"نيويورك تايمز": النزوح أو البقاء.. خياران يواجهان الموت في شمال غزة
السياسية:
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر تقريراً تحدّثت فيه عن المعركة الشرسة والدموية التي تشنّها قوات الاحتلال "الإسرائيلي" على شمال غزّة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
اختار أحد الفلسطينيين النزوح، بينما آثر البقية الصمود في دارهم. فلم يفلت أيّ منهم من فظائع إحدى الحملات "الإسرائيلية" الأكثر دموية في شمال غزة منذ بدء الحرب التي قطعت عامها الأول.
عندما بدأت "إسرائيل" عمليتها الأخيرة في أوائل تشرين الأول/أكتوبر في شمال قطاع غزة، كانت عائلة نصر من بين نحو 400 ألف شخص قدّرت الأمم المتحدة بقاءهم في القطاع، وواجهت خياراً صعباً.
فالبقاء في المنزل يعني تحمّل القصف المدمّر، فيما المستشفيات تعجّ بالشهداء والجرحى، والجثامين التي بقيت لأسابيع تحت الأنقاض. والبقاء يعني أيضاً مواجهة الجوع؛ فبحسب جماعات حقوق الإنسان، فإنّ "إسرائيل" فرضت قيوداً صارمة على المساعدات لدرجة أنها قد ترقى إلى مستوى تكتيك التجويع.
إلا أنّ مغادرة القطاع كانت أيضاً محفوفة بالمخاطر. ويعتقد الكثير من المدنيين اليوم أنّ الفرار بناءً على أوامر القوات "الإسرائيلية" لا يقلّ خطورة عن ذلك.
عندما تلقّى رامي نصر، البالغ من العمر 44 عاماً، رسالة صوتية آلية من "الجيش" "الإسرائيلي" في 6 تشرين الأول/أكتوبر تعلن فيها معظم شمال غزة منطقة إجلاء، بما في ذلك مسقط رأسه، جباليا، أخذ التحذير على محمل الجد. وقال لصحيفة "نيويورك تايمز" إنّ ابنته ميرا البالغة من العمر 17 عاماً سبق أن أصيبت بجروح خطيرة من جراء غارة جوية في كانون الأول/ديسمبر.
وبعد يوم واحد من تلقّيه الرسالة، انصاع السيد نصر لأحد الأوامر الكثيرة التي أصدرتها "إسرائيل" خلال الأسابيع الفائتة، وهي أوامر كثيرة لدرجة أنّ حليفتها الرئيسة، الولايات المتحدة، حذّرتها من انتهاكها للقانون الدولي.
ومع ذلك، قال السيد نصر، على غرار الكثير من جيرانه، إنه يخشى استخدام الطريق التي حدّدتها القوات "الإسرائيلية". إذ للوصول إليها، كان عليه أن يقطع مسافة ميل سيراً على الأقدام عبر مناطق القتال النشطة داخل المدينة. وأشار إلى أنّ الدبابات والجنود الإسرائيليين تمركزوا على طول طريق الإجلاء، الأمر الذي أثار قلقه.
وبدلاً من اتباع الطريق التي يتمركز فيها "الجيش" "الإسرائيلي"، قرّر السيد نصر سلوك طريق أقصر يسمح لعائلته بالفرار إلى برّ الأمان بشكل مباشر أكثر، عبر تقاطع يسمّى أبو شرخ. فكانت عواقب هذا القرار وخيمة.
وهناك مقطع فيديو تمّ تصويره من قبل أحد السكان الذين عبروا أمام السيد نصر وتحقّقت منه صحيفة "التايمز"، يظهر مجموعة من الأشخاص الفارين المندفعين على الطريق ومن ضمنهم السيد نصر وعائلته. وفجأة، أمطروا بالرصاص وعلت الصرخات. بعد ذلك، شوهد السيد نصر وهو محمّل على شاحنة وركبته تنزف من جرّاء إصابته بطلق ناري. وابنته دانا، البالغة من العمر 9 سنوات، تحدّق في وجهه بصمت وهي في حالة صدمة، بينما يضغط شخص ما على ضمادة بيضاء ملفوفة حول رقبتها لوقف تدفّق الدم على قميصها الوردي.
وقال السيد نصر، الذي أكّد محتوى الفيديو: "لو كنا نعلم أنه سيتم إطلاق النار علينا، لما عبرنا". ومنذ ذلك الوقت، أطلق الأهالي على تقاطع أبو شرخ اسم "معبر الموت".
وقد تحدّثت صحيفة "التايمز" إلى خمسة من السكان الذين شهدوا عملية إطلاق نار عند محاولة الناس عبور التقاطع، وراجعت أكثر من 80 مقطع فيديو وصورة فوتوغرافية في الفترة من 7 إلى 9 تشرين الأول/أكتوبر تظهر عائلات، بمن في ذلك الأطفال وكبار السن، وهم يحملون أمتعتهم على عجل وسط إطلاق نار متقطّع.
ولم يُجب "الجيش" "الإسرائيلي" عن أسئلة الصحيفة المفصّلة حول حادثة إطلاق النار على المدنيين عند معبر أبو شرخ، أو كيف كان يمكن للسكان مغادرة المدينة بطريقة أكثر أماناً.
وعندما أخبر السيد نصر أشقاءه الثلاثة الذين خطّطوا للحاق به بما حدث، خشي شقيقه الأكبر عمار، المكفوف جزئياً، عدم نجاته في حال تعرّضه لمعاناة مماثلة. فقرّر عمار وشقيقان له البقاء في المبنى الذي عاشوا فيه لفترة طويلة مع عائلاتهم. وقال السيد نصر: "إن خوفهم من المغادرة أدّى إلى مقتلهم".
ففي 9 تشرين الأول/أكتوبر، اتصلت القوات "الإسرائيلية" مرتين بمنزل آل نصر، وأمرتهم بإخلاء المنزل. فطلبت العائلة ضمانات لعبور المعبر بأمان، موضحة أنّ عمار يعاني من مشكلات في الرؤية. إلا أنّ الجنود رفضوا طلبهم.
فقرّرت العائلة بدلاً من ذلك الاحتماء في مبنى يقع على الجانب الآخر من الزقاق. وبعد ساعات تسبّب انفجار بانهيار هذا المبنى، وقُتل عمار وزوجته وطفلاه، إلى جانب شقيق آخر للسيد نصر يُدعى عارف وشقيقته علا.
وقد روى آخر لحظاتهم لصحيفة "التايمز" الناجي الوحيد من الانفجار، وهو جار يدعى محمد شوحة. كان قد احتمى لدى عائلة نصر بعد مقتل شقيقته بالرصاص أثناء محاولتها عبور المعبر نفسه الذي قطعه رامي نصر.
وقد رفض "الجيش" "الإسرائيلي" أن يقدّم للصحيفة ردّاً محدّداً على قصة عائلة نصر.
وقد أظهرت صور التقطت عبر الأقمار الصناعية في 11 تشرين الأول/أكتوبر، عدداً من المباني القريبة من منزل عائلة نصر التي أصيبت بأضرار بالغة ومدمّرة، بما في ذلك المبنى الذي قال السيد شوحة إنهم لجأوا إليه. وحدّدت صحيفة "التايمز" الموقع الدقيق للمباني، وطابقتها مع الآثار التي شوهدت في مقطع فيديو تمّ التحقّق منه بعد يومين. ويظهر منزل السيد نصر في الفيديو، مدمّراً بشكل كبير ونوافذه مسوّدة ومن دون زجاج، على الرغم من أنه كان لا يزال واقفاً.
تلخّص مأساة هذه العائلة المحنة العصيبة التي يعيشها السكان المدنيون في شمال غزة. وسواء قرّروا البقاء أو الفرار، فإنهم يواجهون حملة عسكرية شرسة للغاية لدرجة أن الغزيين وجماعات حقوق الإنسان وبعض الخبراء الإقليميين أدانوها باعتبارها مسعىً متعمّداً لإخلاء الشمال من سكانه.
وفي هذا السياق، قال فولكر تورك، مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان: "إننا نواجه ما يمكن أن يرقى إلى مستوى الجرائم الوحشية، ومن المحتمل أن تتحوّل إلى جرائم ضد الإنسانية. فالسياسة التي تنتهجها الحكومة "الإسرائيلية" وممارساتها في شمال غزة تهدّد بتفريغ المنطقة من جميع الفلسطينيين".
ووفقاً لمسؤولي الصحة في غزة، أدّت غارتان عنيفتان خلال الأسبوعيين الماضيين إلى مقتل العشرات من الأشخاص، بينهم عدد من الأطفال الصغار.
ويشير الكثير من الغزّيين في الشمال، إلى أن العنف منتشر إلى حد يجعلهم يشعرون بعدم الوعي. فقد أصبحت عملية نقل الجرحى وانتشال الشهداء اليوم عملاً محفوفاً بالمخاطر، وبحسب الكثير من السكان والمسعفين، فإنهم غالباً ما يضطرون إلى ترك الجثث في الشوارع.
وفي هذا الإطار، قالت فاطمة حسين، وهي صحافية محلية بقيت في جباليا، لصحيفة "التايمز": "كلّ ما يتحرّك في الشارع يتمّ إطلاق النار عليه. هناك الكثير من الشهداء الذين لم يتمكّن المسعفون من الوصول إليهم، والجثث تملأ الشوارع. بعضها تحلّل والبعض الآخر تنهش لحمها القطط والكلاب. رائحة الموت تملأ شمال غزة بأكمله".
لقد لجأ الكثير من سكان غزة إلى الاحتماء في الأبنية المدرسية. ومع ذلك، فهم معرّضون لخطر الهجمات التي يشنّها "الجيش الإسرائيلي"، الذي يدّعي أنّ مقاتلي حماس يستخدمون المدارس في تنفيذ عملياتهم. وبحسب شهادات بعض سكان وسط غزة، هناك أشخاص ممن تمّ إجلاؤهم منعوا المجموعات المسلحة من الانتقال إلى هذه الملاجئ.
وبالنسبة للسيد نصر، فإنّ الهروب من مدينته المحاصرة لم يقلل من الشعور بالمعاناة. فقد فرّ هو وعائلته إلى مدينة غزة الآمنة نسبياً، حيث لا يزالون يسمعون باستمرار أصوات الغارات الجوية والدبابات وإطلاق النار أثناء فرارهم من مكان إلى آخر.
وقال إنه فقد خلال الأسابيع القليلة الماضية إخوته وابنتي أخيه، ولا تزال جثثهم محاصرة تحت الأنقاض. وأصيب ثلاث من بناته. ولولا وجود أبنائه، لما أراد الاستمرار في العيش. فهو كان يتمنى الموت مع إخوته، "لأن أولئك الذين يموتون هم أفضل حالاً".
* المادة نقلت حرفيا من موقع الميادين نت