السياسية - وكالات :


في قلب الدمار بغزة، حين يتوقف القصف لا يتوقف الموت. فالصمت الذي يعقب الانفجارات ليس سلامًا، بل بداية فصلٍ آخر من الخطر… خطرٍ لا يُسمع، ولا يُرى، لكنه يدخل إلى الرئتين دون استئذان.


هنا، فوق كل حجر محطّم وتحت كل سقف متهشّم، يطفو غبارٌ رمادي يحمل في داخله سمًّا بطيئًا اسمه "الأسبستوس"؛ عدوّ لا يشبه الحرب في ضجيجها، لكنه يفوقها في بطشه، لأنه يقتل بصمت.


وبينما يهرع الناس نحو بيوتهم المهدّمة بحثًا عن ما تبقّى من ذكريات، لا يعلم كثيرون أن الهواء الذي يتنفسونه أخطر من الركام الذي يمشون فوقه. إنها حرب أخرى.. حربٌ معلّقة في الهواء.



بعد توقف القصف الأخير، عاد فارس الحويطي (42 عامًا) إلى منزله المنهار كليًا. لم يكن يتوقع أن يواجه خطرًا جديدًا لا صوت له ولا شكل.


يقول فارس لـوكالة سند للأنباء: "لما رجعت على داري كان المشهد زي زيارة قبر… كنت أزيح الحجارة بإيدي، والهواء نفسه كان عدونا وأنا مش داري."


ثلاثة أيام قضاها فارس وأبناؤه في قلب الركام بلا كمامات ولا قفازات. وبعدها بدأت الأعراض: سعال جاف، ضيق في التنفس، وآلام في الصدر. لم يأخذ الأمر بجدية في البداية، لكن الفحوصات كشفت الحقيقة: الألياف التي استنشقوها ليست غبارًا عاديًا.. إنها ألياف الأسبستوس القاتلة.


فالأمم المتحدة تقدّر حجم الأنقاض في غزة بأكثر من 60 مليون طن، وتؤكد تقاريرها أن إزالة الركام قد تستغرق أكثر من 20 عامًا بتكلفة تتجاوز 1.2 مليار دولار.


ومع كل هذا الركام، يوجد عدد كبير من الأطنان من ألواح الأسبستوس التي تفككت بفعل الصواريخ، وتحولت إلى غبار خفيف يبقى عالقًا في الهواء ويرتفع بمجرد أن يدوس شخص على الحجارة.


وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن جميع أنواع الأسبستوس مواد مسرطنة شديدة الخطورة، خصوصًا الكريسوتيل (الأسبستوس الأبيض) المنتشر في أسقف غزة الخفيفة.


استنشاق هذه الألياف قد يؤدي إلى أمراض تظهر بعد سنوات طويلة، مثل: التهابات صدرية متكررة، تليّف رئوي، سرطان الرئة، ورم المتوسطة، سرطان الحنجرة والمبيض.


ويحذّر أستاذ العلوم البيئية والبحرية في الجامعة الإسلامية بغزة، الدكتور عبد الفتاح عبد ربه، من أن تفجير المنازل جعل الأسبستوس يتفتت إلى ألياف دقيقة جدًا، تدخل الجهاز التنفسي دون أن يشعر بها أحد.


ويقول:"الخطر الآن معلّق في الهواء. غياب الفحوصات البيئية ومعدات الحماية يجعل الوضع أكثر خطورة مما نتصوره."


ويحثّ الأهالي على عدم الاقتراب من الركام دون كمامات وملابس واقية، ووضع بقايا الأسبستوس في أكياس محكمة، وغسل اليدين والوجه جيدًا بعد مغادرة المكان.


لكن في ظل غياب الإمكانات، تبقى التحذيرات مجرد كلمات لا يستطيع كثيرون تطبيقها.


في غزة، لا تكفي النجاة من القصف لتكون حيًّا؛ فالهواء نفسه بات يحتاج إلى معركة ليُستعاد. الأسبستوس لا يطلق صفارات إنذار، ولا يترك دخانًا يتصاعد، لكنه يترك أثرًا أشدّ قسوة: رئاتٌ منهكة، وأمراض تتسلل على مهل، ومستقبلٌ مُعلّق بين الركام.


ومع انعدام المعدات وغياب الرقابة، يصبح كل بيت مهدّم قنبلة صحية موقوتة، وكل خطوة فوق الأنقاض مقامرة بالحياة.


ما تحتاجه غزة اليوم ليس فقط إعادة إعمار الحجر، بل حماية البشر من خطرٍ لا يمكن رؤيته، لكن يمكن — إن وجد العالم شجاعته — السيطرة عليه قبل أن يترك ندوبًا لا تُشفى.