السياسية - رصد :

في تطوّر خطير وغير مسبوق، شنّ العدو الإسرائيلي عدوانه الرابع عشر على اليمن منذ أكتوبر 2023، مستهدفاً هذه المرة مجلس الوزراء اليمني في صنعاء، وموقِعاً عدداً من الشهداء بينهم رئيس الحكومة أحمد غالب الرهوي وعدد من وزرائه، المدنيين - السياسيين، ما يكشف فراغ بنك أهداف "إسرائيل" العسكري ويأسها عن إيجاد بنك أهداف عسكري في اليمن، رغم تفوقها الاستخباري المزعوم.

وبهذا الحدث، دخلت المواجهة بين اليمن والعدو الإسرائيلي طوراً جديداً من محاولة ردع اليمنيين عن مواصلة نصرة غزة من جهة، وكسر إرادته وإجباره على فتح البحر الأحمر أمام السفن المرتبطة بكيان الاحتلال من جهة أخرى.

لكنّ الرد اليمني لم يتأخر، إذ واصلت القوات المسلحة اليمنية قصف المدن المحتلة، مؤكدة أن نصرة فلسطين ليست خياراً ظرفياً، بل التزام وجودي.

كما أعلنت القيادة اليمنية، من السيد عبد الملك الحوثي إلى رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط، أن "الأيام السوداوية" تنتظر العدو، وأن دماء الوزراء الشهداء لن تذهب هدراً.

جوهر الأمر أن الموقف اليمني لم ينحصر في دائرة الانتقام الوطني، بل ارتبط عضوياً بفلسطين: "الموقف هو الموقف، وسيظل حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة".

الموقف اليمني ليس غريباً، وروحية الثبات والصمود والإصرار على مواصلة النضال ونصرة المستضعفين تعيد تذكير واشنطن ويافا "تل أبيب" بدرس لم تتعلماه من الماضي القريب، يوم شنّ تحالف العدوان بقيادة السعودية والإمارات عدواناً وحشياً على اليمن، أدارتها غرف عمليات أميركية ـ بريطانية، حدّدت الأهداف وقدمت الإسناد اللوجستي والاستخباراتي.

خلفت أكثر من خمسين ألف شهيد وجريح يمني، بينهم آلاف الأطفال والنساء، ودُمرت آلاف المنازل والبنى التحتية وجُوِّع شعب بأسره، لكن اليمن لم يستسلم أمام هذه الإبادة، بل نفذ أكثر من 13 ألف عملية عسكرية، منها آلاف الهجمات المباشرة والتصدي لمحاولات العدوان، مثبتاً قدرته على الصمود واستحالة ردعه عن بلوغ أهدافه التحررية.

ولكن، كيف تحوّل اليمن، المحاصَر والمُجوّع والفقير، إلى قوّة إقليمية تقف أمامها القوى العظمى عاجزةً عن ردعها؟ وبأي عناصرَ، غير العسكرية، صنع اليمنيون معجزتهم في الصمود؟

القبيلة: إلى مشروع تحرر وطني جامع

يُعَدّ اليمن أكثر البلدان العربية تنوعاً قبلياً، حيث تتوزع عشرات القبائل الكبرى، ومئات البطون والفروع، وقد تمكّن "أنصار الله" من دفع القبائل اليمنية إلى التفكير خارج حدود مصالحها الخاصة الضيقة، وإعادة صياغة موقعها ضمن مشروع سياسي – وطني يتجاوز منطق المصلحة القبلية التقليدية.

فبدلاً من استمالتها عبر المال أو منطق الشرعية الدستورية أو حتى إقصائها، كما جرى في معظم التجارب العربية، جرى إدماجها في خطاب جامع يقوم على مزيج من الديني والسياسي والقبلي، ما أعطاها إطاراً أوسع من اعتبارات العصبية الخاصة.

عوامل عدة ساعدت في هذا التحول، بعضها داخلي مرتبط بالحياة الاجتماعية والاقتصادية، وآخر خارجي مرتبط بالتحولات الإقليمية بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003) والعدوان الإسرائيلي على لبنان (2006)، التي عززت موقع خطاب المقاومة في الوعي العام، وهكذا، تحوّل حضور القبيلة في اليمن إلى جزء من مشروع التحرر الوطني، ما منح الصراع بُعداً وطنياً يتجاوز المصالح الفئوية.

الأصالة والتراث: سلاح الهوية

هناك بُعد مهم جداً في الملفّ اليمني تحديداً لا يمكن إغفاله لاستشفاف أوجه الصمود والتحدي والقدرة على الثبات وأسبابها، هو البعد الثقافي والهوياتي.

فالأصالة اليمنية، المتجسدة في اللباس والعادات والرموز الشعبية، هي خزان المقاومة الروحي الذي يجعل المواجهة مع أميركا وإسرائيل وحلفائهم، بالإضافة إلى بُعدها العسكري، معركة وجود وهوية.

ففي حين تراهن هذه القوى على إخضاع الشعوب عبر التفوق التكنولوجي والإعلامي وفرض ثقافة استهلاكية مهيمنة، يردّ اليمني بثقافته المتجذرة التي تمنحه حصانة ضد الذوبان.

فاليمني يخرج إلى الحرب حاملاً جنبيته على خاصره، مرتدياً ثوبه الأبيض، معتمراً عمامته، منتعلاً "شبشبه"، ما يعكس هويته وامتداده التاريخي وأصالته وتراثه وتجذّره في الأرض، واستعداده للدفاع عنها جميعاً، ما يشكّل في جوهره رادعاً نفسياً للأعداء في قتالِ كلٍّ متماسك.

كما تشكّل الأعراف القبلية التي تصوغ العلاقات الاجتماعية (الضيافة، التكافل، التحكيم، الضمانة) سلاح تعبئة هائل، إذ في لحظة، يمكن لمجلس قبلي أو مناسبة اجتماعية أن تتحول إلى منبر سياسي، وتصبح كلمات مثل: العيب والنخوة والثأر؛ شعارات تعبئة أقوى من أي خطاب أيديولوجي مستورد.

* المادة نقلت حرفياً من موقع الأخبار اللبنانية - زينب الموسوي