يتم تصنيع كافة معداتنا العسكرية في أميركا؟! وماذا لو كان الرئيس الراحل، جاك شيراك، في موضع اتخاذ القرار، هل كان ليقف مكتوف الأيد أم أنه سيعمد فوراً إلى رفض التماشي مع جدول أعمال الولايات المتحدة المشكوك فيه أخلاقياً إلى حد كبير؟!…
وخلاصة لكل ما سبق ذكره ينبغي علينا ألا نغفل عن مسألة في غاية الحساسية والخطورة ألا وهي الكيفية التي يمكن من خلالها التوفيق بين الأخلاق والقانون الدولي مع الحفاظ على مكانة ووضع الوظيفة العامة في الوقت ذاته! بالنسبة لإلياس جيوفروي، تلك الغاية تستلزم “إعادة توجيه صادراتنا نحو الدول الأوروبية، تلك الدول التي تشاركنا قيمنا ومعتقداتنا وتصورنا لدولة القانون”. ولنكون منصفين، يتحتم علينا ألا ننكر تلك الحقيقة، حيث أن هذا الطرح يلقى ترحيباً واسعاً لدى شريحة كبيرة من الشعب الفرنسي قد تصل إلى 88%؛ ويرى هؤلاء “أن على بلدهم التوقف فوراً ودون أية مبررات عن تصدير الأسلحة نحو تلك البلدان التي من الوارد أن تعمد إلى استخدامها لقمع أي حركة سلمية قد يقدم عليها المدنيين”.