اليمن والسعودية: صراع العقيدة قبل صراع القوة
محمد محسن الجوهري*
لو اقتصر معيار القوة على حجم الثروات أو على عدد الأسلحة، لكانت السعودية من دون منازع أعظم دولة في المنطقة؛ ثروات هائلة، موارد نفطية لا تضاهى، وترسانة عسكرية متطورة. لكنّ القوة الحقيقية أعمق من ذلك: هي مزيج من إرادة وطنية، رؤية سياسة، وعقيدة تُحرّك هذه الإمكانات في مسار يحقق أهداف الأمة لا رغبات الخارج. فعندما تضعف العقيدة أو تتبدل توجهاتها، فإن أضخم الموارد قد تؤول إلى خدمة مصالح لا تتوافق مع مصلحة الأمة؛ فتكون بذلك قوةً بلا روح، وسيفًا في يد عاجز.
وبالنسبة للسعودية، الانحراف العقائدي ليس مجرَّد خطأ سياسي عابر، بل هو جوهر المشكلة. فالدولة التي تتحول أدواتها الخارجية إلى محلات تفاوض لرضا شركاء ليسوا في خندق الأمة، وتُطبّع مع خصوم الثوابت الدينية، لا تُؤدي واجبها كحامي للمقدسات ولا كرمزٍ للوحدة الإسلامية. وعندما تُقدَّم المصلحة الأجنبية على المصلحة الإسلامية، ويفقد خطاب السلطة ارتباطه بالهوية الدينية والاجتماعية للعامة، ينتج عن ذلك فقاعات من شرعية مزعزعة تُسهِم في عزلة الداخل وتولد استياءً شعبياً متزايداً.
المأساة أن الانحراف العقائدي هو الذي حوّل طاقة بلاد الحرمين من قوةٍ إسلاميةٍ داعمةٍ للأمة إلى أداةٍ تخدم مشاريعٍ معادية. بدل أن تقف الدولة حصناً للمقدسات وراعيةً لوحدة الأمة، تبنّت سياسات تطبيعٍ مع أعداءٍ استهدفوا الأمة ومقدساتها، بل وقادت خطابًا يكفّر تياراتٍ من المسلمين ويعيق أي مسعى للوحدة التي تُخيف القوى الغربية وتكشف مخططاتهم.
هكذا، لم يعد الابتزاز الخارجي أمراً عسيراً على حكامٍ فضّلوا مصلحة الرضا الدولي على واجب الدفاع عن الأمة؛ فتصرفت الدولة طبقًا لرغبة أسيادٍ في البيت الأبيض بدلًا من أن تكون سندًا للمسلمين. هذا التباين يُعَدّ تناقضًا صارخًا مع القيم الإسلامية التي تدعو للوحدة ومقاومة أعداء الأمة وقطع سبل الموالاة لهم.
على الضدّ من ذلك، برز اليمن كقوةٍ لا تقاس بمقدار ترسانةٍ أو خزينة، بل بانضباطٍ عقائديٍ وثباتٍ على منهجٍ جهاديٍ يرى العدوَّ كتهديدٍ زائفٍ أمام إرادةٍ لا تلين. لذا صار الغرب يزن أموره ألف مرة قبل الانزلاق في مواجهة مباشرة مع اليمن، لأن المعادلة هناك ليست ماديةً فحسب، بل روحية وعقائدية — ومع هذه المعادلة تُبنى قراراتٌ ميدانيةٌ وسياسيةٌ حاسمةٌ تُكلّل غالبًا بالنصر.
الدرس واضح: القوة تنطلق من النفوس. إيمانٌ راسخ ومنهجٌ قرآنيّ يضفيان على السلاح معنىً حقيقيًا ويحوّلان التوازنات، حتى يضطر من ظنّ أن القوة تقاس بالمعدات إلى إعادة حساباته. ما نشهده اليوم في معركة البحر الأحمر دليلٌ صارخ: فارق الإمكانيات لا يكفل الانتصار إذا غاب عنه العزيمة والعقيدة، وفارق الإيمان قد يطيح بكل ما تبدو عليه القوة من مظهرٍ خارجي.
وفي ظلّ زمنٍ مقبلٍ من الصراع الطويل، حيث تزداد الأمة شوقًا للانتصارات والكرامة، سيعمّ نهج "المسيرة القرآنية" بين من يتحلّون بالشرف والصدق. سيصبح اليمن نموذجَ ثقَّةٍ وإصرارٍ يُحتذى به من طموحين إلى امتداد الأمة، لأن الانتصار الحقيقي لا يُقاس بعدد الدبابات أو موازين القوة فحسب، بل بمدى تمسّك القلوب بالعقيدة، وثبات القرار في ميادين الجهاد والسياسة على حدٍّ سواء.
كما أن القوة العقائدية تُنتج مصداقية داخلية؛ فالشعوب التي ترى تطابقًا بين ما يُقال وما يُفعل تميل إلى منحه ثقة أكبر في الأزمات، وتدعم خياراتها بصبر وثبات. تلك الثقة تُترجم إلى قدرة على الصمود الطويل، بينما تحوّل الانقسامات والشكوك الداخلية أي قوة مادية إلى عبء ومنجم لاستخبارات الخصوم.
في خاتمةِ المطاف، الدرس واضح وبسيط: لا يكفي أن تمتلك دولة ترسانةً وميزانيةً ضخمة لتكتسب الاحترام والتحجيم الدولي. الاحترام الحقيقي ينبع من مشروع واضح، عقيدة متينة، وقيادة ترجمت هذه العقيدة على الأرض بحكمة وشجاعة. ومع اشتداد الصراعات في المنطقة، سينبغي للأمم أن تعيد قراءة معنى القوة: هل نريد مجرد مظاهر، أم نريد قوةً تُغَيّر المعادلات وتدافع عن الأُمّة وثوابتها؟ واليمن في هذا السياق ليس مجرد حالة استثنائية، بل نموذج يذكّر أن الإرادة والعقيدة قد تصنعان أبهى صور القوة حين تلتقيان مع استراتيجية وطنية واضحة.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

