الشعب السوري ضحية لأموال الخليج
السياسية || محمد محسن الجوهري*
أينما حل المال الخليجي المدنس حلت الكوارث، وللأسف فإن هذه الكوارث لا تتجاوز العالم الإسلامي ولا يمكن أن تضرب بلداً ما خارج المخطط الصهيوني، وكارثة سورية اليوم هي نتاجٌ رئيسي للمال الخليجي وللتضليل الإعلامي الذي منشأه دول الخليج المتصهين، ولا يمكن لثورة أن تنجح وهي قائمة على ذلك المال وترى فيه وسيلة للحرية والكرامة.
منذ اللحظة الأولى، تدفقت الأموال من الرياض والدوحة لدعم فصائل بعينها، ليس من أجل حماية المدنيين ولا لدفع عجلة التغيير السياسي، بل لإعادة تشكيل سورية وفق خرائط طائفية تُرضي تل أبيب وتُغضب دمشق. وقد اعترف حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر الأسبق، في مقابلة تلفزيونية شهيرة عام 2017 بأن بلاده نسقت مع السعودية وتركيا وأمريكا لتوجيه دعم ضخم للجماعات التكفيرية في سورية، قائلاً بالحرف: "نحن كنا نتقاسم الغنيمة"، في إشارة إلى مشاريع تقسيم النفوذ داخل سورية بعد إسقاط النظام.
ومن المفارقات أن الأنظمة الخليجية تتنافس فيما بينها على تدمير الشعوب الإسلامية، فهناك شعوب منقسمة فيما بينها وتتقاتل منذ سنوات بدعمٍ من طرفي الأزمة الخليجية، لكن الكارثة الأكبر هي ما نراه في سورية، حيث مول الطرفان ثورةً دموية موالية للكيان الصهيوني بقيادة الجماعات التكفيرية، مثل "جبهة النصرة" و"أحرار الشام"، وكلها تلقت دعماً سخياً من غرف عمليات مشتركة في الأردن وتركيا ممولة من الخليج وتديرها مخابرات أجنبية، على رأسها الـ CIA والموساد.
وبينما كانت طائرات العدو الصهيوني تقصف دمشق وحلب بلا مقاومة، كانت الفصائل "الثورية" منشغلة بإقامة محاكم شرعية لجلد النساء وقتل الأسرى وذبح المخالفين. فقد تحولت بعض المناطق المحررة إلى نماذج مروعة لحكم الظلاميين، حيث مُنعت الفتيات من الدراسة، وهُدمت المزارات، وصُفّي المعارضون تحت دعاوى فتنوية مختلفة، أهمها التكفير وإباحة القتل لكل من يخالفها ولو في الرأي، وعلى طريقة "حروب الردة" سيئة الذكر، التي شرعنت لكل السواد في عالم الأمة منذ القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر.
وقد شهدت مناطق إدلب وريف حلب الشرقي، منذ عام 2013، أبشع الانتهاكات الطائفية والمذهبية تحت رايات مموَّلة خليجياً. وكان لقطر الحصة الكبرى في تمويل "جبهة النصرة"، تحت مسمى الدعم الإغاثي تارة، والدعم العسكري عبر تركيا تارة أخرى، وهو ما أكده مسؤولون أمريكيون في وثائق ويكيليكس ومذكرات هيلاري كلينتون، حيث أُشير بوضوح إلى أن قطر كانت تتصرف كراعية للتنظيمات الأكثر تشدداً في المشهد السوري.
وعلى منهاج تلك الفتنة وتحت رايتها تدفق المال الخليجي لخدمة المشروع الصهيوني المقيت، ولم يُكتب لليهود أن حققوا انتصاراتٍ مثل تلك التي تتحقق تحت الرايات الطائفية الممولة خليجياً. فعبر تغذية الانقسام المذهبي، تم تدمير النسيج السوري من الداخل، وجرى تفكيك الجيش الوطني وتشويه صورة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. لقد اختفى الحديث عن العدو الصهيوني تماماً من خطاب هذه الفصائل، بل وصل الأمر ببعضها إلى التنسيق غير المباشر مع الكيان عبر غرفة "الموك" المدارة أمريكياً في الأردن.
وكان للشعب السوري نصيب الأسد من هذه الكوارث، حيث لم يكتف الخليجيون بتمويل الحرب الأهلية على مدى عقد ونيف، رغم دمويتها في كل مناطق انتشارها، بل استمروا في تغذية الاقتتال الطائفي حتى سقوط الدولة السورية وسيطرة التكفيريين على الحكم في البلاد، لتبدأ معها مرحلة جديدة من حروب الردة الجديدة، وضد كل طوائف الشعب السوري، والتهمة جاهزة ولم يتبق سوى التنفيذ، والجميع بانتظار دورهم.
بل إن بعض القنوات الخليجية - كمحطة الجزيرة ومثيلاتها - تحولت إلى أبواق حرب، تبث السم في عقول البسطاء، وتصور الفصائل التكفيرية كأنها "قوى تحرير"، بينما تتجاهل المجازر التي ارتكبتها في كفريا والفوعة ونبل والزهراء ومناطق الأكراد والمسيحيين. وكلما صرخ طفلٌ سوري تحت الأنقاض، كانت كاميرا الإعلام الخليجي تبحث عن زاوية تحوّله إلى "شهيد الأسد"، لتبرر استمرار الدعم للجماعات الإجرامية.
ومع كل جريمة تُرتكب بحق الشعب السوري، يظهر إعلام الرعاة الخليجيين بمبررات واهية تشرعن للقتل والذبح للنساء والأطفال، فتارةً باسم فرض الأمن، وتارة لمحاربة المد الخارجي، وكأن الإجرام المدعوم من الدوحة والرياض ليس مشروعاً دخيلاً على الشعب السوري وعلى الدولة التي ظلت وفية للعروبة ولفلسطين حتى أيامها الأخيرة، رغم كل الضغوط والتواطؤات.
لقد كانت سورية - رغم ما شاب نظامها من أخطاء - دولة مركزية في محور الصمود، وقفت مع لبنان ضد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ودعمت المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح، واحتضنت حركات التحرر، ورفضت الصلح مع العدو. لكن المال الخليجي، المشبع بولاء أعمى للغرب وتماهٍ سافر مع المصالح الصهيونية، كان له رأي آخر: سورية يجب أن تُمحى، وأن تُستبدل بدويلات طائفية تدين بالولاء للرياض وتنفذ الأوامر الواردة من تل أبيب وواشنطن.
لقد خسر الشعب السوري وطنه، لا بيد النظام، بل بفعل مؤامرة معقدة شارك فيها الإقليم والغرب، وكان الخليج رأس حربتها، بسلاح الإعلام والمال والفتنة. والمأساة الحقيقية ليست فقط في ما حدث، بل في أن الممول لا يزال حياً يموّل الخراب في ليبيا واليمن والسودان أيضاً، مستنسخاً المشهد السوري، مع اختلاف في السيناريو والممثلين، لكن بمالٍ واحد، وسيناريو واحد، ومخرجٍ صهيونيٍ لا يتغير.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

