عبد الباري عطوان——-

لم تَستَطِع القِيادَة العَسكريّة الإسرائيليّة التَّدخُّل لحِمايَة الفَصائِل المُسلَّحة التي تُواجِه هُجومًا ساحِقًا للجيش العربيّ السوريّ على مَواقِعها في الجَنوب الغَربيّ في ريف دَرعا والسويداء، فَقَرَّرت إطلاق صاروخَين على مُحيط مَطار دِمشق الدَّولي، والذَّريعة قَديمة مُتجَدِّدة، ضَرب مَخازِن أسلحة ومُعِدَّاتٍ عَسكريّةٍ لـ”حزب الله” اللُّبنانيّ.

الغارات التي شَنّتها الطائِرات الروسيّة على مَواقِع جبهة “النُّصرة”، وجيش خالد بن الوليد التَّابِع لتنظيم “الدولة الإسلاميّة” كانَت رِسالةً مُهِمَّةً لم تَجِد هَذهِ القِيادة أي صُعوبَةٍ في فَك شَفرَتِها، تقول بأنّ قَرار الزَّحف لاستعادَة الجَنوب السُّوري إلى سِيادَة الدَّولة المَركزيّة في دِمشق، جاءَ ليس بِضُوءٍ أخضَرٍ روسيّ، وإنّما بالمُشاركةِ الروسيّة المَيدانيّةِ أيضًا.

***

القِيادة العَسكريّة الإسرائيليّة هَدَّدت بأنّها ستَتَصدَّى لأيِّ تَقَدُّمٍ للقُوّات السُّوريّة باتِّجاه الجنوب، وأكَّدت أنّها سَتَدعم الفَصائِل السُّوريّة المُسلَّحة، وسَتُوفِّر لها مِظلَّةً قَويّةً من الحِماية، ولكنّها أدرَكت أنّها لا تَستطيع تَنفيذ وُعودِها هذه، لِما يُمكِن أن يَترتَّب على هذا التَّنفيذ مِن احتمالاتِ الدُّخول في مُواجَهةٍ مع الرُّوس والجَيش العَربيّ السُّوريّ أيضًا.

الوِلايات المتحدة الأمريكيّة كانَت وَفِيّةً لإرْثِها في التخلِّي عن حُلفائِها، وتَركِهم يُواجِهون مَصيرَهم الأسوَد وَحدَهم، عِندما بَعثَت رسالةً صَريحةً وواضِحةً إلى قادة الفَصائِل السوريّة، وبِاللُّغةِ العَربيّة الفُصحى، تقول لهم فيها أنّها لن تتدخّل عَسكريًّا لحِمايتهم، وأنّ عليهم مُواجَهة “النمر” السوري وحدهم، وتَحمُّل مَسؤوليّة قراراتِهم، رغم أنّ القُوّات العَسكريّة الأمريكيّة التي تُرابِط في قاعِدَة التنف العَسكريّة على الحُدود السوريّة العراقيّة الأُردنيّة لا تَبْعُد عَنهم إلا بِضع مِئاتٍ مِن الكيلومِترات فقط، ومِن الطَّبيعي، أن تتَّخِذ القِيادة الإسرائيليّة المَوقِف الأمريكيّ نَفسِه.

ما لم تُدرِكه الكَثير من الفَصائِل المُعارضة السوريّة المُسلَّحة أنّها كانت مُجرَّد “أداةٍ” استَخدَمها الأمريكيّون في إطارِ مُخطَّطاتِهم لتَقسيم المِنطَقة، وإضعاف الدُّوَل التي تَقِف في خَندق مِحوَر المُقاومة، وعِندما فَشِلت هذه المُخطَّطات قَرَّرت الانسحاب من المَشهَد بِهُدوء، ودون أن تَذرِف دَمعةً واحِدةً، ناهِيك عن قَطرةِ دَمٍ واحِدةٍ، دِفاعًا عن هؤلاء الذين راهَنوا عليها، واعتَقدوا أنّها حَليفٌ يُمكِن الاعتمادُ عَليه.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانَ في قِمّة الصَّراحة والوُضوح، عِندما أكَّد أنّ بِلاده أنفَقت 70 مِليار في سورية، وكان المُقابِل صِفرًا مُكَعَّبًا، ولهذا قَرَّرت رَفع الرَّاية البيضاء والانسحاب، وتَرك مِلئ الفَراغ للحُكومات العَربيّة الخليجيّة التي انْخَرَطت في المَشروع الأمريكيّ الفاشِل في سورية والعِراق وليبيا واليمن، ولكن هَذهِ الحُكومات لا تستطيع تَلبِيَة هذا الطَّلب الأمريكيّ، وهِي التي تَكتَوِي بنارِ الحَرب في اليمن مُنذ ثلاثِ سَنواتٍ، وتَعجَز عن تَحقيقِ أيِّ تَقَدُّمٍ فيها، وباتَت مَحطّات تلفزيوناتِها تتعاطَى مع تَطوُّرات الأزمةِ السُّوريّة مِثل تعاطِي دُوَل مِثل مالي أو سيريلانكا، أو السويد، في أفضلِ الأحوال.

نسأل: أين الائتلاف الوَطني السوري؟ أين الهيئة العُليا للمُفاوضات؟ أين المجلس الوَطني؟ أين قِيادات المُعارضة السوريّة؟ أين منظومة جنيف؟ أين منظومة آستانة؟ أين “جمعيّة” أصدقاء الشعب السوري؟

الشَّعب السوريّ الوَطنيّ الشَّهم، تَعرَّض لأكبرِ عمليّةِ تَضليلٍ وخُذلانٍ غَير مَسبوقةٍ في التَّاريخ، بِشقّيه القَديم والحَديث، على يَد الوِلايات المتحدة الأمريكيّة وحُلفائِها العَرب، وبعض أبنائِه الذين انخَرطوا في هَذهِ المُؤامَرة الأمريكيّة بحُسن نِيّة، أو مع سَبق الإصرار والتَّرصُّد.

***

الجَنوب السُّوريّ سَيعود حَتمًا إلى حُضن الدَّولةِ الأُم، مِثلَما عادت مَناطِق ومُدن أُخرى عَريقة، وسَتَلحَق بِه كُل المَناطِق والجُيوب الأُخرى، فالمَسألة تَوقيت وأولويّات، لكن هذا لا يَعني أن تَعود الدَّولة السوريّة إلى الوَراء، وأن تَستَمِر المُمارسات نفسها التي هَيّأت بعض المَناخات والأعذار لهَذهِ المُؤامَرة على مَدى سَنواتٍ عَديدةٍ.

إسرائيل “مَرعوبةٌ” ونَقولها للمَرّة الألف دُون تَردُّد، وتَضرِب هُنا وهُناك لإخفاء فَشَلِها، وازدياد حالة ارتباكِها، وضِيق الخِناق حول عُنُقِها، فقد أغارت مِئَة مَرّة في السَّنوات الخَمس الماضِية على العُمق السُّوري، وظَلَّت سورية صامِدةً، تَكْظِمُ الغَيظ، وتُقاتِل على سَبعين جَبهةٍ في الوَقتِ نَفسِه، ولا مانِع من إضافةِ غارةٍ أو عَشر غاراتٍ جُدُد، فمَن يَضْحَك أخيرًا يَضْحَك كَثيرًا.. والأيّام بَيْنَنَا.

 

رأي اليوم