أحمد يحيى الديلمي ——–

 

ثمة حركة غريبة طافت حولي وأنا أدخل إلى ساحات سوق الملح في صنعاء القديمة، على امتداد الشارع المؤدي من ميدان اللقية إلى نفس الساحة، تتراقص في ثنايا شفاه الباعة عبارات تبدو غريبة على المكان، كلمات تفارق الأفواه طابعها ناري تتمترس حول رغبات التفرد، والأفق الذاتي المحدود للكسب، كل طرف يحاول انتزاع اللقمة من فم أخيه ويتركه فريسة للجوع، سلوكيات شاذة وغريبة على المكان حيث اعتاد الناس من تجار صنعاء على التكافل، والتفاعل بممارسات مملوءة بجمال القناعة والصبر وعظمة التلاحم.

وفي مجرى البحث عن جذور تلك العلاقة وجدت أنها نظام متكامل مبعثه، قوة الإيمان بمدلوله الصحيح المترجم لنصوص العقيدة، بما يمتلكه من مؤشرات لإيقاظ ضمير كل إنسان ليبدو مزهواً بأي مكسب يحققه من مصادر مشروعة حلال لا شبهه فيها خوفاً من الرقابة الذاتية المتصلة برقابة الخالق سبحانه وتعالى، لذلك لا نستغرب أن نجد رجال اعتادوا الجلوس على عتبات الدكاكين لا يصرخون ولا يتحايلون ولا يفسدون البيع على الآخرين، بل وصل الحد بالبعض أن يصرف المشتري إلى جاره إذا سبق له البيع.

هذا السلوك يكشف بجلاء التناقض الصارخ بين تلك الثقافة بجذورها وأخلاقها وقيمها وبين النفوس القاحلة اليوم، فلقد أصبحت هلعه تُغلب التكالب وتحمل في ثنايا السطور نظرة ذاتية خاصة تحدد ملامح ارتباط كل إنسان بالآخر، وهي ثقافة غريبة تخلو من صفات التراحم والمحبة، وتؤكد على انحدار الأخلاق واختلال في السلوك، واضطراب خطير في علاقات الناس ببعضهم في كل شأن من الشئون.

الغريب أن الناس اعتبروا هذه الثقافة ضرورية كونها بوابة النجاح، وعنوان الشطارة والمهارة المطلوبة للتجارة، وهي مجرد عادات وتقاليد دخيلة خاطئة أساسها انعدام الهوية الدينية، وتبرير القفز على ثوابت العقيدة بفعل الأثم التاريخي الذي اقترفه بعض العلماء المتنطعين باسم الدين نتيجة عجزهم عن فهم قواعد الدين وما يفرضه من استقامة في السلوك، والاتكال على الله في الرزق دون الحاجة إلى الهلع والتكالب.

وهذه السلوكيات هي مصدر الأزمات والمشاكل والتعقيدات التي اخترقت الحياة العامة بمضمونها الخطير الذي مثل جزء من الغزو الثقافي والاقتصادي، والمطلوب قراءة أبعاد وتأثير هذا السلوك لا بقصد الرفض المطلق للمضامين كلها، لكن بهدف الموائمة بين الظواهر الوافدة، وبين قيم الأصالة والقيم السامية المتجذرة في النفوس كأساس لإعلاء شأن الهوية الوطنية لتحتل المساحة الوجدانية، وتمثل انتصارا حقيقيا للضمير الإنساني ببعده الاجتماعي، فتصبح خياراً متأصلاً يصعب التآمر عليه، إنها مجرد أمنية وحلم جميل.

أرجو أن تحظى باهتمام المختصين، وإن كنت لا أعتقد ذلك .. إلا أن ثقتي بالله كبيرة بأن شعبنا سيتمسك بقيمه وأخلاقه ولن يفرط فيها مهما كان الثمن ..

والله من وراء القصد ..