لماذا لا يجرؤ الاحتلال على شنّ حرب شاملة؟
محمد الحسيني*
تطرح التصريحات الصادرة على لسان مسؤولين صهاينة حاليين وسابقين التي تحذر من نهاية وشيكة لـ""إسرائيل" الدولة والكيان والمجتمع"، الكثير من التساؤلات حول الخلفيات التي تدفع إلى إطلاق مثل هذه التصريحات، وهل تندرج في إطار العداوة السياسية أو الشخصية لبنيامين نتنياهو أم أنها تنم فعلًا عن واقع يقترب، أم أنها ترجمة لسياسة الاستجداء التي طالما اعتمدها مسؤولو العدوّ لإظهار الصهاينة في موقع الضحية والمعتدى عليهم، واتّخذوا مسوّغًا لاستدراج الدعم الغربي قبالة "المتوحشين العرب والمسلمين، أما أنها تعبّر عن خلاصة رؤى وأبحاث معمّقة وتقييم لتجارب مستندة إلى وقائع ميدانية فعلية تقود بنتيجتها إلى استشراف المصير المظلم.
مسار نتنياهو انتحاري
مهما كانت الخلفيات والدوافع، إلا أن الملفت هو المستوى الصاخب لهذه المواقف ومستوى مصادرها السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية التي تعلي الصوت بضرورة وقف المسار الانتحاري الذي يمضي به نتنياهو، حيث إن أكثر التقديرات تفاؤلًا حول تحديد المدى الزمني لبقاء ما يسمّى "دولة إسرائيل" لم تتجاوز الثلاث سنوات من الآن. ولا نتحدث هنا عن المقولات الدينية والتنبؤات التاريخية، بل عن أقلام وجهات وشخصيات شاركت وعاصرت المراحل التي نشأ فيها المشروع الصهيوني وتطوّر خلالها من عصابات إرهابية تمارس القتل والإجرام إلى كيان يكتسب طابع "الدولة" وصولًا إلى فرض الكيان "الإسرائيلي" الهجين طرفًا مقبولًا لدى المنظومة العربية والإسلامية وقابلًا للتعايش السلمي وإقامة العلاقات معه، دون إغفال الدعم الغربي اللامحدود خدمةً لمشروع الهيمنة والسيطرة. وأمام هذه المكتسبات ما هو مردّ الخوف من خطر الزوال في غضون سنوات قليلة؟!
جبهة غزّة والإسناد كشفا عجز العدو
أحدث المواقف في هذا السياق جاء من رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان في مقابلة مع صحيفة "معاريف" قال فيها إن "نتنياهو يقود "إسرائيل" إلى الدمار ولا يعرف إدارة أي شيء"، مؤكدًا أن ""إسرائيل" تواجه تهديدات وجودية متعدّدة، وتمر بأخطر أزمة متعدّدة الأبعاد - سياسية وأمنية واقتصادية - منذ إنشائها في العام 1948". ومعروف عن ليبرمان صهيونيته المتشدّدة وعداؤه المتأصل للعرب والمسلمين، وهو يتشارك في هذه الخلاصة مع غيره من المسؤولين الذين لا يقلّون صهونية عنه وعن نتنياهو مثل اللواء المتقاعد اسحاق بريك ورئيس المعارضة يائير لابيد وبيني غانتس وغيرهم. ولكن المسألة هنا لا تقف عند حدود مساجلة سياسية داخلية بل هي نابعة من واقع مغاير كشفته جبهتا غزّة ولبنان، ويفيد بأن "إسرائيل" ليست قدرًا محتومًا في المنطقة، وأن الفلسطيني كما اللبناني قادران على تحطيم قدراتها وكسر قوتها وتكبيدها الخسائر البشرية والمادية دون الحاجة إلى ترسانة هائلة من الذخائر وأسلحة التدمير، فكيف الحال و"طوفان الأقصى" قد وحّد قوى المحور في معركة ذات وجهة واحدة؟!
ما هي جوانب العجز "الإسرائيلي"؟
هذا على مستوى المشهد العام، أما في تفاصيل الأزمة فإن الحرب الدائرة التي دخلت شهرها العاشر والتي نجحت في استنزاف الكيان الصهيوني عسكريًا وبشريًا، كشفت جوانب كثيرة لحال العجز "الإسرائيلي" عن الاستمرار في خياراته الراهنة، وأهمها:
- أن جيش الاحتلال كسر عقدة القتال طويل الأمد، ولكنه بدأ يعاني من نقص في عدد الجنود الكافي أو المستعد لدخول حرب قد يطول أمدها أكثر، أو تفرض عليه تعديلًا في أسلوب القتال بحيث يصبح أمام معادلة جديدة يقحم فيها جنوده في حرب برّية ضدّ حزب الله في الشمال، مع ما لهذه الخطوة من عواقب وخيمة متعدّدة الأبعاد. ولعلّ أزمة الحكومة في رفض الحريديم التجنيد أوضح تجسيد لهذه الأزمة.
- نجح "طوفان الأقصى" و"جبهة الإسناد" في نقل المعركة إلى داخل أماكن سيطرة الاحتلال، فمن الشمال رسمت المقاومة الإسلامية حزامًا ناريًا حوّلت فيه المستوطنات إلى أماكن غير صالحة للعيش، فضلًا عن الخسائر الاقتصادية التي كبّدتها للعدو بهذا الأمر، فلم تعد هذه المنطقة مورد دعم اقتصادي للخزينة بل تحوّلت إلى عبء ثقيل مرجّح أن يتضاعف حتّى لو توقفت الحرب. أما في الجنوب فقد رسمت المقاومة الفلسطينية حزامًا ناريًا آخر حيث فرغت المستوطنات المنتشرة حول قطاع غزّة من قاطنيها، وهي المعروفة بأنها أكثر المناطق تحصينًا وتزويدًا بالإجراءات العسكرية والأمنية.
- أظهرت قوى المحور عجز العدوّ عن تأمين الحماية لكيانه، فلم يستطع منعها من دكّ الأهداف "الإسرائيلية" المحدّدة بحرًا وبرًّا وجوًّا، حيث أخفق الاستنفار الأميركي - الغربي في منع الصواريخ والمسيرات الإيرانية (بتاريخ 13 نيسان/أبريل) واليمنية والعراقية من الوصول إلى عمق الأراضي المحتلة والموانئ الصهيونية، وحوّل حزب الله مستوطنات الشمال إلى ساحة رماية فيما صواريخ المقاومة الفلسطينية تواصل قصف المستوطنات. فهل يستطيع هذا العدوّ شنّ حرب شاملة يواجه فيها خطر إبادة جيشه وكامل كيانه؟!
مفاجآت المقاومة
إن ما كشفته المقاومة لعمق الأزمة الصهيونية بات يطرح على المنظرين الاستراتيجيين للعدو مقاربة مختلفة للمقولات التاريخية التي لطالما أطلقها الصهاينة استنادًا إلى تعاليمهم التلمودية، فلم تعد ""إسرائيل" من الفرات إلى النيل" وتقزّمَ مشروع "الشرق الأوسط الكبير" إلى حدود "إسرائيل الصغرى". ولعلّ النقطة الأكثر إيلامًا في نتائج الحرب الجارية أن سلاح الجو "الإسرائيلي" الذي تم تأسيسه كذراع طويلة واستراتيجية، لم يعد قادرًا على تنفيذ مهامه الموكل بها، حيث لا يجرؤ العدوّ اليوم على تنفيذ أي ضربة "خارج الحدود"، وقادة العدوّ يعلمون أن هذا السلاح لن يعود فاعلًا في أي مواجهة برية شاملة مقبلة، فالمقاومة التي فاجأت العدوّ في حرب تموز 2006 تخبئ مفاجآت أعظم وأبعد مما يتوقّعه، برًّا وبحرًا وجوًّا وفي مختلف الميادين والساحات، من أول نقطة إلى آخر نقطة على أرض فلسطين المحتلة.
* المصدر : موقع العهد الاخباري
* المقال يعبر عن راي الكاتب